الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 221 ـ 230
(221)
أيمانكم وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
     ( قول آخر في الآية المحللة ) :
    قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2 : 264 ، والزمخشري في تفسيره 1 : 359 : عني عثمان بآية التحليل قوله عزوجل : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (1).
    وهذا إنما يتم بالتمسك بعموم ملك اليمين لكن الممعن في لحن القول يجد إنه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنه في مقام بيان ناموس العفة للمؤمنين بأن صاحبها يكون حافظا لفرجه إلا فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ولا ينافي هذا وجود شروط في كل منهما ، فإن العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة من الشريعة ، وإنما هي التي تضيق دائرة العموم وهي الناظرة عليه ، مثلا لا يقتضي هو إباحة وطي الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيام شهر رمضان وفي الاحرام والايلاء والظهار والمعتدة من وطئ بشبهة ، ولا إباحة وطي الأختين ولا وطئ الأمة ذات الزوج فإن هذه شرايط جاء بها الاسلام لا يخصصها أي شيء ، ولا يعارض أدلتها عموم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.
    ولو وسعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كل هذه أو نراها تعارض أدلتها ، ولنا عندئذ أن نقول في نكاح الأختين وفي بقية ما ورد في الكتاب مما ذكر : أحلته آية وحرمته آية.
    فقد استثنيا ( الزوجة وملك اليمين ) بنسق واحد وهذا مما لا يفوه به أي متفقه.
    وكذلك لو أخذ بعمومها في الرجال والنساء كما جوزه الجصاص لوجب أن نبيح للمرأة المالكة أن يطأها من تملكه ، وهذا لا يحل إجماعا من أئمة المذاهب.
    وقال ابن حزم في المحلى 9 : 524 : لا خلاف بين أحد من الأمة كلها قطعا متيقنا في أنه ليس على عمومه ، بل كلهم مجمع قطعا على أنه مخصوص ، لأنه لا خلاف ولا شك
1 ـ سورة المؤمنين آية 6.

(222)
في أن الغلام من ملك اليمين وهو حرام لا يحل ، وإن الأم من الرضاعة من ملك اليمين والأخت من الرضاعة من ملك اليمين ، وكلتاهما متفق على تحريمهما ، أو الأمة يملكها الرجل قد تزوجها أبوه ووطأها وولد منها حرام على الابن.
    وقال : ثم نظرنا في قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين.
    وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
    ولا تنكح المشركات حتى يؤمن.
    ولم يأت نص ولا إجماع على أنه مخصوص حاش زواج الكتابيات فقط ، فلا يحل تخصيص نص لا برهان على تخصيصه ، وإذ لا بد من تخصيص ما هذه صفتها أو تخصيص نص آخر لا خلاف في أنه مخصص ، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز غيره. ا هـ.
    وأما ما قيل (1) من أن الآية المحللة قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم.
    في ذيل آية عد المحرمات فباطل أيضا فإنه بمنزلة الاستثناء مما قبله من المحرمات ومنها الجمع بين الأختين ، وقد عرفت إن الأمة صحابيها وتابعيها وفقهائها مجمعة على عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأختين في الوطئ نكاحا وملك يمين ، ولم يفرقوا بينهما قط ، وهو الحجة ، على أن ملاك التحريم في النكاح وهو الوطي موجود في ملك اليمين فالحكم فيهما شرع سواء في المراد مما وراء ذلك هوما وراء المذكورات كلها من الأمهات والبنات إلى آخر ما فيها ، ومنها الجمع بين الأختين بقسميه.
    وعلى فرض الاغضاء عن كل هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين فإن دليل الحظر مقدم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين كما بينه علماء علم الأصول ونص عليه في هذه المسألة الجصاص في أحكام القرآن 2 : 158 ، والرازي في تفسيره 3 : 193.
    لكن عثمان كان لا يعرف كل هذا ، ولا أحاط بشيء من أسباب نزول الآيات فطفق يغلب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكل ، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلة الحرمة دفعا للضرر المحتمل ، وقد شذ بذلك عن جميع الأمة كما عرفت تفصيله ولم يوافقه على هذا الحسبان أي أحد إلا ما يعزى
1 ـ تفسير القرطبي 5 : 117 ، تفسير ابن كثير 1 : 474.

(223)
إلى ابن عباس بنقل مختلف فيه كما مر عن أبي عمر في الاستذكار.
    وفي كلا [ الخليفة شذوذ آخر وهو قوله : كل شيء حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع بالوطئ بملك اليمين.
    فهو باطل في الاستثناء والمستثنى منه ، أما الاستثناء فقد عرفت إطباق الكل على حرمة الجمع بين الأختين بالوطئ بملك اليمين معتضدا بالكتاب والسنة ، وأما المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه بالاتفاق من الأمة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.
    لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذة عن الكتاب وفقه الاسلام باب الشجار على الأمة بمصراعيه ، فإنها في الأغلب لا تفقد متابعا أو مجادلا قد ضلوا وأضلوا وهم لا يشعرون ، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يأبه بهم لم يزالوا مصرين على رأي الخليفة في هذه المسألة ، لكنهم شذاذ عن الطريقة المثلى ، قال القرطبي في تفسيره 5 : 117 : شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما يجوز الجمع بينهما في الملك ، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : حرمتهما آية وأحلتهما آية.
    ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين. ( البقرة 145 ).

ـ 24 ـ
رأي الخليفة في رد الأخوين الأم عن الثلث
    أخرج الطبري في تفسيره 4 : 188 من طريق شعبة عن ابن عباس : إنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس وإنما قال الله : فإن كان له إخوة.
    والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار وفي لفظ الحاكم والبيهقي : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.
    أخرجه الحاكم في المستدرك 4 : 335 وصححه ، والبيهقي في سنن الكبرى 6 : 227 ، وابن حزم في المحلى 9 : 258 ، وذكره الرازي في تفسيره 3 : 163 ، وابن


(224)
كثير في تفسيره 1 : 459 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 126 ، والآلوسي في روح المعاني 4 : 225.
    قال الأميني : ما أجاب به الخليفة ابن عباس ينم عن عدم تضلعه في العربية مع إنها لسان قومه ، ولو كان له قسط منها لأجاب ابن عباس بصحة إطلاق الجمع على الاثنين وإنه المطرد في كلام العرب ، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلهم العياذ بالله وما هو ببدع في ذلك عمن تقدماه يوم لم يعرفا معنى ( الأب ) وهو من صميم لغة الضاد ومشروح بما بعده في الذكر الحكيم ، فإن إطلاق الأخوة على الأخوين قد لهج به جمهور العرب ولذلك لا تجد أي خلاف في حجب الأخوين الأم عن الثلث إلى السدس بين الصحابة العرب الأقحاح ، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربية الفصحاء ، والفقهاء من مذاهب الاسلام ، ولا استناد لهم في الحكم إلا الآية الكريمة ، وما ذلك إلا لتجويزهم إطلاق الجمع على الاثنين سواء كان ذلك أقله أو توسعا مطردا في الإطلاق.
    قال الطبري في تفسيره 4 : 187 : قال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الاسلام في كل زمان : عني الله جل ثناؤه بقوله : فإن كان له إخوة فلامه السدس.
    اثنين كان الأخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كن إناثا ، أو ذكرين كانا أو ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى ، واعتل كثير ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل ثناؤه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده ( ثم نقل حديث ابن عباس المذكور فقال ) : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله : فإن كان له إخوة.
    اثنان من أخوة الميت فصاعدا على ما قاله أصحاب رسول الله دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنه (1) لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك.
    قال : فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين إخوة ؟ وقد علمت أن الأخوين في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال الأخوة في منطقها ؟ قيل : إن ذلك كان كذلك فإن من شأنها التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما فلما كان ذلك
1 ـ سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عباس.

(225)
كذلك وكان مستفيضا في منطقها ، منتشرا مستعملا في كلامها : ضربت من عبد الله وعمرو رؤسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما ، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال : أوجعت منهما ظهرهما ، وإن كان مقولا أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق :
بما في فؤادينا من الشوق والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشغف
    غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جل ثناؤه : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.
    فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الانسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها ، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناها معنى ما كان في الانسان من أعضائه واحدا لا ثاني له ، فأخرج أنثييهما بلفظ أنثي العضوين اللذين وصفت ، فقيل : إخوة.
    في معنى الأخوين ، كما قيل : ظهور.
    في معنى الظهرين ، وأفواه في معنى فموين ، وقلوب في معنى قلبين.
    وقد قال بعض النحويين إنما قيل : إخوة ، لأن أقل الجمع اثنان .. الخ.
    وأخرج الحاكم بإسناد صححه في المستدرك 4 : 335 ، والبيهقي في السنن 6 : 227 عن زيد بن ثابت إنه كان يحجب الأم بالأخوين فقال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة. وذكره الجصاص في أحكام القرآن 2 : 99.
    وأخرج ابن جرير في تفسيره 4 : 189 وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : فإن كان له إخوة فلامه السدس.
    قال : أضروا بالأم ، ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك.
     ( الدر المنثور 2 : 126 ) وذكر الجصاص في أحكام القرآن 2 : 98 قول الصحابة بحجب الأخوين الأم عن الثلث كالأخوة فقال : والحجة : إن اسم الأخوة قد يقع على الاثنين كما قال تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.
    وهما قلبان.
    وقال تعالى : هل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب.
    ثم قال تعالى : خصمان بغى بعضنا على بعض.
    فأطلق لفظ الجمع على اثنين.
    وقال تعالى : وإن كانوا إخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين.
    فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما .. الخ (1).
1 ـ بقية كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصاص أحد أئمة الحنفية.

(226)
    قال مالك في الموطأ 1 : 331 : فإن كان له إخوة فلامه السدس فمضت السنة أن الأخوة اثنان فصاعدا.
    وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك 2 : 122 : فإن كان معها أي الأم ولد أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأخوة ومن الأخوات فلها السدس لقوله تعالى : فإن كان له إخوة فلامه السدس.
    والمراد بهم اثنان فأكثر إجماعا (1).
    وقال الشافعي كما في مختصر المزني هامش كتاب الأم 3 : 140 : وللأم الثلث فإن كان للميت ولد أو ولد ولد أو اثنان من الأخوة أو الأخوات فصاعدا فلها السدس.
    وقال ابن كثير في تفسيره 1 : 459 : حكم الأخوين كحكم الأخوة عند الجمهور ثم ذكر حديث زيد بن ثابت من إن أخوين تسمي إخوة.
    وقال الشوكاني في تفسيره 1 : 398 : قد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الأخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى السدس.
    هذا رأي الأمة في الأخوة فقد عزب عن الخليفة صحة الإطلاق في الآية الكريمة في لسان قومه ، وإن السلف لم يعرف من الأخوة معنى إلا ما يعم الأخوين وزعم أن من كان قبله شذوا عن لسان قومه ، وذهبوا إلى حجب الأم بالأخوين خلاف كتاب الله ، وجاء يأسف على أنه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس ، هذا مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلة الأحكام والفروض المسلمة بين الأمة.
    وأما ابن عباس فإنه لم يشذ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد ، وإنما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرف الملأ مقداره من أبسط شيء يجب أن يكون في مثله فضلا عن معضلات المسائل وهو الحيطة باللغة وعرفان موارد الاستعمال حتى يتسنى له أخذ الحكم من الكتاب والسنة اللذين جاءا بهذه اللغة الكريمة ، ولذلك أتى في قوله بصورة الاستفهام عن مدرك الحكم لاعن أصله ، فإن الحكم كان مسلما عنده لا أن ما قاله للخليفة كان رأيا له في الخلاف في حجب الأخوين ، وإلا لتبعه أصحابه المقتصين أثره ، لكنهم كلهم موافقون للأمة وعلمائها
1 ـ هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمتهم.

(227)
في حجب الأخوين كما ذكره ابن كثير في تفسيره 1 : 459 فعد ابن عباس مخالفا في المسألة بهذه الرواية كما فعله الطبري في تفسيره 4 : 188 ، وابن رشد في البداية 2 : 327 وغير واحد من الفقهاء وأئمة الحديث ورجال التفسير أغلوطة نشأت من عدم فهم مغزى كلامه.

ـ 25 ـ
رأي الخليفة في المعترفة بالزنا
    عن يحيى بن حاطب قال : توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال : لأنت الرجل لا تأتي بخير ، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال : أحبلت ؟ فقالت : نعم من مرعوش بدرهمين.
    فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه قال : وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال : أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد.
    فقال : أشر علي يا عثمان ! فقال : قد أشار عليك أخواك ، قال : أشر علي أنت.
    قال : أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فقال : صدقت صدقت والذي نفسي بيده ، ما الحد إلا على من علمه. فجلدها عمر مائة وغربها عاما.
    قال الأميني : أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس (1) وتكلمنا هنالك حول رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجلد والاغتراب وإنه خارج عن نطاق الشرع ، وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحد.
    ولو كان ما يقوله الخليفة حقا لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد فيقال في كلها إنه لا يعلم الحد ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحد بالاقرار ولو بعد استبراء الخبر والتريث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة يدرأ بها الحد فكان صلى الله عليه وآله يقول للمعترف بالزنا : أبك جنون ؟ (2) أو يقول : لعلك قبلت
1 ـ صفحة 161 ط 1 ، و 174 ط 2.
2 ـ كما في صحيح أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في السنن 8 : 225.


(228)
أو غمزت أو نظرت ؟ (1) وكذلك مولا نا أمير المؤمنين علي وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والرد لشبهة في الاقرار ، لكنهما بعد ثبات المعترف على ما قال كانا يجريان عليه الحد ، ألا ترى قول عمر للزانية : ما يبكيك ؟ إن المرأة ربما استكرهت على نفسها.
    فأخبرت إن رجلا ركبها وهي نائمة فخلى سبيلها ، وإن عليا عليه السلام قال لشراحة حين أقرت بالزنا : لعلك عصيت نفسك ؟ قالت : أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها (2) ولعل من جراء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة إن الحدود تدرأ بالشبهات ، والحدود تدفع ما وجد لها مدفع ، غير أنه لم يدر أن للإقرار ناموسا في الشريعة لا يعدوه ولا سيما في مورد الزنا فإنه يؤاخذ به المعترف في أول مرة كما تعطيه قصة العسيف الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ، أو بعد أربع أقارير إما في مجلس واحد كما ورد في قصة الماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين ، أوفي عدة مجالس كما يظهر من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي 8 : 228 ، فتقوم تلكم الأقارير مقام أربع شهادات ، كما وقع في سارق جاء إلى علي فقال : إني سرقت ، فرده فقال : إني سرقت.
    فقال : شهدت على نفسك مرتين فقطعه (3).
    وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة كما بيناه ، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمة المذاهب قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2 : 429 : أما عدد الاقرار الذي يجب به الحد فإن مالكا (4) والشافعي (5) يقولان يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة وبه قال داود وأبو ثور الطبري وجماعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى : لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة ، وبه قال أحمد واسحاق ، وزاد أبو حنيفة وأصحابه في مجالس متفرقة.
1 ـ كما في حديث ماعز وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدمهم البخاري في صحيحه 10 : 39.
2 ـ أخرجهما الجصاص في أحكام القرآن 3 : 325.
3 ـ كنز العمال 3 : 117 نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي.
4 ـ ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطأ والمدونة الكبرى.
5 ـ يوجد تفصيل قوله في كتابه الأم 7 : 169.


(229)
    ثم ماذا يعني الخليفة بقوله : أراها تستهل به كأنها لا تعلمه ، وليس الحد إلا على من علمه ؟ هل يريد جهلها بالحد أو بحرمة الزنا ؟ أما العلم بثبوت الحد فليس له أي صلة بإجراء حكم الله فإنه يتبع تحقق الزنا في الخارج علم الزاني أو الزانية بترتب الحد عليهما أم لم يعلما.
    على إنه ليس من الممكن في عاصمة النبوة أن يجهل ذلك أي أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلودا تنال منه السياط ، ومرجوما تتقاذفه الأحجار.
    وأما حرمة الزنا فلا يقبل من المتعذر بالجهل بها إلا حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلامية ، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعد ، وأما المدني يومئذ الكائن بين لوائح النبوة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء ، وهو يعي كل حين التشديد في الزنا وحرمته ، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جراء حرمة السفاح ، فعقيرة ترتفع من ألم السياط ، وجنازة تشال بعد الرجم ، فليس من الممكن في حقه عادة أن يجهل حرمة الزنا فلا تقبل منه دعواه الجهل ، ولعل هذا مما اتفقت عليه أئمة المذاهب ، قال مالك في المدونة الكبرى 4 : 382 في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه : لا حد عليه وينكل إذا كان ممن لا يعذر بالجهالة.
    وقال فيمن يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول : ظننت أن الواحدة لا تبينها مني وإنه لا يبرأها مني إلا الثلاث : قال ابن القاسم : ليس عليه الحد إن عذر بالجهالة ، فأرى في مسألتك إن كان ممن يعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحد لأن مالكا قال في الرجل يتزوج الخامسة : إن كان ممن يعذر بالجهالة وممن يظن إنه لم يعرف أن ما بعد الأربع ليس مما حرم الله ، أو يتزوج أخته من الرضاع على هذا الوجه ، فإن مالكا درأ عنه الحد وعن هؤلاء.
    وفي ص 401 : من وطئ جارية هي عنده رهن إنه يقام عليه الحد ، قال ابن ـ القاسم : ولا يعذر في هذا أحد ادعى الجهالة.
    قال مالك : حديث التي قالت زينب بمرعوش بدرهمين (1) إنه لا يؤخذ به.
    وقال مالك : أرى أن يقام الحد ولا يعذر العجم بالجهالة.
1 ـ يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عما فيه.

(230)
    وقال الشافعي في كتاب الأم 7 : 169 في زناء الرجل بجارية امرأته : إن زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة ويقول : كنت أرى أنها لي حلال.
    قال شهاب الدين أبو العباس ابن النقيب المصري في عمدة السالك : ومن زنى و قال : لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالاسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحد ، وإن لم يكن كذلك حد (1).
    ولو قبل من كل متعذر بالجهالة لعطلت حدود الله ، وتترس به كل زان و زانية ، وشاع الفساد ، وساد الهرج ، وارتفع الأمن على الفروج والنواميس ، ولو راجعت ما جاء في مدافعة النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحد تراهم يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شابه ذلك ، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شيء من الروايات ، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحد لذكروه لا محالة من غير شك.
    على أن الجهل حيث يسمع يجب أن يكون بادعاء من الرجل لا بالتوسم من وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة وهو ظاهر كلمات الفقهاء المذكورة.
    ولما قلناه كله لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال ، فأخذها مولانا أمير المؤمنين وعبد الرحمن فقالا : قد وقع عليها الحد.
    وأما عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان ؟ صدقت .. إلخ.
    وفعله من إجراء الجلد والاغتراب إنه هزأ بهذا القول ، ولو كان مصدقا لما جلدها لكنه جلدها وهي تستحق الرجم كما مر في الجزء السادس.

ـ 26 ـ
شراء الخليفة صدقة رسول الله
    أخرج الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب قال : كان لعثمان آذن فكان يخرج بين يديه إلى الصلاة قال : فخرج يوما فصلى والآذن بين يديه ثم جاء فجلس الآذن ناحية ولف ردائه فوضعه تحت رأسه واضطجع ووضع الدرة بين يديه ، فأقبل علي في إزار ورداء وبيده عصا ، فلما رآه الآذن من بعيد قال : هذا علي قد أقبل.
1 ـ راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك 2 ، 312.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس