الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 331 ـ 340
(331)
    ما بال الخليفة يعطي مروان أزمه أموره ويشذ عن السيرة الصالحة حتى توبخه زوجته نائلة بنت الفرافصة ؟ وتقول : قد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قال : فما اصنع قالت.
    تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركك الناس لمكانه ، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة وهو لا يعصى (1) ليت الخليفة كانت له أذن واعية تسمع من بنت الفرافصة كلمتها الحكمية التي كانت فيها نجاته في النشأتين.
    كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنه لم يفعل ، وماذا كان يجديه لو فعل ؟ وحوله الأمويون وهو المتفاني في حبهم وهم لا يرون ذلك الرأي السديد لأنه على طرف النقيض مما حملوه من النهمة والشره ، واكتناز الذهب والفضة ، والسير مع الهوى والشهوات ، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول : يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة.
    أو يقول لعثمان : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. ( راجع ص 285 ).
    وعثمان وإن زبره تلك الساعة لكنه لم يعد رأيه في بني أمية المتلاعبين بالدين لعبهم بالاكر ، ولا أدري هل تهجس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجس وفعل في أبي ذر البر التقي ، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء ؟.
    لقد فات ابن الأثير كل هذا فاعتذر عن الرجل بأن الخليفة يؤدب رعيته.
    عماد الدين ابن كثير جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية 7 : 155 فبنى على أساس ما علاه من قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات قال : كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت ويوجب أن يتصدق بالفضل ويتأول قول الله سبحانه وتعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
    فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع فبعث يشكوه إلى عثمان
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 112 ، الكامل لابن الأثير 3 69.

(332)
فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالربذة وهي شرقي المدينة ويقال : إنه سال عثمان أن يقيم بها وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي : إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها.
    وقد بلغ البناء سلعا ، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات. اه‍.
    وقال في ص 165 عند ذكر وفاته : جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله ابن عمرو إن رسول الله قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر. وفيه ضعف.
    ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة ، وليس عنده سوى امرأته وأولاده فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحاب فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به ، وقيل : قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه ، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت ، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله. ا هـ.
    هذا كل ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام.
    وفيه مواقع للنظر :
    1 ـ إتهامه أبا ذر بأنه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء .. الخ.
    هذه النظرية قديما ما عزوه إلى الصحابي العظيم إختلاقا عليه وزورا ، وقد تحولت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوهة أخرى من نسبة الاشتراكية إليه وسنفصل القول عنها تفصيلا إنشاء الله تعالى.
    2 ـ إنه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أن عثمان أمره بالمقام بالربذة ، أما حديث الربذة فقد أوقفناك آنفا على أنه كان منفيا إليها ، و أخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة ، ووقع هنالك ما وقع بين علي عليه السلام ومروان ، وبينه وبين عثمان ، وبين عثمان وبين عمار ، واعتراف عثمان بتسييره ، وتسجيل علي أمير المؤمنين عليه ذلك ، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه ، وإن عثمان


(333)
جعله أعرابيا بعد الهجرة ، وهو مقتضى إعلام النبوة في إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله إياه بأنه سوف يخرج من المدينة ، ويطرد من مكة والشام ، وأما خبر الشام فقد مر إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضا.
    3 ـ وأما حديث بلوغ البناء السلع فإفك مفترى على أم ذر وقد جاء في مستدرك الحاكم 3 : 344 ، وذكره البلاذري كما مر في ص 293 ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.
    على إن ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ وجل ما عنده إنما هو ملخص ما فيه مع التصرف فيه على ما يروقه ، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذاب وضاع وبين مجهول لا يعرف إلى ضعيف متهم بالزندقة كما أسلفناه في ص 84 ، 140 ، 141 327 وهم :
    1 ـ السري 2 ـ شعيب 3 ـ سيف 4 ـ عطية 5 ـ يزيد الفقعسي.
    وحديث يكون في إسناده أحد من هؤلاء لا يعول عليه ، وعلى فرض اعتباره فإنه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه يخرج ويطرد من مكة والمدينة والشام : راجع ص 316 319 وهي معتضدة بما مر عن أبي ذر وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إياه ، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم في تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.
    4 ـ وأما ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتد أعرابيا فإنه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشمل على حديث السلع ، وقد مر من طريق البلاذري بإسناد صحيح في ص 294 قول أبي ذر : ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.
    على إنه لم يذكر أحد إن أبا ذر قدم المدينة خلال أيام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلا لأمر عثمان بالتعاهد.
    5 ـ ما ذكره من إنه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها .. الخ.
    إن شنشنة الرجل في الفضائل إنه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويين ومن انضوى إليهم من رواد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها ، ولا يمل من تسطيرها وإن


(334)
سودت أضابير من القراطيس ، لكنه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل البيت عليهم السلام أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأمة وصلحائها كأبي ذر تضييق عليه الأرض برحبها ، وتلكأ وتلعثم كأن في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة ، أو إنه كان في أذنه وقرأ عن سماعها فلم تنه إليه ، وإن اضطرته الحالة إلى ذكر شيء منها جاء به في صورة مصغرة كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفا ، وهو يعلم أن طريق هذا الاسناد ليس منحصرا بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم ، وإنما جاء من طريق علي أمير المؤمنين وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ، وحسن الترمذي غير واحد من طرقه في صحيحه 2 : 221.
    وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده 5 : 197 صحيح رجاله كلهم ثقات.
    وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صححه هو وأقره الذهبي كما في ( المستدرك ) 3 : 342.
    وإسناد الحاكم من طريق علي عليه السلام وأبي ذر أيضا صححه هو وأقره الذهبي كما في ( المستدرك ) 4 : 480.
    وأما إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير : سنده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف. وحسنه السيوطي في الجامع الصغير. فأين الضعف المزعوم ؟ ولا يهمنا التعرض لبقية ما رمى القول فيه على عواهنه فإنها مأخوذة من الطبري مع عدم الاجادة في الأخذ ، لعله أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عوارا على عواره ، وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها ص 327.
    والممعن في كتب المحدثين يعلم أن هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تعد كتب الحديث فتجدها تثبت ما من حقه الحذف ، وتحذف ما يجب أن يذكر ، ونكل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيها القارئ الكريم ! ؟
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد

( سور ق 22 )


(335)
نظرية أبي ذر في الأموال
    وافى سيدنا أبو ذر كغيره من قرناءه المقتصين أثر الكتاب والسنة يبغي صالح قومه ونجاح أمته ، يبغي بهم أن لا يتخلفوا عنهما قيد ذرة ، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم ، وأن تكون لضعفاء الأمة لماظة من منائح الأغنياء ، وأن لا يمنعوا حقوقهم التي افترضها الله لهم ، وكان نكيره الشديد متوجها إلى مغتصبي أموال الفقراء ، والى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة منضدة في دورهم ، و كانت سبائك التبر تقسم بكسرها بالفؤوس ، من دون أن تخرج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات ، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب ، وريهم الظمأ وراحتهم النكد ، وعند القوم أموال لهم متكدسة لا تنتفع بها العفاة ، ولا يستفيد من نماءها المجتمع ، ولا يصرف شيء منها في الصالح العام ، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضة أن تتداول بهما الأيدي ، ويتقلبا في وجوه الحرف والمهن والصنايع ، فتنتجع العامة بهما فأربابهما بالأرباح ، والضعفاء بالأجور ، والبلاد بالعمران ، والأراضي بالإحياء والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر ، والملأ العلمي بالجوامع والكليات والكتب و الصحف ، والمضطرون بحقوقهما الإلهية واستحكامات تقتضيها الظروف ، حتى تكون الأمة سعيدة بما يتسنى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها ، ولذلك حرم المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لئلا يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.
    كان نكير سيدنا أبي ذر موجها إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كل يوم ويتلو قوله تعالى : الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
    وكان يرى الأموال تجبى إليه فيقول : جاءت القطار تحمل النار.
    وكمروان الذي كان إحدى منايح عثمان له خمس افريقية وهو خمسمائة ألف دينار.


(336)
    وكعبد الرحمن بن عوف وقد خلف ذهبا قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا ، فتكون ثروته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مر في صفحة 284.
    وكزيد بن ثابت المخلف من الذهب والفضة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يكسر عند تقسيمه بالفؤوس.
    وكطلحة التارك بعده مائة بهارا في كل بهار ثلاث قناطر ذهب ، والبهار جلد ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها : ويلي على ابن الحضرمية ( يعني طلحة ) أعطيته كذا وكذا بهار ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي (1) أو طلحة التارك مائة جمل ذهبا كما مر عن ابن الجوزي.
    وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني ، وهو يرى إن خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أي اكتراث لمخالفة السنة الشريفة ، وهو يعلم الكمية المدخرة من النقود التي نهبت يوم الدار.
    زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من المذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب (2).
    فما ظنك بالرجل الديني الواقف على كل هذه الكنوز من كثب ؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله من المغيبات ، ومما يشاهده من نفسيات القوم ، إن تلكم الأموال المكتنزة سوف يصرف أكثرها في الدعوة إلى الباطل ، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي أجور الوضاعين للأحاديث في فضائل بني أمية والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم السلام ، وفي محر في الكلم عن مواضعه ، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة ، ويصرف شيء كثير منها في الخمور والفجور ، إلى غير ذلك من وجوه الشر.
    ما ظنك بالرجل ؟ وفي أذنه نداء الصادع الكريم : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 : 404.
2 ـ سورة آل عمران : 14.


(337)
رجلا اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا.
    ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاءوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأكر ، وقد اتخذوا مال الله دولا ..
    فهل تراه يخفق على ذلك كله ، كأنه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ؟ أو أنه يدوخ العالم بعقيرته ؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد.
    عساه يكسح شيئا من الشر الحاضر ، ويسد عادية المعرة المقبلة وإن أسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (1).
    لقد ناء أبو ذر بهذه المهمة الدينية وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، وما كان يلهج إلا بقوله تعالى : الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
    ولم يشذ في تأويل الآية عما يقتضيه ظاهرها لأن مطمح نظره كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممن جمعوا من غير حله ، وادخروا على غير حقه ، ولم يؤدوا المفترض مما استباحوه من المال واكتنزوه ، ولذلك لم يوجه نكيره إلى ناس آخرين من زملائه ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق الواجبة عليه آلافا مؤلفة وقد عرفت شطرا من يساره في الجزء الثاني 8885.
    وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول : ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا (2).
    وكعبد الله بن جعفر الطيار الذي دوخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصلها ابن عساكر في تاريخه 7 : 344325 وغيره.
    وعبد الله بن مسعود الذي خلف تسعين ألفا كما في صفة الصفوة.
    وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير : بعت مكرمة قريش.
    فقال حكيم : ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارا في الجنة أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله. وحج
1 ـ سورة آل عمران آية : 104.
2 ـ صفة الصفوة لابن الجوزي 1 : 300.


(338)
حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجللها الحبرة ، وقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قد نقش في رؤسها : عتقاء الله عزوجل عن حكيم وأعتقهم ، وأهدى ألف شاة (1).
    إلى أناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار.
    فلم تسمع أذن الدنيا إن أبا ذر وجه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوما لأنه كان يعلم بأنهم اقتنوها من طرقها المشروعة وأدوا ما عليهم منها وزادوا ، وراعوا حقوق المروءة حق رعايتها ، وما كان يبغي بالناس إلا هذه.
    لماذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول : يا معاوية ! إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك ؟ فهذا الإسراف.
    فسكت معاوية ويقول أبو ذر : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ، والله إني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثر عليه (2).
    ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصصة الظاهر والباطن كما في مروج الذهب 1 : 434 فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة ، وليس ذلك إلا لما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبنائين وصاحبيهما.
    وأما وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كله الذي عزاه إلى سيدنا أبي ذر المختلقون فمن أفائكم المفتريات ، لم يدعه أبو ذر ولا دعا إليه وكيف يكون ذلك ؟ وأبو ذر يعي من شريعة الحق وجوب الزكاة ؟ وهل يمكن ذلك إلا بعد اليسار والوفر الزائد على المؤن ؟ والله سبحانه يقول : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ، وفي تنكير الصدقة و ( من ) التبعيض دلالة على أن المأخوذ بعض المال لأكله.
    على إن النصب الزكوية المضروبة في النقدين والأنعام والغلات كلها نصوص على إن الباقي من المال مباح لأربابه ، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وغيرها من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.
1 ـ صفة الصفوة لابن الجوزي 1 : 304.
2 ـ راجع ما مر ص 304.


(339)
    فلو كان يجب إنفاق بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنصب والإخراج منها ؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كل مسلم فضلا عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط بالسنة الشريفة.
    ولو كانت على المكلف بقية من الواجب بعد الزكاة لم يؤدها فما معنى الفلاح ؟ الذي وصف الله تعالى به المؤمنين بقوله : قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون ، سورة المؤمنون 41 وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كل ما للانسان من المال بعد المؤن فبماذا يحترف أو يمتهن ؟ وليس عنده فاضل على المؤن.
    أبما ادخره لقوته ؟ أم بما رجع عنه بخفي حنين ؟ ومماذا يخرج الزكاة ؟ فيسد بها خلة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله الذي هو أوان فاقته.
    أمن المحتمل إن أبا ذر كان يوجب ترك كل هذه ؟ ويريد أن تكون الدنيا مشحونة بالعفاة المتكففين ؟ فلا يرى المتسول إلا شحاذا مثله ، ولا يجد العافي منتجعا لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يتقول به على أبي ذر سنة أو دون سنة.
    تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحب لهم إلا الخير كله ، ولا يريد هذا أي مصلح أو صالح في نفسه فضلا عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم وصلحائهم.
    نعم : غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين (1) وغضب للمسلمين حيث رأى فيئهم مدخرا عنهم تتمتع به سماسرة النهمة والجشع.
يرى فيئهم في غيرهم متقسما وأيديهم من فيئهم صفـرات
    فكان كل ما انتابه من جراء هذا الأخذ والرد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي قال : في الله ؟ قال : في الله.
    قال : مرحبا بأمر الله. راجع ص 316 من هذا الجزء.
    ثم إن ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى : الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم فخصه معاوية بأهل
1 ـ راجع ص 300 من هذا الجزء.

(340)
الكتاب وعممه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين كما أخرجه البخاري ومر بلفظه ص 295 وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفاكين على أبي ذر ظاهر في أنه لا خلاف بينهما في المقدار المنفق من المال وإنما هو في توجيه الخطاب ، فارتأى معاوية إن المخاطب به أهل الكتاب ، وعلم أبو ذر من مستقي الوحي ولحن الآية الكريمة إنها تعم كل مكلف.
    إذن فيجب إما أن يعزى هذا الشذوذ إليهما جميعا ، أو تبرئان عنه جميعا ، فإفراد أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والإحن.
    وأياما كان فالمراد إنفاق البعض لا الكل ، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير لأول وهلة.
    وليست هذه الآية بدعا من آيات أخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل. الآية ( البقرة 261 ).
    وقوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم. ( البقرة 274 ).
    وقوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم. ( البقرة 262 ).
    وقوله تعالى : ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله. الآية ( البقرة 265 ) على أن هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها ، لكن المعلوم بالضرورة من دين الاسلام إنه نزلها إلى البعض ، ولعل النكتة في الاتيان بالجمع المضاف فيها : إن الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلو الهمة حدا لا يبالون معه لو توقفت الحالة على إنفاق كل أموالهم.
    أو إنهم حين يسمحون بإنفاق البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكل بفضل منه ويثيبهم على ذلك.
    وبهذا يعلم السر في قوله تعالى : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيلهم ( الأنفال 36 ).
    وقوله تعالى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. الآية ( النساء 38 ).
    فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. ( آل عمران 92 ).
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس