الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 111 ـ 120
(111)
شيئا ، وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها ، ولا يبالون لو انهدمت الجبال ، والله ما أظنهم يطلبون بدم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمرؤها وعلموا : أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها ، إن القوم لم يكن لهم سابقة في الاسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما ليكونوا جبابرة وملوكا ، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولولاها ما تابعهم من الناس رجل .. إلخ.
    وفي لفظ نصر بن مزاحم في كتاب صفين امضوا ( معي ) عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان .. إلخ.
    وله لفظ آخر يأتي بعيد هذا.
    وفي لفظ الطبري في تاريخه : أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان ويزعمون أنه قتل مظلوما .. إلخ.
    راجع كتاب صفين لابن مزاحم ط مصر ص 361 ، 369 ، تاريخ الطبري 6 : 21 ، الكامل لابن الأثير 3 : 123 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 504 ، تاريخ ابن كثير 7 : 266 ، جمهرة الخطب 1 : 181.
    2 ـ خطب معاوية يوم وفد إليه وفد (1) بعثه إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا وهي ، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها ، إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا وقتلنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا ؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
    فقال له شبث بن ربعي : أيسرك يا معاوية ! إنك أمكنت من عمار تقتله ؟ وفي لفظ ابن كثير : لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان ؟ فقال معاوية : وما يمنعني من ذلك ؟ والله لو أمكنت (2) من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ، ولكن
1 ـ كان فيه : عدي بن حاتم ، يزيد بن قيس ، شبث بن ربعي ، زياد بن حفصة.
2 ـ في لفظ ابن مزاحم : لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية.


(112)
كنت قاتله بناتل مولى عثمان.
    فقال شبث : وإله الأرض وإله السماء ما عدلت معتدلا ، لا والذي لا إله إلا هو ، لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام ، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها .. إلخ.
    كتاب صفين لابن مزاحم ص 223 ، تاريخ الطبري 6 : 3 ، الكامل لابن الأثير 3 : 124 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 344 ، تاريخ ابن كثير 7 : 257 ، جمهرة الخطب 1 : 158.
    3 ـ أرسل أمير المؤمنين ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال : يا أبا اليقظان ! علام قتلتم عثمان رضي الله عنه ؟ قال : على شتم أعراضنا ، وضرب أبشارنا (1).
    فقال : والله ما عوقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين.
    فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال : يا أبا اليقظان ! أعدوت (2) فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار ؟ قال : لم أفعل ولم يسؤني ، فقطع عليهما الحسن فأقبل على أبي موسى فقال : يا أبا موسى ! لم تثبط الناس عنا ؟ فوالله ما أردنا إلا الاصلاح وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء ، فقال : صدقت بأبي أنت وأمي ، ولكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير ما الماشي ، والماشي خير من الراكب ، وقد جعلنا الله عز وجل إخوانا وحرم علينا أموالنا ودماءنا وقال : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيما.
    وقال عز وجل : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم. الآية ، فغضب عمار وساءه وقام وقال : يا أيها الناس إنما قال رسول الله له خاصة : أنت فيها قاعدا خير منك قائما. وقام رجل من بني تميم فقال لعمار : اسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا و
1 ـ أبشار جمع البشرة : أعلى جلدة الوجه والجسد من الانسان.
2 ـ شرح ابن أبي الحديد : غدوت فيما غدا.


(113)
ثار زيد بن صوحان. الحديث (1).
    تاريخ الطبري 5 : 187 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 285 ، الكامل لابن الأثير 3 : 97.
    4 ـ قال الباقلاني في التمهيد ص 220 : روي أن عمارا كان يقول : عثمان كافر. وكان يقول بعد قتله : قتلنا عثمان يوم قتلناه كافرا. وهذا سرف عظيم من خرج إلى ما هو دونه استحق الأدب من الإمام. فلعل عثمان انتهره وأد به لكثرة قوله : قد خلعت عثمان وأنا بريء منه ، فأوى الأدب إلى فتق أمعائه ، ولو أدى الأدب إلى تلف النفس لم يكن بذلك مأثوما ولا مستحقا للخلع ، فإما أن يكون ضربه باطلا وإما أن يكون صحيحا فيكون ردعا وتأديبا ونهيا عن الاغراق والسرف ، وذلك صواب من فعل عثمان ، وهفوة من عمار.
    قال الأميني : هذه التمحلات تضاد ما صح وثبت عن النبي الأقدس في عمار ، ونحن لا يسعنا تكذيب النبي الصادق الأمين تحفظا على كرامة أي ابن أنثى فضلا عن أن يكون من أبناء الشجرة المنعوتة في القرآن.
    5 ـ روى أبو مخنف عن موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال : أقبلنا مع الحسن وعمار بن ياسر من ذي قال حتى نزلنا القادسية فنزل الحسن وعمار ونزلنا معهما ، فاحتبى عمار بحمائل سيفه ، ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة وعن حالهم ، ثم سمعته يقول : ما تركت في نفسي حزة أهم إلي من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار. ( شرح ابن أبي الحديد 3 : 292 ).
    6 ـ جاء في محاورة وقعت بين عمار بن ياسر وعمرو بن العاص فيما أخرجه نصر في كتابه : قال له عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم باب كل سوء. قال عمرو : فعلي قتله ، قال عمار : بل الله رب علي قتله وعلي معه. قال عمرو : أكنت فيمن قتله ؟ قال : كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم. قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغير ديننا فقتلناه ؟ فقال عمرو : ألا تسمعون ؟ قد اعترف بقتل عثمان. قال عمار : وقد
1 ـ في هذا الحديث أشياء موضوعة حذف بعضها ابن الأثير في الكامل وزاد فيه أيضا ، وهو من مكاتبات السري وكلها باطل فيها دجل.

(114)
قالها فرعون قبلك لقومه : ألا تسمعون ؟. الحديث.
    كتاب صفين لا بن مزاحم ص 384 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 273.
    7 ـ إن عمار بن ياسر نادى يوم صفين (1) : أين من يبغي رضوان ربه ولا يؤوب إلى مال ولا ولد ؟ قال : فأتته عصابة من الناس فقال : أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله. ( كتاب صفين ص 369 ).
    وفي الفتنة الكبرى ص 171 : فقد روي أن عمار بن ياسر كان يكفر عثمان و يستحل دمه ويسميه نعثل.
    قال الأميني : هذا الصحابي البطل الذي عرفته في صفحة 20 ـ 28 من هذا الجزء عمار بن ياسر المعني في عدة آيات كريمة من الذكر الحكيم ، ومصب الثناء البالغ المتكرر المستفيض من صاحب الرسالة ، من ذلك : أنه ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، وأنه مع الحق والحق معه يدور معه أينما دار ، وأنه ما عرض عليه أمران إلا أخذ بالأرشد منهما ، وأنه من نفر تشتاق إليهم الجنة ، وإنه جلدة بين عينيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنه تقتله الفئة الباغية ، فمعتقد هذا الرجل العظيم وهو متلفع بهاتيك الفضائل كلها في الخليفة ما تراه يكرره من أنه كان ظالما لنفسه ، حاكما بغير ما أنزل الله ، مريدا تغيير دين الله تغييرا أباح لهم قتله ، وأنه قتله الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالاحسان ، إلى ما لهذه من عقائد تركته جازما بما نطق به ، مصرا على ما ارتكبه ، معترفا بأنه كان مع المجهزين عليه ، متأسفا على ما فاته من نبش قبره وإحراقه بالنار ، فلم يبرح كذلك حتى أخذ يقاتل الطالبين بثاره مع قاتليه وخاذليه ، مذعنا بأن الثائرين له مبطلون يجب قتالهم فلم يفتأ على هذه المعتقد حتى قتلته الفئة الباغية.
    أصحاب معاوية ، وقاتله وسالبه وباغضه في النار نصا من النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم.

ـ 9 ـ
حديث المقداد
ابن الأسود الكندي فارس يوم بدر
    قال اليعقوبي في تاريخه 2 : 140 في بيعته عثمان واستخلافه : مال قوم مع علي
1 ـ في شرح ابن أبي الحديد 2 : 269 : ناداه في صفين قبل مقتله بيوم أو يومين.

(115)
ابن أبي طالب ، وتحاملوا في القول على عثمان ، فروى بعضهم قال : دخلت مسجد رسول الله فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها وهو يقول : واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم ، وفيهم أول المؤمنين ، وابن عم رسول الله ، أعلم الناس وأفقههم في دين الله ، وأعظمهم عناءا في الاسلام ، وأبصرهم بالطريق ، وأهداهم للصراط المستقيم ، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الظاهر النقي ، وما أرادوا إصلاحا للأمة ، ولا صوابا في المذهب ، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة ، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين.
    فدنوت منه فقلت : من أنت يرحمك الله ومن هذا الرجل ؟ فقال : أنا المقداد بن عمرو وهذا الرجل علي بن أبي طالب ، قال فقلت : ألا تقوم بهذا الأمر بهذا فأعينك عليه ؟ فقال : يا ابن أخي ! إن هذا الأمر لا يجزي فيه الرجل ولا الرجلان ، ثم خرجت فلقيت أبا ذر فذكرت له ذلك ، فقال : صدق أخي المقداد ، ثم أتيت عبد الله بن مسعود فذكرت ذلك له ، فقال لقد أخبرنا فلم نأل.
    وذكر ابن عبد ربه في العقد 2 : 260 في حديث بيعة عثمان : فقال عمار بن ياسر ( لعبد الرحمن ) : إن أردت أن لا يختلف المسلمون ؟ فبايع عليا ، فقال المقداد بن الأسود : صدق عمار إن بايعت عليا قلنا : سمعنا وأطعنا.
    قال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش ؟ فبايع عثمان ، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.
    فشتم عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار : أيها الناس إن الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه ، فأنى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم ؟ فقال له رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا بن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ؟ فقال سعد بن أبي وقاص : أفزع قبل أن يفتتن الناس ، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
    ودعا عليا فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده ، قال : أعمل بمبلغ علمي وطاقتي ، ثم دعا عثمان فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده.
    فقال : نعم.
    فبايعه فقال علي حبوته محاباة ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، أما والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم هو في شأن.
    فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك


(116)
سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا ، فخرج علي و هو يقول : سيبلغ الكتاب أجله ، قال المقداد : أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد ! والله لقد اجتهدت للمسلمين.
    قال : لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
    ثم قال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم ، ولا أقضى منهم بالعدل ، ولا أعرف بالحق ، أما والله لو أجد أعوانا.
    قال له عبد الرحمن : يا مقداد ! اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة.
    وأخرج الطبري نحوه في تاريخه 5 : 37 ، وذكره ابن الأثير في الكامل 3 : 29 ، 30 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج 1 : 65.
    وفي لفظ المسعودي في المروج 1 : 440 : فقام عمار في المسجد فقال : يا معشر قريش ! أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة فما أنا بآمن أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله ، وقام المقداد فقال : ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم.
    فقال له عبد الرحمن بن عوف : وما أنت وذاك يا مقداد بن عمرو ؟ فقال : إني والله لأحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن الحق معهم وفيهم يا عبد الرحمن ! أعجب من قريش ـ وأنت تطولهم على الناس أهل هذا البيت ـ قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده من أيديهم ، أما وأيم الله يا عبد الرحمن ! لو أجد على قريش أنصار لقاتلتهم كقتالي إياهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
    وجرى بينهم من الكلام خطب طويل قد أتينا ذكره في كتابنا أخبار الزمان في أخبار الشورى والدار.
    ومر في هذا الجزء ص 17 : أن المقداد أحد الجمع الذين كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان وخوفوه ربه وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع. راجع حديث البلاذري المذكور.
    قال الأميني : لعلك تعرف المقداد ومبلغه من العظمة ، ومبوأه من الدين ، ومثواه من الفضيلة ، قال أبو عمر : كان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد كلها ، أول من حارب فارسا في الاسلام.
    كان فارسا يوم بدر ، ولم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره ، وهو عند القوم أحد السبعة الذين أظهروا الاسلام ، وأحد


(117)
النجباء الأربعة عشر وزراء رسول الله ورفقائه (1) سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوابا كما في حديث أخرجه أبو عمر في ( الاستيعاب ).
    وأنى يسع للباحث أن يستكنه ما لهذا الصحابي العظيم من الفضائل أو يدرك شأوه وبين يديه قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الثناء عليه : إن الله أمرني بحب أربعة ، وأخبرني أنه يحبهم : علي. والمقداد. وأبو ذر. وسلمان ؟ (2).
    وقوله صلى الله عليه وآله : إن الجنة تشتاق إلى أربعة : علي. وعمار و سلمان.
    والمقداد أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1 : 142.
    فهذا الرجل الديني الذي يحبه الله ويأمر نبيه صلى الله عليه وآله بحبه كان ناقما على الخليفة واجدا على خلافته من أول يومه ، متلهفا على استخلافه تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها ، وكان يثبط الناس ويخذلهم عنه ، ويرى امرأته إمرا من الأمر وإدا ، يعتقدها ظلما على أهل بيت العصمة ، ويستنجد أعوانا يقاتل بهم مستخلفيه كقتاله إياهم يوم بدر ، هذا رأيه في عثمان من يوم الشورى قبل بوائقه ، فكيف بعد ما شاهد منه من هنات وهنات.

ـ 10 ـ
حديث حجر بن عدي
الكوفي سلام الله عليه وعلى أصحابه
    إن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 41 دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد قال المتلمس (3) :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الانسان إلا ليعلمها
    وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا
1 ـ مستدرك الحاكم 3 : 348 ، 349 ، الاستيعاب 1 : 289 ، أسد الغابة 4 : 410 ، الإصابة 3 : 455.
2 ـ أخرجه الترمذي في جامعه ، وأبو عمر بن الاستيعاب 1 : 290 ، وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 4 ، 410 ، وابن حجر في الإصابة 3 : 455.
3 ـ هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبيعة ، توجد ترجمته في ( الشعر والشعراء ) لابن قتيبة ص 52 ، وفي ( المؤتلف والمختلف ) ص 71 ، 202 ، 207.


(118)
تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ، ويسعد سلطاني ، ويصلح به رعيتي ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لا تتحم عن شتم علي وذمه ، والترحم على عثمان والاستغفار له والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم وترك الاسماع منهم ، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم والاستماع منهم.
    فقال المغيرة : قد جربت وجربت و عملت قبلك لغيرك فلم يذمم بي دفع ولا رفع ولا وضع ، فستبلو فتحمد أو تذم ثم قال : بل نحمد إن شاء الله.
    فأقام المغيرة بالكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا لا يدع ذم علي والوقوع فيه ، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتذكية لأصحابه ، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال : بل إياكم فذمم الله ولعن.
    ثم قام فقال : إن الله عز وجل يقول : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل ، وإن من تزكون وتطرون أولى بالذم.
    فيقول له المغيرة : يا حجر ! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك ، يا حجر ! ويحك إتق السلطان ، إتق غضبه وسطوته ، فإن غضبة السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ، ثم يكف عنه ويصفح ، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته : اللهم أرحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله فإنه عمل بكتابك واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وجمع كلمتنا وحقن دمائنا وقتل مظلوما ، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه.
    ويدعو على قتلته فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالمغيرة سمعها كل من كان في المسجد وخارجا منه وقال : إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الانسان ! مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك قد حبستها عنا وليس ذلك لك ، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك ، وقد أصبحت بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين.
    قال : فقام معه كثر من ثلثي الناس يقولون : صدق والله حجر وبر ، مر لنا بأرزاقنا واعطياتنا ، فإنا لا ننتفع بقولك هذا ، ولا يجدي علينا شيئا وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه.
    إلى أن هلك المغيرة سنة 51 فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان فأقبل حتى دخل القصر بالكوفة ثم صعد المنبر فخطب ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرظهم وذكر


(119)
قتلته ولعنهم ، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة.
    قال محمد بن سيرين : خطب زياد يوما في الجمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة فقال له حجر بن عدي : الصلاة.
    فمضى في خطبته ثم قال : الصلاة فمضى في خطبته ، فلما خشى حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من الحصا وثار إلى الصلاة وثار الناس معه ، فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس ، فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره وكثر عليه فكتب إليه معاوية : أن شده في الحديد ثم احمله إلي.
    فلما أن جاء كتاب معاوية أراد قوم حجر أن يمنعوه فقال : لا ، ولكن سمع وطاعة ، فشد في الحديد ثم حمل إلى معاوية.
    ساروا به وبأصحابه وهم :
    1 ـ الأرقم بن عبد الله الكندي من بني الأرقم.
    2 ـ شريك بن شداد الحضرمي.
    3 ـ صيفي بن فسيل الشيباني.
    4 ـ قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي.
    5 ـ كريم بن عفيف الخثعمي من بني عامر ثم من قحافة.
    6 ـ عاصم بن عوف البجلي.
    7 ـ ورقاء بن سمي البجلي.
    8 ـ كدام بن حيان العنزي.
    9 ـ عبد الرحمن بن حسان العنزي.
    10 ـ محرز بن شهاب التميمي من بني منقر.
    11 ـ عبد الله بن حوية السعدي من بني تميم.
    وأتبعهم زياد برجلين وهما : عتبة بن الأخنس السعدي ، وسعيد بن نمران الهمداني ، فمضوا بهم حتى انتهوا إلى مرج عذراء ( بينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا ) فحبسوا بها فجاء رسول معاوية إليهم بتخلية ستة وبقتل ثمانية ، فقال لهم رسول معاوية : إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له فإن فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ، وإن أمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنه قد عفى عن ذلك ، فابرؤا من هذا الرجل نخل سبيلكم قالوا : اللهم إنا


(120)
لسنا فاعلي ذلك. فأمر بقبورهم فحفرت وأدنيت أكفانهم ، وقاموا الليل كله يصلون فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية : يا هؤلاء ! لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة وأحسنتم الدعاء فأخبرونا ما قولكم في عثمان ؟ قالوا : هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق.
    فقال أصحاب معاوية : أمير المؤمنين كان أعلم بكم.
    ثم قاموا إليهم فقالوا : تبرؤن من هذا الرجل ؟ قالوا : بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه.
    فأخذ كل رجل منهم رجلا ليقتله وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة وهم.
    1 ـ حجر 2 ـ شريك 3 ـ صيفي 4 ـ قبيصة 5 ـ محرز 6 ـ كدام.
    أخذنا من القصة ما يهمنا ذكره راجع الأغاني لأبي الفرج 16 : 2 ـ 11 ، تاريخ الطبري 6 : 141 ـ 160 ، تاريخ ابن عساكر 2 : 370 ـ 381 ، الكامل لابن الأثير 3 : 202 ـ 210 ، تاريخ ابن كثير 7 : 49 ـ 55.
    قال الأميني : هذه نظرية الصحابي العظيم حجر وأصحابه العظماء الصلحاء الأخيار في عثمان فكانوا يرونه أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق ، وكان حجر يراه من المجرمين فيما جابه به المغيرة بالكوفة ، وقد بلغ هو وزملائه الأبرار من ذلك حدا استساغوا القتل دون ما يرونه ، وأبوا أن يتحولوا عن عقائدهم ، وبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، فاستمرؤا جرع الموت في سبيلها زعافا ممقرا.

ـ 11 ـ
حديث عبد الرحمن
ابن حسان العنزي الكوفي
    لما قتل حجر بن عدي سلام الله عليه وخمسة من أصحابه رضوان الله عليهم قال عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف الخثعمي ( وكانا من أصحاب حجر ) : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته.
    فبعثوا إلى معاوية فأخبروه فبعث : إئتوني بهما فالتفتا إلى حجر فقال له العنزي : لا تبعد يا حجر ! ولا يبعد مثواك فنعم أخو الاسلام كنت. وقال الخثعمي نحوذ لك. ثم مضى بهما فالتفت العنزي فقال متمثلا :
كفى بشفاة القبر بعدا لهالك وبالموت قطاعا لحبل القرائن
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس