الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 361 ـ 370
(361)
نظرة في مقال
أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر
    جاء في جريدة الوقت المصرية العدد الثاني لسنتها الأولى الموافقة سنة 1367 ما نصه : ( لجنة الفتوى بالأزهر تقول : ( لا شيوعية في الاسلام ) عن الأهرام الغراء )
    كانت وزارة الداخلية قد أحالت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتابا وتنال فيه مؤلفه مذهب العالم الصحابي أبي ذر الغفاري غفر الله له ، وخلص من بحثه إلى القول بوجود ( الشيوعية في الاسلام ) وذلك لكي تعرف الوزارة رأي الدين في ذلك ، وما إذا كان هذا الكتاب يمكن تداوله. وقد أحال فضيلة الأستاذ الأكبر هذا الموضوع إلى لجنة الفتوى في الأزهر ، فاجتمعت برئاسة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم المفتي السابق ورئيس هذه اللجنة ، وبحثت موضوع الكتاب بحثا مستفيضا ، ثم أصدرت فيه فتواها وقد تلقت وزارة الداخلية هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر. وهذا نصها بعد الديباجة :
لا شيوعية في الاسلام
    إن من مبادئ الدين الاسلام احترام الملكية ولن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه ويتملك بهذه السبل ما يشاء ، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض موقتة وأسباب خاصة كإعانة ملهوف وإطعام جائع مضطر ، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ، ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الاسلامي. هذا هو الواجب. غير إن الاسلام يدعو كل قادر من المسلمين أن يتطوع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البر


(362)
والخير مع عدم الإسراف والتبذير في ذلك كما قال الله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) وكما قال عزوجل في وصف عباده الذين أثنى عليهم : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) و كما تدل عليه السنة في أحاديث كثيرة. وذهب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى إنه يجب على كل شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده في سبيل الله أي في سبيل البر والخير وإنه يحرم ادخاره ما زاد عن حاجته ونفقته ونفقة عياله.
    هذا هو مذهب أبي ذر ولا يعلم أن أحدا من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق إن هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر وذلك لبعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح ، ولذلك استنكره الناس في زمنه واستغربوه منه ، قال الآلوسي في تفسيره بعد ما بين مذهبه ما نصه : ( وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك وكان الناس يقرأون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه. وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك.
    ومن هذا يتبين إن هذا الرأي خطأ وصاحبه مجتهد مغفور له خطؤه بل مأجور على اجتهاده ، ولكنه لا يتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين إنه خطأ لا يتفق هو وما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله وقواعد الدين الاسلامي.
    ولما كان مذهبه داعيا إلى الاخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة وكان أبو ذر وقتئذ في الشام فاستدعاه الخليفة فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس فطلب منه عثمان : أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس فأقام ( بالربذة ) ( مكان بين مكة والمدينة )
    قال ابن كثير في تفسيره : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العمال. وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.


(363)
    وجاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر ما خلاصته : ( إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة ولذلك أمر عثمان أبا ذر أن يقيم بالربذة مع أن في بقائه بالمدينة مصلحة كبيرة لطالبي العلم لما في بقائه بالمدينة من مفسدة تترتب على نشر مذهبه )
    ومما ذكرنا يتبين إن ما في هذا الكتاب ( الشيوعية في الاسلام ) لا يتفق هو ومبادئ الاسلام وقواعده. كما يتبين إنه لا شيوعية في الاسلام بالمعنى الذي يفهمه الناس ، والذي صرح به صاحب هذا الكتاب وسماه ( شيوعية الاسلام ) ومن أجل هذا نرى ألا يذاع مثل هذا الكتاب بين الناس لئلا يتخذها المفسدون في الأرض الهدامون للنظم الصالحة ذريعة للاخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الإيمان والجاهلين بمبادئ الاسلام.
    ( قال الأميني ) : إن الوزارة الداخلية أو شيخ الأزهر لو أحال كل منهما النظر في هذه المهمة إلى لجنة عارفة بحال أبي ذر ، واقفة على مقاله ، مطلعة على كتب الحديث والسير والتفاسير ، بصيرة على ما فيها من الغث والثمين ، خالية عن الأغراض ، بعيدة عن النعرات الطائفية ، لحكمت بما هو الحق الصراح ، وعرفت إن ما دعا إليه أبو ذر لم يكن خارجا عما سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالكية لكل إنسان ، وما يجب عليه إنفاقه من المال ، وما يتطوع به الرجل من النفقات ، وقد أوقفناك قبل هذا على كل ذلك ، وأن هياجه لم يكن موجها إلا إلى أناس معلومين كانوا يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الله ، ويحرمون الأمة من منافعها المفروضة لها فضلا عن المندوب إليها والمرغب فيها. وبذلك كله تعرف إن ما عزت إليه اللجنة الحاكمة من غير بصيرة من وجوب إنفاق ما فضل من المال على حاجة الانسان ونفقته ونفقة عياله زور من القول ، وفند من الرأي ، وليتها أشارت إلى مصدر ما ادعته من مذهب أبي ذر الذي حسبته مخالفا لجمهور الصحابة والتابعين ، وقد أسلفنا لك جملة مما أثر عنه في ذلك ، وليس في شيء منه أي دلالة على ما ادعته من العز والمختلق ، وليتها بينت العلماء الذين تصدوا لنقض مذهب أبي ذر ، وأشارت إلى ما جاءوا به في تدعيم حجتهم ، ولعلها أرادت بهم المؤرخ محمد الخضري ، وأحمد أمين ، وصادق إبراهيم عرجون ، وعمر أبي نصر ، ومحمد أحمد جاد المولى بك ، وعبد الحميد بك العبادي ، وأمثالهم من المحدثين


(364)
المتسرعين الذين منيت بهم البلاد والعباد.
    وأسلفنا لك أيضا قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له على حقيقة رأيه ، واستيائهم لما نكب به من جراء ذلك ، وإجماع صلحائهم على إن ما جاء به كان رايا صحيحا دينيا محضا مستفادا من الكتاب والسنة.
    وعجيب استغرابها مذهب أبي ذر وهي لا تعرفه ، وأعجب منه اعتذارها له ببعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد أبي ذر ، أي اجتهاد هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرعها يبعد حامله عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح ؟ نعم : كم وكم عند القوم من المجتهدين البعداء آرائهم عن مبادئ الاسلام كابن ملجم قاتل الإمام أمير المؤمنين ، وأبي الغادية قاتل عمار ، وابني هند والنابغة قائدي الفئة الباغية ، وأمثالهم ؟ (1) لكن شتان بين هؤلاء وسيد غفار ؟.
    أو ليس مما يضحك الثكلى ويبكي كل مسلم ؟ أن يحسب إن مذهب أبي ذر بعيد عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح ، وهو الذي لم يعبد الصنم قبل إسلامه وصلى سنين قبل المبعث الشريف موليا وجهه إلى الله وهو محسن ، وهو ربع الاسلام ورابع المسلمين ، وقد طوى جل سنيه على عهد النبوة في صحبة الرسول الأعظم ولم يفتأ متعلما منه ، مصيخا إلى كل ما يدعو إليه ويهتف به ، فتنتقش كل تلكم المثل العليا في نفسه كما تنتقش الصور في المرآة الصافية ، بل تثبت فيها كما تثبت في العدسة اللاقطة.
    كان صلى الله عليه وآله يدنيه دون الصحابة إذا حضر ، ويتفقده إذا غاب ، وكان شحيحا على دينه حريصا على العلم ، وقد سال رسول الله صلى الله عليه وآله عن كل شيء حتى عن مس الحصى في الصلاة ، وقد صب صلى الله عليه وآله في صدره ما صبه جبريل وميكائيل في صدره صلى الله عليه وآله ، وعرفه صلى الله عليه وآله لأمته بأنه شبيه عيسى هديا وسمتا ونسكا وبرا وصدقا و خلقا وخلقا (2).
    وما ظنك برجل قال فيه باب مدينة علم النبي مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لما
1 ـ ممن أسلفنا ذكرهم في الجزء السابع ص 105 ، 106 ط 2.
2 ـ راجع في كل ذلك صفحة 316312 من هذا الجزء.


(365)
سئل عنه : وعاء ملئ علما ثم أوكى عليه ؟ (1)
    أو ليس من العجب العجاب إن من هو هكذا وهو في عهد النبوة لم يزل في مدينة الرسول يتلقى منه صلى الله عليه وآله كل إفاضاته ، ويستقي من مستقى الوحي يكون مذهبه بعيدا عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح ، ويكون رأي كعب الأحبار اليهودي حديث العهد بالاسلام أو من بعده بعد لأي من عمر الدهر وقد نمى وترعرع وشب و شاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقايق ظلمات بعضها فوق بعض قريبا منها و يكون صاحبه عارفا بها حاكما على مثل أبي ذر بما حكم ، كأن الحقايق الإسلامية نصب عينه دون سيد غفار ، أو معلقة على شحمة أذنه يسمع رنتها دون ذلك الصحابي العظيم ؟.
    هب أنا تنازلنا للجنة الحاكمة عن كل ما قلناه ، ولكن هل يسعنا التغاضي عما جاء به الحفاظ وأئمة الحديث من طرق صحيحة عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله في إطراء الرجل والثناء عليه وإكباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شيء من أطواره في أولياته أو أخرياته ؟ وهو العارف بعلم النبوة بكل ما ينهض به أبو ذر بعده ، فهلا بدر صلى الله عليه وآله إلى ردعه عما سينوء به ؟ بدل أمره إياه بالصبر على ما ينتابه من جراء ما قام به ودعا إليه ، بدل عده ما أصابه من المحن مما هو لله وفيه ، بدل إخباره بكل ما يجري عليه من النفي والجلاء مقصورا على ذلك من غير ردع.
    ونسائل اللجنة الحاكمة عن الذين استنكروا مذهب أبي ذر واستغربوه منه من الصحابة أهم من علية الصحابة أو من أذنابها ؟ وبطبع الحال إنها ستجيبنا إنهم الحكم بن أبي العاص ، وأخوه الحارث بن الحكم ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن خالد ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإن شئت قلت حثالة من بني أمية البعداء عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح وهن حذا حذوهم في الإكباب علي حطام الدنيا واكتناز المال من غير حله ممن أقلقوا السلام ، وجروا الويلات إلى خليفة الوقت ، وحرموا ضعفاء الأمة عن حقوقهم ، وولغوا في الدماء المحرمة وأثاروها حروبا دامية ، وألقحوها فتنة شعواء ، فلم تزل عداء محتدما
1 ـ راجع ص 311 من هذا الجزء.

(366)
تتلقاها الأجيال من بعدهم حتى انتهت إلى عصرنا الحاضر ، وهو الذي حفز اللجنة الحاكمة على رميها القول على عواهنه ، ولكن صافق أبا ذر على رأيه الصحيح الموافق لمبادئ الدين الإمام أبو السبطين وشبلاه الإمامان وصلحاء الأمة كلهم ومن استاء لنكبات أبي ذر ونقم بها على خليفة الوقت.
    ( حن قدح ليس منها )
    لقد جرأ تقحم هذه اللجنة الجائرة في حكمها ( جبران ملكون ) الصحافي النصراني صاحب جريدة الأخبار العراقية في سنتها العاشرة 1368 ه‍ في عددها المتسلسل 2503 الصادر في جمادى الأولى ، فطفق يرقص لما هنالك من مكاء وتصدية ، والمسكين لا يعرف مبادئ الاسلام ولو عرفها لا تبعها ، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزههم وذب عنهم ، لكنه حسب ما لفقوه حقيقة راهنة وصبها في بوتقة من القول هو أربى في إفادة ما حاولوه غير إنه يطفو عليه القوارص ولواذع قال :
    لكن أبا ذر الغفاري يعتقد إنه يتعين على كل فرد أن ينفق في سبيل الله كل ما يفيض عن حاجته وحاجة أسرته ، ولكن لم يعرف إن أحدا من الصحابة شاطره هذا الرأي ، وإنما عارض الكثير من عقلاء المسلمين وحكمائهم في هذا المبدأ ، فلا شك إذن في أن أبا ذر كان مخطئا في رأيه ، ولا ينبغي إتباعه بعد أن ثبت أنه خطأ ، وإن رأيه لا يتفق مع القرآن ولا السنة ولا المبادئ الإسلامية وتعاليمها.
    ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه ، أما الأول فإن الرجل كما قلناه بعيد عن كل ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتى يتسنى له الحكم البات فيها ، وإنا أحسن ظنه بأولئك المتقولين زاعما إنهم هم الأقرباء من المبادئ الإسلامية العرفاء بحقيقة ما حكموا به ، ولو كان الأمر كما زعم لكان الحق معهم ، وإن كان لنا أن نؤاخذه بأن مرحلة حسن الظن لا يكتفى بها في باب القضاء الحاسم على عظيم من عظماء الأمة ، فكان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلكم المزاعم وهو في عاصمة من عواصم الاسلام ( بغداد ) وبمطلع الأكمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين ( النجف الأشرف ) وفيها العلماء ، والمؤلفون ، والمحققون ، والجهابذة ، وعباقرة الوقت في كل جيل ، فكان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالك أو هاهنا ، ولهذا لسنا نستعتبه


(367)
لخروجه عن الطريقة المثلى في القضاء ، ونحن نعد هذه وأمثالها سيئة من سيئات اللجنة الحاكمة وهي المؤاخذة بها. وكأني بها وهي تحسب إنها تحسن صنعا ، وتبتهج بما نشرته من الحكم الساقط وقذف عظيم من عظماء الأمة بما تبرأ منه ساقة المسلمين ، وتراه دفاعا عن بيضة الاسلام المقدس ، وكفاحا للشيوعية الهدامة ، وردما لثلمة أتت على الدين من ذلك المبدء التعس ، وكأنها جاءت بقرني حمار لما استشهدت على ما ارتأته بأقاويل أناس زور عن مواقف الحق والصدق.

    شهود اللجنة
    لقد استشهدت اللجنة على ما أرادت بكلام الآلوسي وابني كثير وحجر كأنها لم تجد في أبي ذر كلاما لغير هؤلاء من ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم وما أذهلها أو تذاهلت هي عما قدمناه من الكلمات فيه ؟ وما كان أغناه عن الركون إلى هذه التافهات المختلقة المائنة ؟ لكنا نعذرها على ذلك لأنها تتحرى ما يدعم دعواها ، وما أشرنا إليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم الدعوى وتدحرها ، ولذلك اقتصرت في النقل على بعض تلكم الكلم ، وإنما أسقطت البعض الآخر مما لفقوه للتهافت الظاهر بينها ، فكأنها شعرت بذلك فحذفته ، وهي تحسب أن البحاثة لا تراجع تلك الكتب ولا تقف على تناقضها ، أو أن الآراء لا مناقشة في حسابها وليس ورائها محاسب ولو بعد حين ، فنقول هاهنا : أما الآلوسي فإليك تمام كلامه في تفسيره 10 : 87 قال : في تفسير قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
    أخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله عنه ، وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي عنه في المدينة ، فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى أن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له : يا أبا ذر ! إن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب إنفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها ؟ فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله فيه : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) فرفع عصاه ليضربه وقال


(368)
له : يا يهودي ! ما ذاك من هذه المسائل ؟ فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضي الله عنه فلم يرجع حتى ضربه ، وفي رواية : إن الضربة وقعت على عثمان ، وكثر المتعرضون على أبي ذر في دعواه ذلك ، وكان الناس يقرءون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه ، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك ، فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها ، وأشار إليه بالذهاب إلى الربذة ، فسكن فيها حسبما يريد ، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة ، ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

في هذه الكلمة مواقع للنظر
    1 ـ قوله : أخذ بظاهر الآية. الخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها وليس فيها إيجاب لإنفاق جميع المال المؤد زكاته الفاضل عن الحاجة ، فأي ظهور فيها يعاضد ما عزوه إلى أبي ذر ؟ حتى يسعه الأخذ به والتعويل عليه ، وإنما هي زاجرة عن الاكتناز الذي بيناه في صفحة 320 ولم يؤثر قط عن أبي ذر المصارحة ولا الإشارة إلى شئ مما عزاه إليه ، بل أوقفناك على أن كل ما روي عنه أو فيه مناف لذلك.
    2 ـ ما رتبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية وقد أسلفنا في صفحة 295 عن صحيح البخاري من أن النزاع بينهما كان في نزول الآية لا في مفادها فكان معاوية يزعم إنها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يعمهما عليهم وعلى المسلمين ، ومر أيضا مراد أبي ذر من الانفاق ومقدار المنفق من المال وإنه ليس ما فضل عن الحاجة وإنما هو ما ندب إليه الشرع واجبا أو تطوعا ، ولم يكن إنكار إلا على الاكتناز الذي هو لدة الاحتكار في الأطعمة يحر الملأ عن منافع النقدين ونمائهما ، ويحرم الفقراء خاصة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين ، وقد فصلنا القول في هذه كلها.
    3 ـ ما رواه من قصة كعب الأحبار. لقد أقرأناك المأثور من هذه القصة و كيفية الحال فيها واختلاف ألفاظها وليس في شيء منها أكثر ما لفقه الآلوسي من قول الرجل لأبي ذر : إن الملة الحنيفة. الخ. ومن استعاذته بظهر عثمان ، وعدم اكتراث أبي ذر لذلك ووقوع الضربة على عثمان ، ووليته ذكر لما تقوله مصدرا ولو من


(369)
أضعف الكتب أو من مدونات القصاصين ، لكنه أراد أن ينشب على أبي ذر ثورة وهو في عالم البرزخ بوقوع الضربة على عثمان ، غير أنه أخفق ظنه وأكدى أمله بفضل التنقيب الصحيح.
    ونذكر لك هنالك لفظ أحمد في مسنده 1 ا : 63 من طريق مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر : إنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له و بيده عصاه فقال عثمان رضي الله عنه : يا كعب ! إن عبد الرحمن توفي وترك مالا ، فما ترى فيه ؟ فقال : إن كان يصل فيه حق الله فلا باس. فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق. أنشدك الله يا عثمان ! اسمعته ؟ ثلاث مرات. قال : نعم.
    ومنه يتجلى إنها قضية في واقعة ترجع إلى مال عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهبا قطع بالفؤس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وبلغ ربع ثمنه ثمانين ألفا ، وقد أعطي له ذلك بغير استحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون ، فكانت أثرة ممقوتة واكتنازا منهيا عنه ، وما كانت فتوى كعب تبرر شيئا من عمله لأنه لم يكن من نماء زرع أو نتاج ماشية أو ربحا من تجارة حتى يطهره إخراج حقوق الله منه ، وإنما كان المال كله لله ، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء ، وإن كان لابن عوف فيه حقا فعلى زنة بقية المسلمين فحسب.
    والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلى كعب خاصة وهو يهودي قريب العهد بالاسلام وفي المنتدى مثل أبي ذر عالم الصحابة ، والمستفتي جد عليم بحقيقة ذلك المال لأنه هو الذي أدره عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشورى ، ولم تكن ثروته الشخصية تفي لتلكم العطايا الجزيلة ، فليس لها مدر إلا مال الله ، فعلى أبي ذر البصير بمواقع أحكام الشرع أن ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك العطاء ، وعلى من استباح أخذه واكتنازه ، وعلى من حاول أن يبرر تلكم الأعمال. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
    وإن كانت توجب نظرية أبي ذر هذه الشيوعية أو الاشتراكية ؟ فقد سبقه إليها


(370)
الخليفة الثاني ببيان أو في وتقرير أوضح ، أخرجه الطبري في تاريخه 5 : 33 من طريق أبي وائل قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.
    وأخرجه ابن حزم في المحلى 6 : 158 فقال : هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة
    وفي عصر المأمون 1 : 2 : حرم عمر بن الخطاب على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال ، كل ذلك يدفعه لهم من بيت المال ، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة.
    نعم : عزبت عن اللجنة نظرية الخليفة الثاني في ناحية المال أو أن عظمة الخلافة صدتهم عن الجرأة عليه لكن أبا ذر لم يكن خليفة ، فتمنعهم عظمته عن التقول عليه ، وقد مات في المنفى فريدا وحيدا لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهزه بعد موته فيتوثب عليه حتى الخنافس والديدان ، غير إن له يوما آخر يحشر فيه أمة واحدة هنالك تبلى السرائر ويعلم ما ارتآه أبو ذر وما رمي به. ذلك يوم مشهود له الناس ، والحكم هنالك لله الواحد القهار.
    4 ـ ما عزا إليه من الحدة وهو ينافي تشبيه رسول الله صلى الله عليه وآله إياه بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (1) فهو ممثل المسيح عليه السلام في هذه الأمة ، و أنى تقع الحدة منه ؟ إلا أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم ، والخشونة في ذات الله ، وأبو ذر في الرعيل الأول منهم ، فليس من المستطاع أن نخضع لصحة هذه الرواية وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله يقربه ويدنيه ويحبه.
    فلا تكاد تنهض حجة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح لأن المعلوم من حال أبي ذر هو ما أخبر بن النبي الصادق الأمين ، وعلى فرض صحتها قضية في واقعة لا تعدو أن تكون فلتة ليست لها لدة ، ولعلها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شراح صحيح البخاري (2) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدة فيحمل ما صدر
1 ـ راجع ص 314 312 من هذا الجزء.
2 ـ راجع فتح الباري لابن حجر ، وإرشاد الساري للقسطلاني ، وعمدة القاري للعيني.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس