الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 231 ـ 240
(231)
فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه فجاء حتى قام على رأسه فقال : اشتريت ضيعة آل فلان و لوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائها حق ، أما إني قد علمت إنه لا يشتريها غيرك.
    فقام عثمان وجرى بينهما كلام حتى ألقى الله عزوجل وجاء العباس فدخل بينهما ، ورفع عثمان على علي الدرة ورفع علي على عثمان العصا ، فجعل العباس يسكنهما ويقول لعلي : أمير المؤمنين.
    ويقول لعثمان : ابن عمك. فلم يزل حتى سكتا.
    فلما أن كان من الغد رأيتهما وكل منهما آخذ بيد صاحبه وهما يتحدثان. مجمع الزوائد 7 : 227.
    قال الأميني : يعلمنا الحديث إن الخليفة ابتاع الضيعة ومائها وفيه حق لوقف رسول الله لا يجوز ابتياعه ، فإن كان يعلم بذلك ؟ وهو المستفاد من سياق الحديث حيث إنه لم يعتذر بعدم العلم ، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام عليه السلام : وقد علمت أنه لا يشتريها غيرك.
    فأي مبرر استساغ ذلك الشراء ؟ وإن كان لا يعلم ؟ فقد أعلمه الإمام عليه السلام فما هذه المماراة والتلاحي ورفع الدرة ؟ الذي اضطر الإمام إلى رفع العصا ، حتى فصل بينهما العباس ، أوفي الحق مغضبة ؟ وهل يكون تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل مجلبة لغضب الانسان ، الديني ؟ فضلا عمن يقله أكبر منصة في الاسلام.
    وأحسب إن ذيل الرواية ملصق بها لإصلاح ما فيها ، وعلى فرض صحته فإنه لا يجديهم نفعا ، فإن الإمام عليه السلام لم يأل جهدا في النهي عن المنكر سواء ارتدع فاعله أو إنه عليه السلام يأس من خضوعه للحق ، وعلى كل فإنه عليه السلام كان يماشيهم على ولاء الاسلام ولا يثيره إلا الحق إذا لم يعمل به ، فيجري في كل ساعة على حكمها من مكاشفة أو ملاينة ، وهكذا فليكن المصلح المنزه عن الأغراض الشخصية الذي يغضب لله وحده ويدعو إلى الحق للحق.

ـ 27 ـ
الخليفة في ليلة وفاة أم كلثوم
    أخرج البخاري في صحيحه في الجنائز باب يعذب الميت ببكاء أهله.
    وباب من يدخل قبر المرأة ج 2 : 225 ، 244 بالإسناد من طريق فليح بن سليما عن أنس بن مالك قال : شهدنا بنت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت
1 ـ الصحيح عند شراح الحديث إنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان ، وجاء في لفظ أحمد وغيره إنها رقية. وعقبه السهيلي وقال : هو وهم بلا شك. راجع الروض الآنف 2 : 107 ، فتح الباري 3 : 122 ، عمدة القاري 4 : 85.

(232)
عينيه تدمعان فقال : هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ فقال أبو طلحة ( زيد بن سهل الأنصاري ) : أنا ، قال : فأنزل في قبرها. قال : فنزل في قبرها فقبرها.
    قال ابن مبارك : قال فليح : أراه يعني الذنب.
    قال أبو عبد الله ( يعني البخاري نفسه ) : ليقترفوا ليكتسبوا (1) وفي مسند أحمد : قال سريج : يعني ذنبا.
    وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8 : 31 ط ليدن ، وأحمد في مسنده 3 : 126 ، 228 ، 229 ، 270 ، والحاكم في المستدرك 4 : 47 ، والبيهقي في السنن الكبرى 4 : 53 من طريقين ، وذكره السهيلي في الروض الأنف 2 : 107 نقلا عن تاريخ البخاري وصحيحه وعن الطبري فقال : قال ابن بطال : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها وفقد منها علقا لا عوض منه لأنه حين قال عليه السلام : أيكم لم يقارف الليلة أهله.
    سكت عثمان ولم يقل أنا لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ولم يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره ، وهذا بين في معنى الحديث ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنه فعل فعلا حلالا غير إن المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم.
    ويوجد الحديث في نهاية ابن الأثير 3 : 276 ، لسان العرب 11 : 189 ، الإصابة 4 : 489 ، تاج العروس 6 : 220.
    قال الأميني : إضطربت كلمات العلماء حول هذا الحديث غير إن فليحا المتوفي سنة 163 ، الذي فسر المقارفة بالذنب ، وأيد البخاري كلامه بقوله : ليقترفوا ليكتسبوا وسريجا المتوفى سنة 217 هم أقدم من تكلم فيه ، وقال الخطابي (2) : معناه لم يذنب (3) وجاء ابن بطال (4) وخصه بمقارفة النساء ، وجمع بينهما العيني (5) ، وأيا ما كان
1 ـ إيعاز إلى قوله تعالى : وليقترفوا ما هم مقترفون. كما في فتح الباري 3 : 163 ، وفي قوله تعالى : إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون.
2 ـ أبو سليمان حمد بن محمد البستي صاحب التآليف القيمة المتوفى 388.
3 ـ ذكره العيني في عمدة القاري 4 : 85.
4 ـ ذكر كلامه السهيلي في الروض الأنف 2 : 107 كما مر بلفظه.
5 ـ عمدة القاري 4 : 85.


(233)
فلا شك في إنه أمر استحق من جرائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولى الناس بها ، والمسلمون كلهم كانوا يعلمون ذلك ، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الستر على المؤمنين والاغضاء عن العيوب ، الناهي عن إشاعة الفحشاء في كتابه الكريم ، والمانع عن التجسس عما يقع في الخلوات ، المبعوث لإعزاز أهل الدين ، شاء وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أن يستثني موردا واحدا تلوح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه بصهر رسول الله صلى الله عليه وآله وواسطة مفخره بهاتيك الصلة ، فعرف المسلمون ذلك المقتضي بالطبع الأول وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها ، فإن كان ذنبا أثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حط من رتبته بما قلناه ؟ ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تسترها ، لكنها بلغت من الكبر حدا لم ير صلى الله عليه وآله سترها ، ولا رعى حرمة ولا كرامة لمقترفها ، فإن كانت سيئة هذا شأنها ؟ فلا خير فيمن يجترح السيئآت.
    وإن أريدت مقارفة النساء على الوجه المحلل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاطة ولغلظة فأي إنسان تحبذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرم مجده ، وانقطاع فخره ، وانفصام عرى شرفه ، فكيف هان ذلك على الخليفة ؟ فلم يراع حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله واستهانت تلك المصيبة العظيمة فتلذذ بالرفث إلى جارية (1) والمطلوب من الخلفاء معرفة فوق هذه من أول يومهم ، ورأفة أربى مما وقع ، ورقة تنيف على ما صدر منه ، وحياء يفضل على ما ناء به.
    ومن العسير جدا الخضوع للاعتقاد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله ارتكب ذلك الهتك والاهانة على أمر مباح مع رأفته الموصوفة على أفراد الأمة وإغراقه نزعا في الستر عليهم ، وكيف في حق رجل يعلم صلى الله عليه وآله إنه سيشغل منصة الخلافة.
    هذا ما عندنا وأما أنت فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
    أيحكم ضميرك الحر عندئذ في رجل هذا شأنه وهذه سيرته مع كريمة رسول الله صلى الله عليه وآله بصحة ما أخرجه ابن سعد في طبقاته 3 : 38 من القول المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم قارف الرجل ، يوم سمع من النبي الأعظم تلك القارصة : لو كان عندي ثالثة
1 ـ كما في عمدة قاري 4 : 85.

(234)
زوجتهما عثمان ، قاله لما ماتت أم كلثوم. كذا قال ابن سعد.
    أو قوله : لو كن ( يعني بناته ) عشرا لزوجتهن عثمان (1) أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر : لو إن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة (2).
    أو قوله فيما جاء به ابن عساكر (3) من طريق أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال : يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني إن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها.
    أكانت مصاحبة عثمان هذه أم كلثوم لدة مصاحبتها رقية وكانت مرضية للمولى سبحانه ؟ أو ترى عثمان متخلفا عن شرط الله في أم كلثوم ؟ أنا لا أدري.
    على أن إسناد هذا الحديث معلول من جهات ، وكفاه علة عبد الرحمن بن أبي الزناد القرشي وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن أبي شيبة وعمرو بن علي والساجي وابن سعد ، وقال ابن معين والنسائي : لا يحتج بحديثه (4) 28 إتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه لقد جعل الاسلام منابت العشب من مساقط الغيث والمروج كلها شرعا سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص كما هو الأصل في المباحات الأصلية من أجواز الفلوات وأطراف البراري ، فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أي مزاحمة بينهم ، وليس لأي أحد أن يحمى لنفسه حمى فيمنع الناس عنه ، فقال صلى الله عليه وآله : المسلمون شركاء في ثلاث : في الكلأ والماء والنار.
    وقال : ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار.
    وقال : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ.
    وفي لفظ : لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ.
    وفي لفظ : من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم
1 ـ طبقات ابن سعد ط ليدن 8 : 25.
2 ـ تاريخ ابن كثير 7 : 212 وقال : إسناد ضعيف ، أخبار الدول للقرماني ص 98.
3 ـ راجع تاريخ ابن كثير 7 : 211.
4 ـ تهذيب التهذيب 6 : 171.


(235)
القيامة (1) نعم كان في الجاهلية يحمي الشريف منهم ما يروقه من قطع الأرض لمواشيه وإبله خاصة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم ، وكان هذا من مظاهر التجبر السائد عندئذ ، فاكتسح رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت و تقاليد الجبابرة فقال صلى الله عليه وآله : لا حمى إلا لله ولرسوله (2) وقال الشافعي في تفسير الحديث : كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله.
    قال : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون.
    قال : وقوله : إلا لله ولرسوله.
    يقول : إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع (3) لنعم الصدقة و الخيل المعدة في سبيل الله (4).
    واستعمل عمر على الحمى مولى له يقال له هنى فقال له : يا هنى ضم جناحك للناس ، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة ، وادخل رب الصريمة ورب الغنيمة ، وإياي ونعم ابن عفان (5) ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول : يا أمير المؤمنين ! أفتاركهم أنا ؟ لا أبا لك .. الخ (6) ، كان هذا الناموس متسالما عليه بين المسلمين حتى تقلد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة كما في أنساب البلاذري 5 : 37 ، والسيرة الحلبية 2 : 87 ، أو له و لحكم ابن أبي العاص كما في رواية الواقدي ، أو لهما ولبني أمية كلهم كما في شرح
1 ـ توجد هذه الأحاديث في صحيح البخاري 3 : 110 ، الأموال لأبي عبيد ص 296 ، سنن أبي داود 2 : 101 ، سنن ابن ماجة 2 : 94.
2 ـ صحيح البخاري 3 : 113 ، الأموال لأبي عبيد ص 294 ، كتاب الأم للشافعي 3 : 207 ، وفي الأخيرين تفصيل ضاف حول المسألة.
3 ـ على عشرين فرسخا أو نحو ذلك من المدينة ( معجم البلدان ).
4 ـ راجع كتاب الأم 3 : 208 ، معجم البلدان 3 : 347 ، نهاية ابن الأثير 1 : 297 ، لسان العرب 18 : 217 ، تاج العروس 10 : 99.
5 ـ في لفظ أبي عبيد : ودعني من نعم ابن عفان. بدل ( وإياي ونعم ابن عفان ).
6 ـ صحيح البخاري 4 : 71 ، الأموال لأبي عبيد ص 298 ، كتاب الأم 3 : 271.


(236)
ابن أبي الحديد 1 : 67 قال : حمى ( عثمان ) المرعى حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية.
    وحكى في ص 235 عن الواقدي أنه قال : كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع ، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية حتى كان آخر الزمان ، فكان يحمي الشرف (1) لإبله : وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص ، ويحمي الربذة (2) لإبل الصدقة ، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله و خيل بني أمية.
    نقم ذلك المسلمون على الخليفة فيما نقموه عليه وعدته عائشة مما أنكروه عليه فقالت : وإنا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة (3) وضربه بالسوط والعصا ، فعمدوا إليه حتى إذا ماصوه كما يماص الثوب (4).
    قال ابن منظور في ذيل الحديث : الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلأ إذا لم يكن مملوكا فلذلك عتبوا عليه.
    كانت في اتخاذ الخليفة الحمى جدة وإعادة لعادات الجاهلية الأولى التي أزاحها نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وجعل المسلمين في الكلأ مشتركين ، وقال : ثلاثة يبغضهم الله.
    وعد فيهم ! من استن في الاسلام سنة الجاهلية (5) وكان حقا على الرجل أن يحمي حمى الاسلام قبل حمى الكلأ ، ويتخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله سنة متبعة ولا يحيي سنة الجاهلية ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكنه ...

ـ 39 ـ
قطع الخليفة فدك لمروان
    عد ابن قتيبة في المعارف ص 84 ، وأبو الفدا في تاريخه 1 : 168 مما نقم الناس على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله ، فقال أبو الفدا : وأقطع مروان
1 ـ كذا نجد. عند البخاري بالسين المهملة. وفي موطأ ابن وهب : الشرف. بالشين المعجمة وفتح الراء وهذا الصواب ( معجم البلدان ).
2 ـ الربذة في الشرف ( المذكورة ) هي الحمى الأيمن.
3 ـ يسمى العشب بالغمامة كما يسمى بالسماء. المحماة من أحميت المكان فهو محمى. أي جعلته حمى. ( الفائق للزمخشري ).
4 ـ راجع الفائق للزمخشري 2 : 117 ، نهاية ابن الأثير 1 : 298 ، ج 4 : 121 ، لسان العرب 8 : 363 : ج 18 : 217 ، تاج العروس 10 : 99.
5 ـ بهجة النفوس للحافظ الأزدي ابن أبي جمرة 4 : 7 19.


(237)
ابن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثا فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه ، ولم تزل فدك في يد مروان وبنية إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردها صدقة وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 6 : 301 من طريق المغيرة حديثا في فدك وفيه : إنها أقطعها مروان لما مضى عمر لسبيله.
    فقال : قال الشيخ : إنما أقطع مروان فدكا في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وكأنه تأول في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده ، وكان مستغنيا عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم ، وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك التولية وقطع جريان الإرث فيه ، ثم تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان.
    وفي العقد الفريد 2 : 261 في عد ما نقم الناس على عثمان : إنه أقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتتح افريقية وأخذ خمسه فوهبه لمروان.
    وقال ابن الحديد في شرحه 1 : 67 : وأقطع عثمان مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها.
    قال الأميني : أنا لا أعرف كنه هذا الاقطاع وحقيقة هذا العمل فإن فدك إن كان فئ للمسلمين ؟ كما ادعاه أبو بكر ، فما وجه تخصيصه بمروان ؟ وإن كان ميراثا لآل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ كما احتجت له الصديقة الطاهرة في خطبتها ، واحتج له أئمة الهدى من العترة الطاهرة وفي مقدمهم سيدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم السلام ، فليس مروان منهم ، ولا كان للخليفة فيه رفع ووضع.
    وإن كان نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها ؟ كما ادعته وشهد لها أمير المؤمنين وإبناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردت شهادتهم بما لا يرضي الله ولا رسوله ، وإذا ردت شهادة أهل آية التطهير فبأي شيء يعتمد ؟ وعلى أي حجة يعول ؟.
إن دام هذا ولم يحدث به غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود


(238)
    فإن كان فدك نحلة ؟ فأي مساس بها مروان ؟ وأي سلطة عليها لعثمان ؟ حتى يقطعها لأحد.
    ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من أهل البيت عليهم السلام ، وردها عمر إليهم ، وأقطعها عثمان لمروان ، ثم كان فيها ما كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلم جرا فكانت تؤخذ وتعطى ، ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات كما فصلناه في الجزء السابع ص 195 719 ط 3 ولم يعمل برواية أبي بكر في عصر من العصور ، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحابوه وجاملوه ؟ فقد أبطله من جاء بعده بأعمالهم وتقلباتهم فيها بأنحاء مختلفة.
    بل إن أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصك للزهراء فاطمة غير أن ابن الخطاب منعه وخرق الكتاب كما مر في الجزء السابع عن السيرة الحلبية ، وبذلك كله تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الاقطاع ، وسيوافيك قول مولانا أمير المؤمنين في قطائع عثمان.

ـ 30 ـ
رأي الخليفة في الأموال والصدقات
    لم تكن فدك ببدع من ساير الأموال من الفئ والغنائم والصدقات عند الخليفة بل كان له رأي حر فيها وفي مستحقيها ، كان يرى المال مال الله ، ويحسب نفسه ولي المسلمين ، فيضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد ، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع (1).
    كان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم ، ولكل فرد من الملأ الديني منه حق معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ في شرعة الحق وناموس الاسلام المقدس حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.
    جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الغنائم : لله خمسه وأربعة أخماس للجيش ، وما أحد أولى به من أحد ، ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم (2).
1 ـ نهج البلاغة 1 : 35.
2 ـ سنن البيهقي 6 : 324 ، 336.


(239)
    وكان صلى الله عليه وآله إذا جاءه فئ قسمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظين ، وأعطى العزب حظاً (1).
    والسنة الثابتة في الصدقات إن أهل كل بيئة أحق بصدقتهم ما دام فيهم ذو حاجة ، وليست الولاية على الصدقات للجباية وهملها إلى عاصمة الخلافة وإنما هي للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالها ، وقد ورد في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله معاذا حين بعثه إلى اليمن يدعوهم إلى الاسلام والصلاة أنه قال : فإذا أقروا لك بذلك فقل لهم : إن الله قد فرض عليكم صدقة أموالكم تؤخذ من أغنيائكم فترد في فقرائكم (2) قال عمرو بن شعيب : إن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال : لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم.
    فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني. الحديث (3).
    ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العباس يوم كان عامله على مكة : ( وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا ) نهج البلاغة 2 : 128.
    وقال عليه السلام لعبد الله بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا : ( إن هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنما هو فئ للمسلمين وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم ، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم. ) نهج البلاغة 1 : 461.
    ومن كلام له عليه السلام : ( إن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وآله والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفي الفرائض ، والفئ فقسمه على مستحقيه ، و
1 ـ سنن أبي داود 2 : 25 ، مسند أحمد 6 : 29 ، سنن البيهقي 6 : 346.
2 ـ صحيح بخاري 3 : 215 ، الأموال لأبي عبيد ص 580 ، 595 ، 612 ، المحلى 6 : 146.
3 ـ الأموال ص 596.


(240)
والخمس فوضعه الله حيث وضعه ، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. ) راجع ما أسلفناه في ج 6 : 77 ط 2.
    وأتى عليا أمير المؤمنين مال من أصبهان فقسمه بسبعة أسباع ففضل رغيف فكسره بسبع فوضع على كل جزء كسرة ثم أقرع بين الناس أيهم يأخذ أول (1).
    وأتته عليه السلام امرأتان تسألانه عربية ومولاة لها فأمر لكل واحد منها بكر من طعام وأربعين درهما أربعين درهما ، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت ، وقالت العربية يا أمير المؤمنين ! تعطني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة ؟ قال لها علي رضي الله عنه : إني نظرت في كتاب الله عزوجل فلم أر فيه فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق (2).
    ولذلك كله كانت الصحابة لا ترتضي من الخليفة الثاني تقديمه بعضا من الناس على بعض في الأموال بمزية معتبرة كان يعتبرها فيمن فضله على غيره كتقديم زوجات النبي صلى الله عليه وآله أمهات المؤمنين على غيرهن ، والبدري على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والمجاهدين على القاعدين ، من دون حرمان أي أحد منهم (3) ، وكان يقول على صهوات المنبر : من أراد المال فليأتني فإن الله جعلني له خازنا (4).
    ويقول بعد قراءة آيات الأموال : والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع حتى راع بعدن (5).
    ويقول أبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله ثم الأقرب فالأقرب إليه. فوضع الديوان على ذلك.
    وفي لفظ أبي عبيد : إن رسول الله إمامنا فبرهطه نبدأ ، ثم بالأقرب فالأقرب (6).
1 ـ سنن البيهقي 6 : 348.
2 ـ سنن البيهقي 6 : 349.
3 ـ الأموال لأبي عبيد ص 224 227 ، فتوح البلدان للبلاذري ص 453 416 ، سنن البيهقي 6 : 349 ، 350 ، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 79 83.
4 ـ راجع ج 6 من كتابنا هذا 92 ط 2.
5 ـ الأموال ص 213 ، سنن البيهقي 6 : 351.
6 ـ الأموال 224 ، سنن البيهقي 6 : 364.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس