الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 371 ـ 380
(371)
منه في المقام عليها.
    وكأن الرجل هاهنا ذهل عما ذكره في كتابه ( مسائل الجاهلية ) ص 129 من قوله : إن أبا ذر رضي الله تعالى عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تساب هو وبلال الحبشي المؤذن فقال له : يا ابن السوداء. فلما شكا بلال إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : شتمت بلالا وعيرته بسواد أمه ؟ قال : نعم. قال : حسبت إنه بقي فيك شيء من كبر الجاهلية. فألقى أبو ذر خده على التراب ثم قال : لا أرفع خدي حتى يطأ بلال خدي بقدمه.
    وهكذا رواه البرماوي ، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري 1 : 113 وقال : زاد ابن الملقن : فوطئ خده.
    هذا أبو ذر وهذا أدبه وكرم أخلاقه ، وإنه لعلى خلق عظيم.
    5 ـ ما ادعاه من كثرة المتعرضين على أبي ذر. الخ. ليته سمى واحدا من أولئك المتعرضين ، أو سمى مصدرا ولو من أتفه المصادر يصافقه على هذه الدعوى ، وإنما كانت الصحابة يومئذ بين مصافق لأبي ذر على هتافه ، ومسل له على نكبته ، ومستاء على ما أصابه من الأذى ، وناقم على من فعل به ذلك ، فلم يكن عندئذ من يرد عليه قوله ، ويحفظ آية المواريث وأبو ذر ناسيها وهو وعاء ملئ علما بشهادة من أعلم الأمة باب مدينة علم النبي صلى الله عليهما وآلهما.
    كان من العزيز على صلحاء الصحابة المنابأة بالفادح الجلل تسيير أبي ذر إلى الربذة لكرههم ذلك ونبوء سمعهم عنه ، وكان الصحابي الصالح يسترجع مرارا لما قرع سمعه ذلك النبأ المزري ، وكان يقول : ارتقبهم واصطبر ، اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه ، اللهم وإن اتهموه فإني لا أتهمه ، اللهم وإن استغشوه فإني لا استغشه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر إلى أحد (1).
    ولعل الآلوسي يريد بمن ذكرهم من المتعرضين طغمة آل أمية المتخذين مال الله دولا ، وعباده خولا ، ودينه دخلا ، وكتابه دغلا ، غير أنهم ما كانوا يجادلون بالقرآن وما كانوا يعرفون منه إلا ظاهرا من قوله تعالى : ولا تنس نصيبك من الدنيا.
1 ـ راجع من هذا الجزء صفحة 315.

(372)
وكانت مجادلته مجالدة بالحراب والعتاد ، وكان قولهم في ذلك صخبا وجلبة ، فتبعهم الآلوسي تحت جامع النزهة.
    6 ـ حسبانه بأن خروجه إلى الربذة كان مللا منه من تعرض الناس وازدحامهم عليه مستغربين منه رأيه بعد أن استشار عثمان فأشار إليه بالذهاب إليها فسكن فيها حسبما يريد. وهذه أكذوبة أخرى فقد مر فيما تقدم إنه نفي إلى الربذة ، ومنع الناس عن مشايعته ، فلم يدن منه أحد إلا مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وابناه الإمامان وعمار معهم ، وما جرى بينهم وبين مروان ، ثم ما جرى بين الإمام وبين عثمان ، وما قال له مشايعوه من كلمات التسلية ، وما قاله أبو ذر نفسه لمن زاره في الربذة ، وقول عثمان لعمار : يا عاض أير أبيه ! أتحسب أني ندمت من تسييره ؟ إلى كلمات أخرى كلها صريحة في تسييره على صورة غير مرضية ، ونقمة الصحابة جمعاء على من فعل به ذلك. وقد عرفت قبل هذه كلها إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك النفي والإخراج بالرغم من أشواق أبي ذر المحتدمة على جواره مرقد النبي الأعظم ، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدم من صحائف هذا الجزء ، لكن الآلوسي أراد أن يخفف وطأة النقد على من والاه ورد النقمة عنه فصدر للقصة صورة خيالية ، وحسب أن التنقيب لا يكشف عن عوارها ، وليت اللجنة الحاكمة لم تتغافل عن إن هذه الجملة الأخيرة تنافي ما استشهدت به من كلام ابني كثير وحجر فقد اعترفا بأن خروج أبي ذر إلى الربذة كان تسييرا بلا اختيار منه غير أنهما حاولا الاعتذار عن قبل من ارتكب ذلك.
    7 ـ قوله : هذا ما يعول عليه في هذه القصة. الخ. انظر إلى هذا الرجل كيف يحاول أن يغمط الحقائق الثابتة حسب ميوله وأهواءه ، وهو يزعم أن الأمة ستتخذ ما لفقه أصلا متسبعا ، فتمحو الكتب وتلقي الستار على صفحة التاريخ ، وتحذف الأحاديث من مدوناتها وتضرب صفحا عن غير كتابه مما ثبت فيها كل ما نفاه هو كما قدمنا لك ذلك في أبحاثنا هذه ؟ وقصارى القول إن العلماء في هذه المسألة فريقان : فقسم سرد تلكم الأحوال سردا تاريخيا أو أخرجها إخراج الحديث من غير تعرض لما لها أو عليها وقد عرفت هؤلاء ، وفريق يعترف بكل ما هنالك غير إنه يعتذر عمن ارتكب هاتيك الأحوال بأنها كانت لحفظ أبهة الخلافة ، وصيانة منصب الشريعة ، وإقامة حرمة الدين


(373)
(1) وليس أحد من هؤلاء من الشيعة حتى يجعل الآلوسي روايتهم غير معول عليها ، وهل من الجائز أن لا يتفطن أعلام القوم وحفاظهم في كل تلكم القرون الخالية لما جاء به الآلوسي ، وحسبوا أولئك ما روته الشيعة صحيحا وجعلوه من مطاعن عثمان المتسالم عليه عندهم ، وجاءوا ينحتون له الأعذار في تبريره ؟ وبعد هذه كلها فلا عذر للجنة الحاكمة في أن تعتمد على مثل هذه الكلمة التي مزيجها الكذب ، وحشوها الأغلاط ، والعوار مكتنف بها من شتى نواحيها ، هذا حال الشاهد الأول الذي استشهدت به اللجنة الحاكمة.
    الشاهد الثاني
    أما شاهد اللجنة الثاني وهو ابن كثير ، وما أدراك ما ابن كثير ، وما أراك ما كتاباه في التفسير والتاريخ ؟ مجاميع الفحش ، وموسوعات البهت ، وكراريس الدجل ، ومن تدجيله هاهنا ما ادعاه من نسبة تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال إلى أبي ذر و إنه كان يفتي به ويحثهم عليه. الخ. على حين إنه لا يوجد لأبي ذر أي فتوى تصرح أو تلوح بذلك التحريم أو حث له على ذلك أو أمر به أو تغليظ فيه ، غير ما لفقه الأفاكون في الأدوار المتأخرة من عزو مختلق ، نعم : وربما يتخذ مصدرا لهذه الأفائك ما شوه به الطبري صحيفة تاريخه من مكاتبة السري الكذاب من طريق شعيب المجهول عن سيف الساقط المتهم بالزندقة ، الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والأمانة وعرفت حال روايتهم خاصة في ص 328326 ، وغير خاف ذلك على مثل ابن كثير و من لف لفه ، لكنهم نبذوا الرجل نبذة ليسقطوه عن محله ، ويسقطوا آرائه عن الاعتبار فتشبثوا بالحشيش كالغريق ، لكنهم خابوا وفشلوا ، وإنما المأثور عنه تلاوة الآية الكريمة ، ونقل السنة الواردة عن نبي الاسلام في اكتناز الذهب والفضة ، وأما الآية الكريمة فقد عرفت مقدار دلالتها وإن الخلاف لواقع بين أبي ذر ومعاوية إنما هو بالنسبة إلى نزولها دون المفاد ، وإنه لو صحت النسبة لوجب قذفهما معا أو تبرئتهما معا.
    علي أن لأبي ذر في ما ادعاه من شأن الآية مصافقون فروى ابن كثير نفسه عن ابن عباس : إنها عامة. وعن السدي أنه قال : هي في أهل القبلة. فهو أيضا يوافقه في الجملة.
1 ـ راجع الرياض النضرة 2 : 146 ، الصواعق ص 68 ، تاريخ الخميس 2 :

(374)
    وفي تفسير الخازن 2 : 232 : قال ابن عباس والسدي : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين ، وقال القرطبي في تفسيره 8 : 123 : قال أبو ذر وغيره : المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين ، وهو الصحيح لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال : و يكنزون بغير ( والذين ) فلما قال : ( والذين ) فقد استأنف معنى آخر يبين إنه عطف جملة على جملة ، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء ، قال السدي : على أهل القبلة.
    وقال الزمخشري في الكشاف 2 : 31 : ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين. وقال البيضاوي في تفسيره 1 : 499 : ويجوز أن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه. وقال الشوكاني في تفسيره 2 : 339 : والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك. وقال الآلوسي في تفسيره 10 : 87 : والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون وهو الأنسب لقوله : ولا ينفقونها في سبيل الله.
    فرأي أبي ذر أخذا بمجاميع هذه الكلمات هو الصحيح والأنسب والأولى ، وما تفرد به بل ذهب إليه آخرون ، فلماذا لا يقذفون هؤلاء بما قذف به أبو ذر ، وهل لأبي ذر حساب آخر يسوغ الفرية عليه دون أولئك ؟ نعم. نعم. وأما السنة فقد روى نظير ما رواه غير واحد من الصحابة ، لكن القوم لم يضمروا على أحد منهم من الحقد ما أضمروه على أبي ذر لمكان رأيه في الإمامة منذ الصدر الأول ، ونزعته العلوية التي لم يزل مجاهرا بها ، ومناوئته للبيت الأموي ، فحاولوا تشويه ذكره وتفنيد رأيه بكل ما تيسر لهم ، فمن أولئك الصحابة :
    1 ـ عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله على بلال وعنده صبرة من تمر فقال : ما هذا يا بلال ؟ قال : أعد ذلك لأضيافك. قال : أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم ؟ أنفق بلال ! ولا تخش من ذي العرش إجلالا.
    رواه البزاز بإسناد حسن والطبراني في الكبير وقال : أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنم ؟.
    2 ـ أبو هريرة قال : إن النبي صلى الله عليه وآله عاد بلال فأخرج له صبرا من تمر فقال : ما هذا


(375)
يا بلال ؟ قال : ادخرته لك يا رسول الله ! قال : أما تخشى أن يجعل لك بخار في نار جهنم ؟ أنفق يا بلال ! ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
    رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن.
    3 ـ أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا توكي فيوكا عليك. وفي رواية : أنفقي ، أو أنفحي ، أو أنضحي ، ولا تحصي فيحصي الله عليك ، ولا توعي فيوعي الله عليك. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
    4 ـ بلال مرفوعا : يا بلال ! مت فقيرا ولا تمت غنيا ، قلت : وكيف لي بذلك ؟ قال ما رزقت فلا تخبأ ، وما سئلت فلا تمنع. فقلت : يا رسول الله ! وكيف لي بذلك ؟ قال : هو ذاك أو النار.
    رواه الطبراني في الكبير ، وابن حبان في كتاب الثواب ، والحاكم وصححه.
    5 ـ أنس بن مالك قال أهديت للنبي ثلاث طوائر فأعطى خادمه طائرا فلما كان من الغد أتته بها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد ، فإن الله يأتي برزق غد. رواه أبو يعلى والبيهقي ورجال أبي يعلى ثقات.
    6 ـ أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يدخر شيئا لغد.
    رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي.
    7 ـ سمرة بن جندب مرفوعا : إني لألج هذه الغرفة ما ألجها خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه. رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
    8 ـ أبو سعيد الخدري مرفوعا : ما أحب أن لي أحدا ذهبا أبقى صبح ثالثة و عندي منه شيء إلا شيء أعده للدين.
    رواه البزار وهو إسناد حسن وله شواهد كثيرة.
    9 ـ أبو أمامة : إن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يوجد له كفن فأتي النبي صلى الله عليه وآله فقال : انظروا إلى داخلة إزاره فأصيب دينار أو ديناران فقال : كيتان
    10 ـ توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : كية. ثم توفي آخر فوجد في مئزرة ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : كيتان.
    رواه أحمد والطبراني من عدة طرق ، وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الله


(376)
ابن مسعود.
    11 ـ سلمة بن الأكوع قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله فأتي بجنازة ثم أتي بأخرى فقال : هل ترك من دين ؟ قالوا : لا. قال : فهل ترك شيئا ؟ قالوا : نعم ثلاثة دنانير. فقال باصبعه : ثلاث كيات.
    أخرجه أحمد بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه باللفظ المذكور والبخاري نحوه
    12 ـ أبو هريرة : إن أعرابيا غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر فأصابه من سهمه ديناران فأخذهما الأعرابي فجعلهما في عباءة فخيط عليهما ولف عليهما ، فمات الأعرابي فوجد الديناران فذكر ذلك لرسول الله فقال : كيتان.
    رواه أحمد وإسناد حسن لا بأس به.
    هذه جملة من تلكم الأحاديث ، وقد جمعها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 1 : 258 253.
    13 ـ أخرج أحمد في مسنده 1 : 300 من طريق ابن عباس قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفت إلى أحد فقال : والذي نفس محمد بيده ما يسرني إن أحدا يحول لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت ادع منه دينارين إلا دينارين أعدهما للدين إن كان.
    14 ـ أخرج ابن كثير نفسه في تفسيره 2 : 352 من طريق عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غير لا يكون عبد يكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته.
    رواه سفيان عن عبد الله بن عمر بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود ، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة.
    15 ـ حكى ابن كثير عن أبي جعفر ابن جرير الطبري من طريق ثوبان مرفوعا : من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك. ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده. قال : ورواه ابن حبان في صحيحه.
    16 ـ ونقل في ص 353 عن ابن أبي حاتم بإسناده من طريق ثوبان مرفوعا : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه.


(377)
    17 ـ وذكر عن أبي يعلى بالإسناد من طريق أبي هريرة مرفوعا : لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
    18 ـ أخرج أحمد من طريق عبد الله بن أبي الهذيل قال : حدثني صاحب لي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : تبا للذهب والفضة وقال : إنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ! قولك : تبا للذهب والفضة. ماذا ندخر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تعين على الآخرة. تفسير ابن كثير 2 : 351.
    19 ـ أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : لما نزلت في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال : يا رسول الله ! أي المال نتخذ ؟ قال : قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة.
    20 ـ وقبل هذه كلها ما أخرجه إمام الحنابلة أحمد في مسنده 1 : 62 من طريق عثمان بن عفان من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : كل شيء سوى ظل بيت ، وجلف الخبز ، وثوب يواري عورته والماء ، فما فضل عن هذا فليس لابن آدم فيهن حق. وأخرجه أبو نعم في حلية الأولياء 1 : 61.
    هذه الأحاديث أخرجها أئمة الفقه وحفاظ الحديث وأعلام التفسير في تآليفهم محتجين بها لما ارتأوه من الترغيب إلى الزهد والتطوع بالانفاق ، والترهيب عن الاكتناز والادخار ، ولم يتكلم أحد منهم في راو من رواتها ، وما أتهم أي منهم بما اتهم به أبو ذر ، فإن كان للتأويل والحمل على معنى صحيح فيها مجال فهي وما رواه أبو ذر على شرع سواءا فأي وازع عن تأويل ما جاء به أبو ذر ؟ ولماذا رشقوه بين أولئك الصحابة بنبال القذف ؟ مع أن أبا ذر لم يكن هتافه ذلك للدعوة إلى تهذيب النفس بالزهادة في حطام الدنيا والفوز بمراتب الكمال ، وإنما كان نكيره على أمة اتخذت كنوزا مكدسة من الذهب والفضة على غير وجه حلها كما فصلنا القول في ذلك تفصيلا.
    وإذ لم يجد ابن كثير شاهدا قويما لما ادعاه من أقوال أبي ذر تشبث بعمله فقال : وقد أحضره رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها


(378)
من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال : ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
    وليس فيه إلا زهد أبي ذر المهلك سبده ولبده ، ولم يكن عمله هذا عن فتوى و لا إيجاب ، وإنما كان تطوعا ومبالغة في الزهادة والجود ، وقد سبقه إلى ذلك سيد البشر صلى الله عليه وآله ، عاش صلى الله عليه وآله كما عرفت ومات ولم دع دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا ، وترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (1) وحذا حذوه آله سلام الله عليهم الذين كانوا يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (2) الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة وهم راكعون (3) الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية (4) وقد خرج الإمام السبط الحسن الزكي من ماله مرتين ، وقاسم الله عزوجل ماله ثلاث مرارا حتى أن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ، ويعطي خفا ويمسك خفا (5)
    وما أكثر الزهاد أمثال أبي ذر في أمة محمد صلى الله عليه وآله وقد أفنت الزهادة كل مالهم من ثمة ورمة وقد عد ذلك في الجميع فضيلة يذكرون بها ويشكرون عليها إلا في أبي ذر شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة فاتخذوه مدركا لتلك الفتوى المزعومة غفرانك اللهم وإليك المصير.

    استشهاد اللجنة بكلمة ابن حجر
    أما الشاهد الثالث ( ابن حجر ) فليت اللجنة الحاكمة لم تلخص كلامه ففيما سرده في فتح الباري 3 : 213 ما لا يلائم خطة اللجنة ففيه من أعلام النبوة ما قدمنا ذكره من عهد النبي صلى الله عليه وآله بذلك النفي والإخراج في سياق يؤدي أن أبا ذر سيكون مضطهدا في ذلك مظلوما ، ويؤكد هذا السياق ما أسلفناه من قوله صلى الله عليه وآله : يا أبا ذر ! أنت
1 ـ طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 836 ، 837 ، مسند أحمد 1 : 300 ، تاريخ الخطيب البغدادي 4 : 396.
2 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث 111 107 ط 2.
3 ـ راجع ما فصلناه في الجزء الثاني ص 47 ، 52 ، ج 3 : 163155 ط 2.
4 ـ نزلت في أمير المؤمنين كما مر في هذا الجزء. ص 54.
5 ـ حلية الأولياء 2 : 38 ، صفة الصفوة 1 : 330 ، الصواعق ص 82.


(379)
رجل صالح وسيصيبك بلاء بعد. قال : في الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله : في الله. قال : مرحبا بأمر الله. وما كان في الله وبعين الله ويعرف صلى الله عليه وآله صاحبه بالصلاح ، ويراه في هديه ونسكه وزهده شبيه نبي معصوم كعيسى سلام الله عليه ، ويأمره بالصبر لا يكون فاسدا ولا تترتب عليه مفسدة ، إذن فلا أدري أين يكون مقيل نظرية ابن حجر الملخصة عند اللجنة من الصدق ؟
    ومما ذكره ابن حجر في فتح الباري ما حكاه عن بعض أعلام قومه : الصحيح أن إنكار أبي ذر كان على سلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
    نعم هذا هو الصحيح كما قدمناه في صفحة 335 ويعرفه كل من سبر التاريخ و الحديث. إذن فليس من المتسالم عليه ما حاوله ابن حجر في ملخص قوله وتحرته اللجنة في حكمها والاستشهاد بكلامه ، مثل هذا الأساس لا تبنى عليه برهنة ، ولا يصح به حكم لأي إنسان أو عليه لكن ابن حجر قال ، والجنة حكمت ، والقوة نفذت ذلك الحكم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
    هؤلاء شهود اللجنة الحاكمة ، وقد اختبرت أنت أيها القارئ حالهم ومقالهم ، إذن فما ظنك بما ابتنوه على ذلك من شفا جرف هار ؟ نحن أعلم بما يقولون ، وما أنت عليهم بجبار ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.
    هاهنا أكرر مخاطبة اللجنة بأن دليلها في إثبات شيوعية أبي ذر غيرنا ناهضة لإثبات ما ترتأيه لأن نظرية أبي ذر على ما ادعته هي وجوب إنفاق ما فضل عن حاجة الانسان ، ومقتضاه أنه يملك التصرف في قدر الحاجة ، والشيوعي لا يقول بذلك وإنما يحاول إلغاء الملكية رأسا ، ثم إن الحكومة الشيوعية تدر عليه قدر الحاجة أو بمقدار العمل صونا لحياته فهو كالأجير عندها يقتات بما يعمل أو كعائلتها تسد عيلتها بمقدار خلتها ، على ما قدمناه من أن رأي أبي ذر لا يستوعب المال كله وإنما يريد الإخراجات الواجبة وما تدعو إليه العاطفة البشرية والمروءات من الأعطيات المندوبة ، فاللجنة لم تعط النصفة حقها في إسناد ما أسندته إلى أبي ذر ، كما إنها لم تؤد حق الرد على الشيوعية الممقوتة ، فهي مائنة فيما تقول خبريا أو مخبريا ، وجائرة في حكمها من حيث لا تشعر.
    كان حقا علينا أن ننظر في بقية الكلمات المقولة في شيوعية أبي ذر على وجه.


(380)
التفصيل ككلمة الخضري في المحاضرات 2 : 36 ، 37. و
    عبد الحميد بك العبادي عميد كلية الآداب في ( صور من التاريخ الاسلامي ) ص 13109 تحت عنوان ( أبو ذر الغفاري ). و
    أحمد أمين في فجر إسلامه 1 : 136. و
    محمد أحمد جاد المولى بك في ( إنصاف عثمان ) ص 4541. و
    صادق إبراهيم عرجون في ( إنصاف عثمان ) ص 35. و
    عبد الوهاب النجار في ( الخلفاء الراشدون ) ص 317.
    ومن حذا حذوهم ممن اقتحم معارك التاريخ والأبحاث الخطرة من دون منة علمية تنقذهم من القحمة وصرعة الاسترسال التي لا تستقال ، لكنهم لم يألوا بأكثر مما فندناه غير ما ذكره بعضهم (1) من أن أبا ذر أخذ المبدأ الشيوعي من عبد الله بن سبا إستنادا إلى رواية الطبري السابقة في ص 326 عن السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي ، وقد عرفناك هنالك ما في رجالها من أفاك وضاع ، أو معتد أثيم ، أو ضعيف متفق على ضعفه ، أو مجهول لا يعرف ، وما في متنها من ملامح الكذب وآثار الافتعال.
    على أن عبد الله بن سبا المعروف باليهودية والافساد وتفريق كلمة المسلمين الذي عزوا إليه ثورة المصريين ، وإنه يمم الحواضر الإسلامية لإلقاح الفتن وإثارة الملأ على خليفة الوقت ، وبث تلكم المبادئ التعيسة ، لم ينظر إليه رامق شزرا ، ولا وقع عليه قبض من سلطات الوقت ، ولا أصابه نفي عن الأوساط الدينية ، وقد ترك يلهو ويلعب كما تشاء له الميول والشهوات ، لكن النقمات كلها توجهت على الأبرار من صحابة محمد صلى الله عليه وآله والتابعين لهم بإحسان كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، ومالك بن الحارث الأشتر ، وزيد وصعصعة ابني صوحان ، وجندب بن زهير ، وكعب بن عبدة الناسك ، ويزيد الأرحبي العظيم عند الناس ، وعامر بن قيس الزاهد الناسك ، وعمرو بن الحمق المعروف بدعاء النبي صلى الله عليه وآله له ، وعروة البارقي الصحابي الجليل ، وكميل بن زياد الثقة الأمين ، والحارث الهمداني الفقيه الثقة (2) فمن منفي
1 ـ كالخصري وأحمد أمين.
2 ـ سيوافيك حديث أمرهم في الجزء التاسع بإذن الله تعالى.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس