الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 261 ـ 270
(261)
المؤمنين : أو لم يبايعني قبل قتل عثمان ؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كف يهودية لو بايعني بيده لغدر بسبته ، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة (1) وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر ( نهج البلاغة ).
    قال ابن أبي الحديد في الشرح 2 : 53 : قد روي هذا الخبر من طريق كثيرة ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب ( نهج البلاغة ) وهي قوله عليه السلام في مروان : يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإن له إمرة .. الخ.
    هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقاته 5 : 30 ط ليدن قال : قال علي بن أبي طالب يوما ونظر إليه : ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، وله إمرة كلحسة الكلب أنفه.
    وهذا الحديث كما ترى غير ما في ( نهج البلاغة ) وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه ، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط أيضا في تذكرته ص 45. والله العالم.
    قال البلاذري في الأنساب 5 : 126 : كان مروان يلقب خيط باطل لدقته وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يرى في الشمس ، فقال الشاعر ويقال : إنه عبد الرحمن بن الحكم أخوه :
لعمرك ما أدري وإني لسائل لحى الله قوما أمروا خيط باطل حليلة مضروب القفا كيف يصنع (2) على الناس يعطي ما يشاء ويمنع (3)
    وذكر البلاذري في الأنساب 5 : 144 في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله :
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل ومثلكم يبني البيوت على الغدر
    وذكر ابن أبي الحديد في شرحه 2 : 55 لعبد الرحمن بن الحكم في أخيه قوله :
1 ـ هم بنو عبد الملك : الوليد. سليمان. يزيد. هشام. كذا فسره الناس وعند ابن أبي الحديد هم أولاد مروان : عبد الملك. بشر. محمد. عبد العزيز.
2 ـ أشار بقوله : مضروب القفا إلى ما وقع يوم الدار ، فإن مروان ضرب يوم ذاك على قفاه كما يأتي حديثه في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.
3 ـ ورواهما وما قبلهما ابن الأثير في أسد الغابة 4 : 348.


(262)
وهبت نصيبي منك يا مرو كله ورب ابن أم زائد غير ناقص لعمرو ومروان الطويل وخالد وأنت ابن أم ناقص غير زائد
    ومن شعر مالك الريب ( المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة ) يهجو مروان قوله :
لعمرك ما مروان يقضي أمورنا فياليتها كانت علينا أميرة ولكن ما تقضي لنا بنت جعفر (1) وليتك يا مروان أمسيت ذاحر
    وروى الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 72 من طريق أبي يحيى قال : كنت بين الحسن والحسين ومروان يتسابان فجعل الحسن يسكت الحسين فقال مروان : أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال : قلت أهل بيت ملعونون. فوالله لقد لعنك الله وأنت في صلب أبيك.
    أخرجه الطبراني وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 : 90 نقلا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر.
    إن الذي يستشفه المنقب من سيرة مروان وأعماله إنه ما كان يقيم لنواميس الدين الحنيف وزنا ، وإنما كان يلحظها كسياسات زمنية فلا يبالي بإبطال شئ منها أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله ، وإليك من شواهد ذلك عظائم وعليها فقس ما لم نذكره :
    1 ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده 4 : 94 من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير قال : لما قدم عينا معاوية حاجا ، قدمنا معه مكة قال : فصلى بنا الظهر ركعتين ثم انصرف إلى دار الندوة قال : وكان عثمان حين أتم الصلاة فإذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به.
    فقال لهما : وما ذاك ؟ قال : فقال له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة ؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت ؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
    قالا : فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه
1 ـ بنت جعفر هي الهاشمية الشهيرة بأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب زوجة عبد الملك بن مروان. ثم طلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس.

(263)
له عيب. قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا.
    وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2 : 156 نقلا عن أحمد والطبراني فقال : رجال أحمد موثقون.
    فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصلاة التي هي عماد الدين إلى درجة يقدم فيها التحفظ على عثمان في عمله الشاذ عن الكتاب والسنة على العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أخضع معاوية لما ارتآه من الرأي الشائن في صلاة العصر ، فما ذا يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصلاة من الأحكام ؟.
    وإن تعجب فعجب إنه يعد مخالفة عثمان في رأيه الخاص له عيبا عليه يغير لأجله الحكم الديني الثابت ، ولا يعد مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك لأجلها الأباطيل والأحداث.
    ومن العجب أيضا أن ينهى معاوية عن مخالفة عثمان ، ولا ينهى من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله عن مخالفته.
    أهؤلاء من خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ؟ وأعجب من كل ذلك حسبان أولئك العابثين بدين الله عدولا وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.
    2 ـ أخرج البخاري من طريق أبي سعيد الخدري قال : خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت ثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت : غيرتم والله. فقال : أبا سعيد ! قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
    وفي لفظ الشافعي : يا أبا سعيد ترك الذي تعلم.
    أترى مروان كيف يغير السنة ؟ وكيف يفوه ملأ فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلم به ؟ كأن ذلك مفوض إليه ، وكأن تركها المنبعث عن التجري على الله ورسوله يكون مبيحا لإدامة الترك ، لماذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنة ؟ ولماذا ترك ؟ نعم : كان لمروان في المقام ملحوظتان : الأولى اقتصاصه أثر ابن عمه عثمان ، والآخر إنه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ويسبه ويلعنه فتتفرق عنه


(264)
الناس لذلك فقدمها على الصلاة لئلا يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به من كبائر وموبقات.
    راجع تفصيلا أسلفناه صفحة 164 171 من هذا الجزء.
    ويستظهر مما سبق ص 166 من كلام عبد الله بن الزبير : كل سنن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غيرت حتى الصلاة.
    إن تسرب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصورا على الخطبة قبل الصلاة فحسب ، وإنما تطرق ذلك إلى كثير من الأحكام كما يجده الباحث السابر أغوار السير والحديث.
    3 ـ سبه لمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وكان الرجل كما قال أسامة بن زيد : فاحشا متفحشا (1).
    الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم قال له : أقد مروان من نفسك.
    قال عليه السلام مم ذا ؟ قال : من شتمه وجذب راحلته.
    وقال له : لم لا يشتمك ؟ كأنك خير منه ؟ (2) وعلاه معاوية بكل ما عنده من حول وطول ، لكن مروان تبعه شر متابعة ، ولم يأل جهدا في تثبيت ذلك كلما أقلته صهوة المنبر ، أو وقف على منصة خطابة ، ولم يزل مجدا في ذلك وحاضا عليه حتى عاد مطردا بعد كل جمعة وجماعة في أي حاضرة يتولى أمرها ، وبين عماله يوم تولى خلافة هي كلعقة الكلب أنه ( تسعة أشهر ) كما وصفها مولانا أمير المؤمنين ، ولم تكن هذه السيرة السيئة إلا لسياسة وقتية ، وقد أعرب عما في سريرته بقوله فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه قال : ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي.
    فقيل له : مالكم تسبونه على المنبر ؟ قال : إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك (1).
    [ قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 142 : وبسند رجاله ثقات : إن مروان لما ولي المدينة كان يسب عليا على المنبر كل جمعة ، ثم ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسب ، ثم أعيد مروان فعاد للسب ، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلا عند الإقامة ، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للحسن في بيته
1 ـ الاستيعاب في ترجمة أسامة.
2 ـ يأتي حديثه تفصيلا في قصة أبي ذر في هذا الجزء إن شاء الله تعالى.
3 ـ الصواعق لابن حجر ص 33.


(265)
بالسب البليغ لأبيه وله ، ومنه : ما وجدت مثلك إلا مثل البغلة يقال لها : من أبوك ؟ فتقول : أبي الفرس. فقال للرسول : إرجع إليه فقل له : والله لا أمحو عنك شيئا مما قلت بأني أسبك ، ولكن موعدي وموعدك الله ، فإن كنت كاذبا فالله أشد نقمة ، قد أكرم جدي أن يكون مثلي مثل البغلة .. إلخ ].
    ولم يختلف من المسلمين اثنان في إن سب الإمام ولعنه من الموبقات ، وإذا صح ما قاله ابن معين كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1 : 509 من إن كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا هـ.
    فما قيمة مروان عندئذ ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنا لا نتنازل عن أن مولانا أمير المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كل من سبهم ولعنهم ، فكيف ونحن نرى إنه عليه السلام سيد الصحابة على الإطلاق ، وسيد الأوصياء ، وسيد من مضى ومن غبر عدا ابن عمه صلى الله عليه وآله وهو نفس النبي الأقدس بنص الذكر الحكيم ، فلعنه وسبه لعنه وسبه وقد قال : صلى الله عليه وآله : من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله (1).
    وكان مروان يتربص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة ، ويغتنم الفرص في إيذائهم قال ابن عساكر في تاريخه 4 : 227 : أبى مروان أن يدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله ، قد دفن عثمان بالبقيع.
    ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك ، فلم يزل عدوا لبني هاشم حتى مات.
    أي خليفة هذا يجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله ؟ ومن ومن أولى بالدفن في الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكي ؟ وبأي كتاب وبأية سنة وبأي حق ثابت كان لعثمان أن يدفن فيها ؟ ومن جراء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم كان ابن الحكم يحث ابن عمر على الخلافة والقتال دونها.
    أخرج أبو عمر من طريق الماجشون وغيره : إن مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال : وكيف لي بالناس ؟ قال : تقاتلهم ونقاتلهم معك.
    فقال :
1 ـ مستدرك الحاكم 3 : 121 ، مسند أحمد 6 : 323. وسيوافيك تفصيل طريقه.

(266)
والله لو اجتمع علي أهل الأرض إلا فدك ما قاتلتهم ، قال : فخرجوا من عنده ومروان يقول :
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا (1)
    لماذا ترك الوزغ سنة الانتخاب الدستوري في الخلافة بعد انتهاء الدور إلى سيد العترة ؟ وما الذي سوغ له ذلك الخلاف ؟ وحض ابن عمر على الأمر ، وتثبيطه على القتال دونه ، بعد إجماع الأمة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين ؟ نعم : لم يكن من يوم الأول هناك قط انتخاب صحيح ، ورأي حر لأهل الحل والعقد ، أنى كان ثم أنى ؟
والملك بعد أبي الزهراء لمن غلبا
    هذا مروان
    فهلم معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد مولده بماذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة به في المشورة في الصالح العام ؟ ولم استكتبه وضمه إليه فستولي عليه ؟ (2) ونصب عينيه ما لهج به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات ، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء من المؤمنين وإكبارهم شكرا لأعمالهم لا الاحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان الذي يجب الانكار والتقطيب تجاه عمله الشائن ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان (3) وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أدنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة.
    وهب أن الخليفة تأول وأخطأ لكنه ما هذا التبسط إليه بكله ؟ وتقريبه وهو ممن يجب إقصاءه ، وإيواءه وهو ممن يستحق الطرد ، وتأمينه وهو أهل بأن يتهم ، ومنحه بأجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه ، وتسليطه على أعطيات المسلمين ومن المحتم قطع يده عنها ؟.
    أنا لا أعرف شيئا من معاذير الخليفة في هذه المسائل لعل لها عذرا وأنت تلومها
1 ـ الاستيعاب ترجمة عبد الله بن عمر.
2 ـ كما ذكره أبو عمر في الاستيعاب ، وابن الأثير في أسد الغابة 4 : 348 (3) مر الحديث في ص 169.


(267)
لكن المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كثب ، والمستشفون للحقايق الممعنون فيها ، وكيف يعذره المسلمون ونصب أعينهم قوله عز من قائل : واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله ؟ أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجا عن حكم القرآن ؟ أليس عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجعل لقومه نصيبا من الخمس فلم يجعل ونص على أن بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه ؟.
    قال جبير بن مطعم : لما قسم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب (1) أتيته أنا وعثمان فقلت : يا رسول الله ! هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم ، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا ؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة.
    فقال : إنهم لم يفارقوني أو : لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وإنما هم بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ، ولم يقسم رسول الله لبني عبد الشمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب (2) ومن العزيز على الله ورسوله أن يعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى الله عليه وآله لطريده ولعينه ، وقد منعه النبي صلى الله عليه وآله وقومه من الخمس ، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن حكم الكتاب والسنة ، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم الذين أوجب الله مودتهم في الذكر الحكيم ؟ أنا لا أدري.
    والله من ورائهم حسيب.

ـ 33 ـ
إقطاع الخليفة وعطيته الحارث
    أعطى الحارث بن الحكم بن العاص أخا مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشة ثلاثمائة ألف درهم كما في أنساب البلاذري 5 : 52 ، وقال في ص 28 : قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم.
1 ـ المطلب أخو هاشم لأب وأم وأمهما عاتكة بنت مرة.
2 ـ صحيح البخاري 5 : 28 ، الأموال ص 331 ، سنن البيهقي 6 : 340 ، 342 ، سنن أبي داود 2 : 31 ، مسند أحمد 4 : 81 ، المحلى 7 : 328.


(268)
    وقال ابن قتيبة في المعارف ص 84 ، وابن عبد ربه في العقد الفريد 2 : 261 ، و ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 67 ، والراغب في المحاضرات 2 : 212 : تصدق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزون (1) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم.
    وقال الحلبي في السيرة 2 : 87 : أعطى الحارث عشر ما يباع في السوق ، أي سوق المدينة.
    قال الأميني : لقد اصطنع الخليفة لهذا الرجل ثلاثا لا أظنه يخرج من عهدة النقد عليها :
    1 ـ إعطاءه ثلاثمائة ألف ولم يكن من حر ماله.
    2 ـ هبته إبل الصدقة إياه وحده.
    3 ـ إقطاعه إياه ما تصدق به رسول الله صلى الله عليه وآله على عامة المسلمين.
    أنا لا أدري بماذا استحق الرجل هذه الأعطيات الجزيلة ؟ وكيف خص به ما تصدق به رسول الله صلى الله عليه وآله على كافة أهل الاسلام ، وحرمه الباقون ؟ ولو كان الخليفة موفرا عليه بهذه الكمية من مال أبيه لاستكثر ذلك نظرا إلى حاجة المسلمين وجيوشهم ومرابطيهم ، فكيف به ؟ وقد وهبه ما يملك من مال المسلمين ومن الأوقاف والصدقات ، وما كان الرجل يعرف بشيء من الأعمال البارة والمساعي المشكورة في سبيل الدعوة الإلهية وخدمة المجتمع الديني حتى يحتمل فيه استحقاق زيادة في عطاءه ، وهب أنا نجزنا ذلك الاستحقاق لكنه لا يعدو أن يكون مخرج الزيادة مما يسوغ للخليفة التصرف فيه لا مما لا يجوز تبديله من إقطاع ما تصدق به النبي صلى الله عليه وآله وجعله وقفا عاما على المسلمين لا يخص به واحد دون آخر ، ومن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبد لونه.
    فلم يبق مبرر لتلكم الصنايع أو الفجايع إلا الصهر بينه وبين الخليفة والنسب لأنه ابن عمه.
    ولك حق النظر في صنيع كل من الخليفتين : 1 ـ عثمان وقد علمت ما ارتكبه هاهنا وفي غيره 2 ـ مولانا علي عليه السلام يوم جاءه عقيل يستميحه صاعا من البر
1 ـ في المعارف : مهزوز. وفى شرح ابن أبي الحديد : تهروز. وفي محاضرات الراغب : مهزور.

(269)
للتوسيع له ولعياله مما قدر له في العطاء ، فأدى عليه السلام ما هو حق الأخوة والتربية ، ولا سيما في مثل عقيل من الأشراف والأعاظم الذي يجب فيهم التهذيب أكثر من غيرهم فأدى إليه الحديدة المحماة فتأوه فقال عليه السلام : تجزع من هذه وتعرضني لنار جهنم ؟ (1).
    وفي رواية ابن الأثير في أسد الغابة 3 : 423 من طريق سعد : إن عقيل بن أبي طالب لزمه دين فقدم على علي بن أبي طالب الكوفة فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه فلما أمسى دعا بعشائه فإذا خبز وملح وبقل فقال عقيل : ما هو إلا ما أرى. قال : لا.
    قال : فتقضي ديني ؟ قال وكم دينك ؟ قال : أربعون ألفا.
    قال : ما هي عندي ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فإنه أربعة آلاف فأدفعه إليك.
    فقال له عقيل : بيوت المال بيدك و أنت تسوفني بعطائك ؟.
    فقال : أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها ؟.
    إقرأ ، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى.

ـ 34 ـ
حظوة سعيد من عطية الخليفة
    أعطى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية مائة ألف درهم قال أبو مخنف والواقدي : أنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف درهم فكلمه علي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك فقال : إن له قرابة ورحماً.
    قالوا : أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم ؟ فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي ، قالوا : فهديهما والله أحب إلينا من هديك.
    فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله (2) قال الأميني : كان العاص أبو سعيد من جيران رسول الله صلى الله عليه وآله الذين كانوا يؤذونه ، وقتله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بدر مشركا (3).
    وأما خلفه ( بالسكون ) سعيد فهو ذلك الشاب المترف كما في رواية ابن سعد (4)
1 ـ الصواعق لابن حجر ص 79.
2 ـ أنساب البلاذري 5 : 28.
3 ـ طبقات ابن سعد 1 : 185 ط مصر ، أسد الغابة 2 : 310.
4 ـ الطبقات 5 : 21 ط ليدن. وننقل عنه كلما يأتي في سعيد بن العاص ، وذكره ابن عساكر في تاريخه 6 : 135.


(270)
ورد الكوفة من غير سابقة واليا من قبل عثمان بعد عزله الوليد ولم يحمل أي حنكة فطفق يلهج من أول يومه بما يثير العواطف ويجيش الأفؤدة ، فنسبهم إلى الشقاق والخلاف وقال : إن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش.
    ولقد أزرى هذا الغلام بهاشم بن عتبة المرقال الصحابي العظيم صاحب راية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بصفين العبد الصالح الذي فقئت إحدى عينيه في سبيل الله يوم اليرموك ومات شهيدا في الجيش العلوي.
    قال ابن سعد : قال سعيد مرة بالكوفة : من رأى الهلال منكم ؟ وذلك في فطر رمضان فقالوا له : ما رأيناه.
    فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص : أنا رأيته.
    فقال له سعيد : بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم ؟ فقال هاشم : تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل الله ؟ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ، ثم أصبح هاشم في داره مفطرا وغدى الناس عنده ، فبلغ ذلك سعيدا فأرسل إليه فضربه وحرق داره.
    ما أجرأ ابن العاص على هذا العظيم من عظماء الصحابة فيضربه ويحرق داره لعمله بالسنة الثابتة في الأهلة بقوله صلى الله عليه وآله : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فافطروا.
    وفي لفظ : صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته (1) ؟ لم يكن يعلم هاشم المرقال بأن آراء الولاة وأهوائهم لها صولة وجولة في رؤية الهلال أيضا ، وإن الشهادة بها قد تكون من الجرائم التي لا تغفر ، وإن السياسة الوقتية لها دخل في شهادات الرجال ، وإن حملة النزعة العلوية لا تقبل شهاداتهم.
    قد شكاه إلى الخليفة الكوفيون مرة فلم يعبأ بها فقال : كلما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله ، فانكفئ سعيد إلى الكوفة ، وأضر بأهلها إضرارا شديدا (2) ونفى في سنة 33 بأمر من خليفته جمعا من صلحاء الكوفة وقرائها إلى الشام كما يأتي تفصيله.
    ولم يفتأ على سيرته السيئة إلى أن رحل من الكوفة إلى عثمان مرة ثانية 34 والتقى هنالك بالفئة الشاكية إلى عثمان وهم : الأشتر بن الحارث. يزيد بن مكفف. ثابت بن قيس. كميل بن زياد. زيد بن
1 ـ صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، سنن أبي داود ، سنن الدارمي ، سنن النسائي 7 سنن ابن ماجة ، سنن البيهقي.
2 ـ أنساب البلاذري 5.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس