الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 321 ـ 330
(321)
قال : إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل ، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها ، وللفقر أحب إلي من الغنى ، فقال له رجل : يا أبا ذر ! مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك ؟ قال : إني أنهاهم عن الكنوز.
    وفي فتح الباري 3 : 213 نقلا عن غيره : الصحيح إن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
    وتعقبه النووي بالابطال لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا.
    وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر فإن يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد لأبي بكر وعمر ، وإنما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة ، والمبائن للسيرة النبوية في كل ما ذكرناه ، ولذلك كله كان سلام الله عليه ساكتا عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان : ويحك يا عثمان ! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ ورأيت أبا بكر وعمر ؟ هل رأيت هذا هديهم ؟ إنك تبطش بي بطش الجبار.
    ويقول : إتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع ص 298 و 306.
    ولم يكن لأبي ذر منتدح من نداءه والدعوة إلى المعروف الضايع ، والنهي عن المنكر الشايع وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (1).
    قال ابن خراش : وجدت أبا ذر بالربذة في مظلة شعر فقال : ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحق لي صديقا (2).
    وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفه والتوسع والاستيثار بالأموال وكان في العهد النبوي صعلوكا لا مال له ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وآله (3) وفي لفظ : إن معاوية ترب خفيف الحال (4)
1 ـ سورة آل عمران 104.
2 ـ الأنساب 5 : 55 ، ومر مثله من طريق آخر ص 301.
3 ـ صحيح مسلم كتاب النكاح والطلاق 4 : 195 ، سنن النسائي 6 : 75 ، سنن البيهقي 7 : 135.
4 ـ صحيح مسلم 4 : 199.


(322)
    فما واجب أبي ذر عندئذ ؟ وقد أمره النبي الأعظم في حديث (1) السبعة التي أوصاه بها ، بأن يقول الحق وإن كان مرا ، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم.
    وما الذي يجديه قول عثمان : مالك وذلك ؟ لا أم لك ؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال : والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدة ليس لها سلف من العهد النبوي ، فلم يهتف إلا بما تعلمه من الكتاب والسنة ، وقد أخذه من الصادع الكريم من فلق فيه ، ولم يكن صلى الله عليه وآله يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجار وملاك ذوو يسار ، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهية ، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.
    كان صلى الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر الإسلامية : مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة.
    ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأن ما يصيبه في الله ، فقال أبو ذر : مرحبا بأمر الله.
    فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع ، وكون بلاءه في الله يأبى أن يكون ما جر إليه ذلك البلاء غير مشروع.
    وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى الله عليه وآله أن ينهاه عما سينوء به من الإنكار وهو يعلم أن تلك الدعوة تجر عليه الأذى والبلاء الفادح ، وتشوه سمعة خليفة المسلمين ، وتسود صحيفة تاريخه ، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.
    وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاق الذي اتهم به أبو ذر ، ولم يكن قط يقصده وهو شبيه عيسى في أمة محمد صلى الله عليه وآله زهدا ونسكا وبرا وهديا وصدقا وجدا وخلقا.
    هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله غير أن عثمان قال لما غضب عليه : أشيروا علي
1 ـ أخرجه ابن سعد في الطبقات 164 من طريق عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال : أوصاني خليلي بسبع : بحب المساكين والدنو منهم. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي. وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت. وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا. وأمرني أن لا أخاف لومة لائم. وأمرني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله. فإنهن من كنز تحت العرش.

(323)
في هذا الشيخ الكذاب إما أن اضربه أو أحبسه أو اقتله. وكذبه حين رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديث بني العاص ، عجبا هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلغ عنهما صادقا ؟ لاها الله هذا أدب يخص بالخليفة.
    وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لما دافع عن أبي ذر بقوله : أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون.
    أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحب أن يذكره ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزه الكتاب عن ذكره.
    وقد تجهم عثمان مرة أخرى إمام المؤمنين عليه السلام بكلام فظ لما شيع هو و ولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مر تفصيله ص 294 ، 297 وفيه قوله لعلي عليه السلام : ما أنت بأفضل عندي من مروان.
    إن من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين علي ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين ، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبوية في مروان ؟ أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع ؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الاغضاء عنها فرأى ابن الحكم عدلا لمن طهره الجليل ورآه نفس النبي الأعظم في الذكر الحكيم. كبرت كلمة تخرج من أفواهم ..
أفحكم
الجاهلية يبغون
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟


(324)
جناية التاريخ
    ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأمة من تاريخ حياتهم ، ورائم أخلاقهم وآثار مآثرهم ، ونفسياتهم الكاملة ، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم ، ودرر حكمهم ، وموارد إقدامهم وإحجامهم.
    تجد التاريخ هنا يسرع السير فينسي ذكرهم ، ويغمط فضلهم ، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغرة ، أو يحور الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة ، كل ذلك تأييدا لمبدأ ، وأخذا بناصر نزعة ، وسترا على أقوام آخرين تمس الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم ، وتبعا لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.
    فمن هذه النواحي كلها أغفل التاريخ عن التبسط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقرية والكمال ، التي يجب أن تتخذ قدوة في السلوك و التهذيب ، وأن تكون للأمة بها أسوة وقدوة في التقوى والمبدأ.

البلاذري
    فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدة طرق بصورة مرت في صفحة 292 ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري ( وأبو ذر هو الذي ما أظلت الخضراء .. الخ ). أخرجت كارها. ثم عقبه بأكذوبة سعيد بن المسيب ( الذي كان من مناوي العترة الطاهرة وشيعتهم ) من إنكار إخراج عثمان إياه ، وإنه خرج إليها راغبا في سكناها.
    ولا يعلم المغفل إن في ذلك تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنه يخرج من المدينة كما مر ص 316 بطرق صحيحة.
    وتكذيبا لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى وقد صمم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمار : يا عثمان ! إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسيير (1) وتكذيبا
1 ـ سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.

(325)
لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح : ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.
    وتكذيبا لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضا إنه لما انهى إليه نعي أبي ذر قال : رحمه الله.
    فقال عمار : نعم فرحمه الله من كل أنفسنا فقال عثمان : يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره ( يأتي تمام الحديث في مواقف عمار ).
    وتكذيبا لما رواه البلاذري أيضا عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفناه ص 294 وتكذيبا ، وتكذيبا.
    ولا يعلم المسكين إن تلك الحادثة الفجيعة المتعلقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار أو الأخذ والرد وتوفرت النقمة والنقد حتى عدت من عظائم الحوادث ، وسار بحديثها الركبان ، وتذمر لها المؤمنون ، وشمت فيها من شمت ، و نقم بها على الخليفة ، وكان مما استتبعها : إن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة : إن هذا الرجل فعل بك وفعل ، هل أنت ناصب لنا راية ؟ يعني نقاتله.
    فقال : لا ، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (1).
    وقال ابن بطال كما في عمدة القاري للعيني 4 : 291 : إنما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له وكان في جيشه ميل إلي أبي ذر فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنه كان رجلا لا يخاف في الله لومة لائم.
    فما كنت يومئذ تمر بحاضرة من الحواضر الإسلامية إلا وتجد توغلا من أهلها في هذا الحديث ، وتغلغلا بين أرجائها من جراء ذلك الحادث الجلل.
    إن حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيب المنبعث عن الولاء الأموي لكنه شاء أن يقول فقال ، ذاهلا عن إنه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دارا هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيه ويختار الربذة منزلا له ولأهله مع جدبها وقفرها ، ولو كانت له خيرة في الأمر ، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصة الاكتئاب ؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبة ؟.
1 ـ طبقات ابن سعد 3 : 212.

(326)
    ومن أمانة البلاذري في النقل : أنه عند سرد قصة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال : جرى بين علي وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأن فيه نيلا من صاحبه.

    ابن جرير الطبري
    وإنك تجد الطبري في التاريخ لما بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول : في هذه السنة أعني سنة 30 كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها ، فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة.
    لماذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلا قصة العاذرين ؟ التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريرا لعمل الخليفة ، وأما الحقائق الراهنة التي كانت تمس كرامة الرجلين ، وكانت حديث أمة محمد وقتئذ وهلم جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها ، وحسب إنها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها ، وقد ذهب عليه إن في فجوات الدهر ، وثنايا التاريخ ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن تروقه معرفة نفسيات مناوي أبي ذر ، وتحقق أعلام النبوة التي جاء بها النبي الأعظم في قصة أبي ذر من المغيبات.
    ثم ذكر القصة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصح شيء منها ، وكل جملة منها يكذبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحته ، وكفاها وهنا ما في سندها من الغمز وإليك رجاله
    1 ـ السري. مر الكلام فيه في هذا الجزء ص 140 وإنه مشترك بين اثنين عرفا بالكذب والوضع.
    2 ـ شعيب بن إبراهيم الأسيدي الكوفي ، أسلفنا صفحة 140 من هذا الجزء قول الحافظين : ابن عدي والذهبي فيه وإنه مجهول لا يعرف.
    3 ـ سيف بن عمر التيمي الكوفي ، ذكرنا في صفحة 84 من هذا الجزء أقوال الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل حول الرجل وإنه ضعيف ، متروك ، ساقط ، وضاع ، عامة حديثه منكر ، يروي الموضوعات عن الاثبات ، كان يضع الحديث ، واتهم بالزندقة.


(327)
    أضف إلى المصادر السابقة : ( الاستيعاب ) ترجمة القعقاع 2 : 535 ، ( الإصابة ) 3 : 239 ، مجمع الزوائد للهيثمي 10 : 21.
    4 ـ عطية بن سعد العوفي الكوفي. للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف وقال الساجي : ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل.
    وقال ابن سعد : كتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه (1) وذكر ابن كثير في تفسيره 1 : 501 عن صحيح الترمذي من طريق عطية في علي مرفوعا : لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك.
    فقال : ضعيف لا يثبت فإن سالما متروك وشيخه عطية ضعيف.
    وكون الرجل في الاسناد آية كذب الرواية إذ الشيعي الجلد كالعوي لا يروي حديث الخرافة.
    5 ـ يزيد الفقعسي. لا أعرفه ولا أجد له ذكرا في كتب التراجم.
    فانظر إلى أمانة الطبري على ودايع التاريخ فإنه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة. حيا الله الأمانة.

نظرة قيمة في تاريخ الطبري
    شوه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذاب الوضاع ، عن شعيب المجهول الذي لا يعرف ، عن سيف الوضاع ، المتروك ، الساقط ، المتهم بالزندقة ، وقد جاءت في صفحاته بهذا الاسناد المشوه 701 رواية وضعت للتمويه على الحقايق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة 11 إلى 37 عهد الخلفاء الثلاثة فحسب ، ولا يوجد شيء من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة ، وإنما بدا برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الأقدس ، وبثها في الجزء الثالث والرابع والخامس ، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.
    ذكر في الجزء الثالث من ص 210 في حوادث سنة 11 57 حديثا
    أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشر 427 حديثا
    أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة ال‍ 3723 207 حديثا المجموع 701 حديثا
1 ـ تهذيب لابن حجر 7 : 226.

(328)
    ومما يهم لفت النظر إليه إن الطبري من صفحة 210 من الجزء الثالث إلى ص 241 يروي عن السري بقوله : حدثني. المعرب عن السماع منه ، ومن ص 241 يقول : كتب إلى السري.
    إلى آخر ما يروي عنه إلا حديثا واحدا في الجزء الرابع ص 82 يقول فيه : حدثنا.
    ولست أدري إن السري ، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصورا على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط ؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقا ؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصة المذهبية الواقعة في الأيام الخالية من السنين المعلومة ؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلفا إلى أناس ، واختذالا عن آخرين ، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة ، ووليد نفس واحد ، ولا أحسب إن هذه كلها تخفى على مثل الطبري ، غير إن الحب يعمي ويصم.
    وقد سودت هاتيك المخاريق المختلفة صحائف تاريخ ابن عساكر ، وكامل ابن الأثير ، وبداية ابن كثير ، وتاريخ ابن خلدون ، وتاريخ أبي الفدا إلى كتب أناس آخرين اقتفوا أثر الطبري على العمى ، وحسبوا أن ما لفقه هو في التاريخ أصل متبع لا غمز فيه ، مع إن علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أي حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.
    والتآليف المتأخرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء و الشهوات كلها متخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج منها في الجزء التاسع إنشاء الله تعالى.

ابن الأثير الجزري
    وأنت ترى ابن الأثير في الكامل الناقص تبعا للطبري في الذكر والاهمال كما هو كذلك في كل ما توافقا عليه من التاريخ لكنه زاد ضغثا على أبالة فقال : وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة


(329)
من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به ، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ، فإن للإمام أن يؤدب رعيته ، وغير ذلك من الأعذار لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه كرهت ذكرها.
    إن الذي لم يصحح الرجل نقله صححه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه ، وكان قد حسب أن الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته ، وقد ذهب عليه إن أهل النصفة من المؤلفين ورواد الحقايق من الرواة سوف لا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصونها على الأمة ، وإن مدونة التاريخ ليست قصرا على كتابه.
    هب إنه ستر التاريخ بالاهمال لكنه ماذا يصنع بالمحدثين ؟ الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوة (1) أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملائه من رجالات أهل البيت عليهم السلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأمة ، ولا سيما إن سابقة الطرد من عاصمة النبوة لم تكن إلا لمثل الحكم ( عم الخليفة ) وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيها للعاصمة عن معرتهم ، وتطهيرا لها عن لوث بقائهم فيها ، أفهل يساوي أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق منه ، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبه ، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنة ، والثلاثة الذين يحبهم الله تعالى.
    أفهل يساوي من هو هذا بالطريد اللعين ، فيشوه ذكره بهذه التسوية ، ويشهر بين الملأ موصوما بذلك ، ويمنع الناس عن التقرب إليه ، وينادي عليه بذل الاستخفاف ، ويحرم الناس عن علومه الجمة التي هو وعائها ، ولعمر الحق ، وشرف الاسلام ، ومجد الانسانية ، وقداسة أبي ذر ، إن النشر بالمناشير ، والقرض بالمقاريض أهون على الديني الغيور من بعض هاتيك الشنايع.
    ثم إن تأديب الخليفة للرعية إنما يقع على من فقد الآداب الدينية وطوحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة.
    وأما مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى الله عليه وآله
1 ـ راجع ص 328324.

(330)
بما لم يطر به غيره وقر به وأدناه وعلمه وإذا غاب عنه تفقده ، وشهد إنه شبيه عيسى بن مريم هديا وسمتا وخلقا وبرا وصدقا ونسكا وزهدا.
    فبماذا يؤدب ؟ ولما ؟ وأي تأديب هذا يراه النبي الأعظم بلاء في الله ؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول : مرحبا بأمر الله.
    وبم ولم استحق أبو ذر التأديب ؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه ، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضبا لله ويقول له : فارج من غضبت له (1).
    نعم : يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدب للناس لما حمله من علم النبوة وأحكام الدين وحكمه ، والنفسيات الكريمة ، والملكات الفاضلة التي تركته شبيها بعيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله.
    ما بال الخليفة يتحرى تأديب أبي ذر وهو هذا ، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة ؟.
    ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.
    ويبهظه تأديب مروان وهو يتهمه بالكتاب المزور عليه.
    ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له : أنا أكفيك علي بن أبي طالب.
    فأجابه الإمام بقوله : يا ابن اللعين الأبتر والشرة التي لا أصل لها ولا فرع أنت تكفيني ؟ فوالله ما أعز الله من أنت ناصره الخ (2).
    ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحق بالنفي منهم (3) ويأوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما ؟.
    ما بال الخليفة يخول مروان مهمات المجتمع ؟ ويلقي إليه مقاليد الصالح العام ؟ ولم يصخ إلى قول صالح الأمة مولانا أمير المؤمنين له : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به ؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك ، يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.
1 ـ راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 300.
2 ـ نهج البلاغة 1 : 253.
3 ـ سيوافيك حديثه في مواقف عمار إن شاء الله تعالى.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس