الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 131 ـ 140
(131)
زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
    تاريخ الطبري 5 : 114 ، الكامل لابن الأثير 3 : 70 ، تاريخ ابن كثير 7 : 176 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 165.
    وأخرج البلاذري في الأنساب 5 : 47 الحديث الأول باللفظ المذكور فقال : ثم أتاه وهو على المنبر فأنزله ، وكان أول من اجترأ على عثمان وتجهمه بالمنطق الغليظ وأتاه يوما بجامعة فقال : والله لأطرحنها في عنقك ، أو لتتركن بطانتك هذه ، أطعمت الحارث بن الحكم السوق وفعلت وفعلت ، وكان عثمان ولى الحارث السوق فكان يشتري الجلب بحكمه ويبيعه بسومه ، ويجبي مقاعد المتسوقين ، ويصنع صنيعا منكرا ، فكلم في إخراج السوق من يده فلم يفعل ، وقيل لجبلة في أمر عثمان وسئل الكف عنه فقال : والله لا ألقى الله غدا فأقول : إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.
    وأخرج ابن شبه في أخبار المدينة من طريق عبد الرحمن بن الأزهر : إنهم لما أرادوا دفن عثمان فانتهوا إلى البقيع من دفنه جبلة بن عمرو فانطلقوا إلى حش كوكب فدفنوه فيه (1).
    قال الأميني : إنك جد عليم بما في هذا المبجل البدري الذي أثنى عليه أبو عمر في ( الاستيعاب ) بقوله : كان فاضلا من فقهاء الصحابة.
    وهو أحد الصحابة العدول الذين يحتج بما رووه أو رأوه من شدة على عثمان وثباة عليها ، حتى أنه يعد المحايدة يومئذ من الضلال الذي يأمر به السادة والكبراء الضالون ، ويهدد عثمان و يرعد ويبرق وينهى عن رد السلام عليه الذي هو تحية المسلمين ، ومن الواجب شرعا ردها ، وينزله عن منبر الخطابة إنزالا عنيفا بين الملأ ، ثم لم يزل يستخف به ويهينه ولا تأخذه فيه هوادة حتى منعه عن الدفن في البقيع ، فدفن في حش كوكب مقابر اليهود وكل هذه لا تلتئم مع حسن ظنه به فضلا عن حسن عقيدته.
    نعم : إن جبلة فعل هذه الأفاعيل بين ظهراني الملأ الديني الصحابة العدول وهم بين متجمهر معه ، ومخذل عن الخليفة المقتول ، ومتثبط عنه ، وراض بما دارت على الخليفة من دائرة سوء ، ما خلا شذاذ من الأمويين الذين وصفهم جبلة في بيانه ،
1 ـ الإصابة 1 : 223.

(132)
وقدمنا نحن تفصيل ما نزل في القرآن فيهم في الجزء الثامن (1) ولم تقم الجامعة الدينية لهم ولآرائهم وزنا.

ـ 23 ـ
حديث محمد بن مسلمة
أبي عبد الرحمن الأنصاري ( بدري )
    أخرج الطبري من طريق محمد بن مسلمة قال : خرجت في نفر من قومي إلى المصريين وكان رؤساءهم أربعة : عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وسودان بن حمران المرادي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وابن النباع (2) قال : فدخلت عليهم وهم في خباء لهم أربعتهم ورأيت الناس لهم تبعا ، قال : فعظمت حق عثمان ، وما في رقابهم من البيعة ، وخوفتهم بالفتنة ، وأعلمتهم أن في قتله اختلافا وأمرا عظيما ، فلا تكونوا أول من فتحه وأنه ينزع عن هذه الخصال التي نقمتم منها عليه وأنا ضامن لذلك.
    قال القوم : فإن لم ينزع قال : قلت فأمركم إليكم.
    قال : فانصرف القوم وهم راضون فرجعت إلى عثمان فقلت : اخلني.
    فأخلاني فقلت : الله الله يا عثمان ! في نفسك ، إن هؤلاء القوم إنما قدموا يريدون دمك وأنت ترى خذلان أصحابك لك ، لا ، بل هم يقوون عدوك عليك ، قال : فأعطاني الرضا وجزاني خيرا قال : ثم خرجت من عنده فأقمت ما شاء الله أن أقيم ، قال : وقد تكلم عثمان برجوع المصريين وذكر أنهم جاءوا لأمر فبلغهم غيره فانصرفوا.
    فأردت أن آتيه فأعنفه ثم سكت فإذا قائل يقول : قد قدم المصريون وهم بالسويداء (3) قال : قلت : أحق ما تقول ؟ قال : نعم ، قال : فأرسل إلى عثمان ، قال : وإذا الخبر قد جاءه و قد نزل القوم من ساعتهم ذا خشب (4) فقال : يا أبا عبد الرحمن ! هؤلاء القوم قد رجعوا فما الرأي فيهم ؟ قال قلت : والله ما أدري إلا إني أظن أنهم لم يرجعوا لخير قال : فارجع إليهم فارددهم قال : قلت : لا والله ما أنا بفاعل ، قال : ولم ؟ قال : لأني ضمنت لهم أمورا تنزع عنها ، فلم تنزع عن حرف منها قال : فقال : الله المستعان قال : وخرجت
1 ـ راجع صفحة 247 ـ 249 ، 275 ، 218 ط 2.
2 ـ كذا في تاريخ الطبري وفيما حكي عنه والصحيح : ابن البياع وهو عروة بن شييم الليثي.
3 ـ السويداء : موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام.
4 ـ واد على مسيرة ليلة من المدينة.


(133)
وقدم القوم وحلوا بالأسواف وحصروا عثمان وجاءني عبد الرحمن ابن عديس ومعه سودان بن حمران وصاحباه فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ألم تعلم أنك كلمتنا ورددتنا وزعمت أن صاحبنا نازع عما نكره ؟ فقلت : بلى ، فإذا هم يخرجون إلى صحيفة صغيرة وإذا قصبة من رصاص فإذا هم يقولون : وجدنا جملا من إبل الصدقة عليه غلام عثمان فأخذنا متاعه ففتشناه فوجدنا فيه هذا الكتاب. الحديث يأتي بتمامه. تاريخ الطبري 5 : 118 ، الكامل لابن الأثير 3 : 70.
    قال الأميني : إنك تجد محمد بن مسلمة هاهنا لا يشك في أن ما نقمه القوم على الخليفة موبقات يستحل بها هتك الحرمات ممن ارتكبها ، لكنه كره المناجزة وحاول الاصلاح حذار الفتنة المستتبعة لطامات وهنا بث ، وسعى سعيه في رد القوم بضمانه عسى أن ينزع الخليفة عما فرط في جنب الله ، وأن يكون ذلك توبة نصوحا ، فلعل الفورة تهدأ ، ولهيب الثورة يخبأ ، لكنه لما شاهد الفشل في مسعاه ، وأخفق ظنه بعثمان ، و رأى منه حنث الإل ، وعدم النزوع عن أحداثه ، تركه والقوم ، فارتكبوا منه ما ارتكبوا ولم يجبه حينما استنصره ، ولم يقم لطلبته وزنا ، ولم ير له حرمة يدافع بها عنه ، و لذلك خاشنه في القول ، فكان ما كان مقضيا.

ـ 24 ـ
حديث ابن عباس
حبر الأمة ابن عم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
    1 ـ أخرج أبو عمر في ( الاستيعاب ) في ترجمة مولانا أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه من طريق طارق قال : جاء ناس إلى ابن عباس فقالوا : جئناك نسألك فقال : سلوا عما شئتم فقالوا : أي رجل كان أبو بكر ؟ فقال : كان خيرا كله.
    أو قال : كالخير كله على حدة كانت فيه.
    قالوا : فأي رجل كان عمر ؟ قال : كان كالطائر الحذر الذي يظن أن له في كل طريق شركا.
    قالوا : فأي رجل كان عثمان ؟ قال : رجل ألهته نومته عن يقظته.
    قال : فأي رجل كان علي ؟ قال : كان قد ملئ جوفه حكما وعلما وبأسا و نجدة مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يظن أن لا يمد يده إلى شيء إلا ناله ، فما مد يده إلى شيء فناله.


(134)
    2 ـ من كتاب لمعاوية إلى ابن عباس : لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا وأن يكون رأيا صوابا ، فإنك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، و السافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان (1).
    فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه : وأما قولك ( إني من الساعين على عثمان والخاذلين له ، والسافكين له ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ) فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله ، والمحب لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به حتى بعثت إليه معذرا بأجرة أنت تعلم أنهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا و بينك فطفقت تنعي عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوما ، فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين ، ثم لم تزل مصوبا و مصعدا وجاثما ورابضا تستغوي الجهال وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
    قال الأميني : إن حبر الأمة وإن لم يكن له أي تدخل في واقعة الدار ، وكان أمير الحاج في سنته تلك ، لكنك تراه لا يشذ عن الصحابة في الرأي حول الخليفة ، ولا يقيم له وزنا ، ولا يرى له مكانة ، ومن أجل ذلك أعطى المقام حقه في جواب السائل عن الخلفاء ، غير أنه لم يصف عثمان إلا بما ينبأ عن عدم كفائته برقدته الطويلة الغاشية على يقظته ، وسباته العميق الساتر لانتباهته ، ومن جراء ذلك الاعتقاد تجده لم يهتم بشيء من أمره لما جاءه نافع بن طريف بكتاب (2) من الخليفة يستنجد الحجيج و يستغيث بهم ، على حين أنه محصور ، فقرأه نافع على الناس بينما كان ابن عباس يخطب فلما نجزت قراءته أتم خطبته من حيث أفضت إليه ، ولم يلو إلى أمر عثمان وحصاره ، ولم ينبس في أمره ببنت شفة ، وكان في وسعه أن يستثيرهم لنصرته ، وهل ذلك كله لسوء رأي منه في الخليفة ؟ أو لعدم الاهتمام في أمره ؟ أو لحسن ظنه بالثائرين عليه ؟ إختر ما شئت ، ولعلك تختار تحقق الجميع لدى ابن عباس ، وكأن عائشة شعرت منه
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 4 : 58. قال : كتبه إليه عند صلح الحسن عليه السلام يدعوه إلى بيعته
2 ـ يأتي تفصيله في هذا الجزء عند ذكر كتب عثمان إن شاء الله.


(135)
ذلك فقالت يوم مر بها ابن عباس في منزل من منازل الحج : يا ابن عباس ! إن الله قد أتاك عقلا وفهما وبيانا فإياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية.
    (1) ومن جراء رأيه الذايع الشايع كان يحذر معاوية ويخاف بطشه ، ولما قال له أمير المؤمنين عليه السلام : إذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها.
    قال : إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان ، أو يحبسني لقرابتي منك ، ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده.
    الحديث (2) وفي أثر ذلك الرأي كان يسكت عن لعن قتلة عثمان ولما كتب إليه معاوية : أن اخرج إلى المسجد والعن قتلة عثمان.
    أجاب بقوله : لعثمان ولد وخاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني ، فإن شاءوا أن يلعنوا ، وإن شاءوا أن يمسكوا فليمسكوا (3).

ـ 25 ـ
حديث عمرو بن العاصي
الذي عرفناكه في ج 2 ص 120 ـ 176
    أخرج الطبري من طريق أبي عون مولى المسور قال : كان عمرو بن العاصي على مصر عاملا لعثمان فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة ، استعمل عبد الله بن سعد على الخراج ، ثم جمعهما لعبد الله بن سعد ، فلما قدم عمرو بن العاصي المدينة جعل يطعن على عثمان ، فأرسل إليه يوما عثمان خاليا به فقال : يا ابن النابغة ما أسرع ما قمل به جربان جبتك ؟ إنما عهدك بالعمل عاما أول ، أتطعن علي ، ويأتيني بوجه ، وتذهب عني بآخر ؟ والله لولا أكلة ما فعلت ذلك.
    فقال عمرو : إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ! في رعيتك ، فقال عثمان : والله لو استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك ، فقال عمرو : قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض فقال عثمان : وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت ولكني لنت عليك فاجترأت علي ، أما والله لأنا أعز منك نفرا في الجاهلية وقبل أن ألي هذا
1 ـ راجع ما مر في هذا الجزء من حديث عائشة.
2 ـ تاريخ ابن كثير 7 : 228 ، الكامل لابن الأثير 3 : 83.
3 ـ الإمامة والسياسة قتيبة 1 : 148.


(136)
السلطان ، فقال عمرو : دع عنك هذا فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدانا به ، قد رأيت العاصي بن وائل ورأيت أباك عفان فوالله للعاصي كان أشرف من أبيك (1) فانكسر عثمان وقال : ما لنا ولذكر الجاهلية ، وخرج عمرو ودخل مروان فقال : يا أمير المؤمنين ! وقد بلغت مبلغا يذكر عمرو بن العاصي أباك ، فقال عثمان : دع هذا عنك ، من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.
    قال فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان ، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان ، ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان ، فلما كان حصر عثمان الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها : السبع ، فنزل في قصر له يقال له : العجلان وهو يقول : العجب ما يأتينا عن ابن عفان قال : فبينا هو جالس في قصره ذلك ومعه إبناه محمد ، وعبد الله ، وسلامة بن روح الجذامي إذا مر بهم راكب فناداه عمرو : من أين قدم الرجل ؟ فقال : من المدينة ، قال : ما فعل الرجل ؟ يعني عثمان.
    قال : تركته محصورا شديد الحصار قال عمرو : أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مر به راكب آخر فناداه عمرو : ما فعل الرجل ؟ يعني عثمان.
    قال : قتل.
    قال : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ، إن كنت لأحرض عليه حتى إني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
    فقال له سلامة بن روح : يا معشر قريش ! إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه ، فما حملكم على ذلك ؟ فقال : أردنا أن نخرج الحق من حافرة الباطل ، وأن يكون الناس في الحق شرعا سواء ، وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ففارقها حين عزله (2).
    2 ـ لما ركب علي وركب معه ثلاثون رجلا من المهاجرين والأنصار إلى أهل مصر في أول مجيئهم المدينة ناقمين على عثمان ، وردهم عنه فانصرفوا راجعين ورجع
1 ـ ليت شعري ما مكانة عفان من الشرف إن كان يفضل عليه العاصي الساقط المشرف بقوله تعالى : ( إن شانئك هو الأبتر ) كما مر تفصيله في الجزء الثاني ص 120 ط 2.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 108 ، 203 ، الأنساب للبلاذري 5 : 74 ، الإمامة والسياسة 1 : 42 ، الاستيعاب ترجمة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 63 ، وأوعز إليه ابن كثير في تاريخه 7 : 170 بصورة مصغرة جريا على عادته فيما لا يروقه.


(137)
علي عليه السلام إلى عثمان وأخبره أنهم قد رجعوا ، حتى إذا كان الغد جاء مروان عثمان فقال له : تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا ، وإن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا ، فإن خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه.
    فأبى عثمان أن يخرج ، فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم (1) فناداه عمرو بن العاصي من ناحية المسجد : إتق الله يا عثمان ! فإنك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك فتب إلى الله نتب ، فناداه عثمان : وإنك هناك يا ابن النابغة ؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل ، فنودي من ناحية أخرى : تب إلى الله وأظهر التوبة يكف الناس عنك.
    فرفع عثمان يديه مدا واستقبل القبلة فقال : اللهم إني أول تائب تاب إليك.
    ورجع إلى منزله ، وخرج عمرو بن العاصي حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول : والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه.
    وفي لفظ البلاذري : يا ابن النابغة ! وإنك ممن تؤلب علي الطغام ؟ وفي لفظ : قال عمرو : يا عثمان ! إنك قد ركبت بهذه الأمة نهاية من الأمر وزغت فزاغوا فاعتدل أو اعتزل.
    وفي لفظ : ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمور فركبوها منك ، وملت بهم فمالوا بك ، اعدل أو اعتزل.
    تاريخ الطبري 5 : 110 ، 114 ، أنساب البلاذري 5 : 74 ، الاستيعاب ترجمة عثمان ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 113 ، الكامل لابن الأثير 3 : 68 ، الفائق للزمخشري 2 : 296 ، نهاية ابن الأثير 4 : 196 ، تاريخ ابن كثير 7 : 175 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 396 ، لسان العرب 7 : 98 ، تاج العروس 3 : 592.
    3 ـ قال ابن قتيبة : ذكروا أن رجلا من همدان يقال له ( برد ) قدم على معاوية فسمع عمرا يقع في علي فقال له : يا عمرو إن أشياخنا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه.
    فحق ذلك أم باطل ؟ فقال عمرو : حق وأنا أزيدك أنه ليس
1 ـ ما عذر الخليفة في هذا الكذب الفاحش على منبر النبي الأعظم وهو بين يدي قبره الشريف لعله يعتذر بأن مروان حثه عليه ولم يكن له منتدح من قبول أمره ، والملك عقيم.
2 ـ النهابير والنهابر : المهالك : الواحدة : نهبرة ونهبور.


(138)
أحد من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي.
    ففزع الفتى فقال عمرو : إنه أفسدها بأمره في عثمان فقال برد : هل أمر أو قتل ؟ قال : لا ، ولكنه آوى ومنع ، قال : فهل بايعه الناس عليها ؟ قال : نعم. قال : فما أخرجك من بيعته ؟ قال : اتهامي إياه في عثمان. قال له : وأنت أيضا قد أتهمت. قال : صدقت فيها ، خرجت إلى فلسطين. فرجع الفتى إلى قومه فقال : إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من أفواههم ، علي على الحق فاتبعوه. ( الإمامة والسياسة 1 ص 93 ).
    4 ـ أخرج الطبري في تاريخه 5 : 234 من طريق الواقدي قال : لما بلغ عمرا قتل عثمان رضي الله عنه قال : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع ، من يلي هذا الأمر من بعده ؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبا ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق ، وهو أكره من يليه إلي.
    5 ـ أسلفنا في حديث طويل في الجزء الثاني ص 133 ـ 136 ط 2 من قول الإمام الحسن السبط الزكي لعمرو بن العاصي : وأما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ، ثم لحقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت ( أي قشرت ) قرحة أدميتها ، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه ، فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على ود ، وبالله ما نصرت عثمان حيا ، ولا غضبت له مقتولا.
    قال أبو عمر في ( الاستيعاب ) في ترجمة عبد الله بن سعيد بن أبي سرح : كان عمرو ابن العاصي يطعن على عثمان ويؤلب عليه ويسعى في إفساد أمره ، فلما بلغه قتل عثمان وكان معتزلا بفلسطين قال : إني إذا نكأت قرحة أدميتها أو نحو هذا.
    وقال في ترجمة محمد بن أبي حذيفة : كان عمرو بن العاص مذ عزله عثمان عن مصر يعمل حيلة في التأليب والطعن على عثمان.
    وفي الإصابة 3 : 381 : إن عثمان لما عزل عمرو بن العاص عن مصر قدم المدينة فجعل يطعن على عثمان ، فبلغ عثمان فزجره ، فخرج إلى أرض له بفلسطين فأقام بها.
    قال الأميني : لعل مما يستغني عن الافاضة فيه مناوءة ابن العاصي لعثمان ورأيه في سقوطه ، وتبجحه بالتأليب عليه ، ومسرته على قتله ، وقوله بملأ فمه : أنا أبو عبد الله قتلته


(139)
وأنا بوادي السباع. وقوله : إني إذا نكأت قرحة أدميتها. وهل الأحن بينهما استفحلت فتأثرت بها نفسية ابن العاص حتى أنه اجتهد فأخطأ. أو أنه أصاب الحق ، فكان اجتهاده عن مقدمات صحيحة مقطوعة عن الضغائن الثائرة ، معتضدة بآراء الصحابة ، و أياما كان فهو عند القوم من أعاظم الصحابة العدول يرى في الخليفة هذا الرأي.

ـ 26 ـ
حديث عامر بن واثلة
أبي الطفيل الشيخ الكبير الصحابي
    قدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية فأخبر معاوية بقدومه فأرسل إليه فأتاه وهو شيخ كبير فلما دخل عليه قال له معاوية : أنت أبو الطفيل عامر ابن واثلة ؟ قال : نعم.
    قال معاوية : أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، ولكن ممن شهده فلم ينصره.
    قال : ولم ؟ قال : لم ينصره المهاجرون والأنصار ، فقال معاوية أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقا واجبا وفرضا لازما ، فإذ ضيعتموه فقد فعل والله بكم ما أنتم أهله وأصاركم إلى ما رأيتم.
    فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين ! إذ تربصت به ريب المنون أن لا تنصره ومعك أهل الشام ؟ قال معاوية : أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له ؟ فضحك أبو الطفيل وقال بلى : ولكني وإياك (1) كما قال عبيد بن الأبرص :
لأعرفنك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي
    فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم فلما جلسوا نظر إليهم معاوية ثم قال : أتعرفرن هذا الشيخ ؟ قالوا : لا.
    فقال معاوية : هذا خليل علي بن أبي طالب ، وفارس صفين وشاعر أهل العراق ، هذا أبو الطفيل.
    قال سعيد بن العاص : قد عرفناه يا أمير المؤمنين ! فما يمنعك منه ؟ وشتمه القوم فزجرهم معاوية قال : فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعا ثم قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل ؟ قال : ما أنكرهم من سوء ولا أعرفهم بخير وأنشد شعرا :
فإن تكن العداوة قدأكنت فشر عدواة المرء السباب
    فقال معاوية : يا أبا الطفيل ! ما أبقى لك الدهر من حب علي ؟ قال : حب أم
1 ـ كذا والصحيح كما في مروج الذهب. ولكنك وإياه.

(140)
موسى وأشكو إلى الله التقصير. فضحك معاوية وقال : ولكن والله هؤلاء الذين حولك لو سألوا عني ما قالوا هذا.
    فقال مروان : أجل والله لا نقول الباطل.
    الإمامة والسياسة 1 : 158 ، مروج الذهب 2 : 62 ، تاريخ ابن عساكر 7 : 201 ، الاستيعاب في الكنى ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 133.
    قال الأميني : أترى هذا الشيخ الكبير الصالح كيف يعترف بخذلانه عثمان ؟ و يحكي مصافقته على ذلك عن المهاجرين والأنصار الصحابة العدول ، غير متندم على ما فرط هنالك ، ولو كان يتحرج هو ومن نقل عنهم موافقتهم له لردعتهم الصحبة والعدالة عما ارتكبوه من القتل والخذلان ، ولو كان لحقه وإياهم شيء من الندم لباح به وباحوا ، لكنهم اعتقدوا وأمرا فمضوا على ضوئه ، وإنهم كانوا على بصيرة من أمرهم ، وما اعتراهم الندم إلى آخر نفس لفظوه.

ـ 17 ـ
حديث سعد بن أبي وقاص
أحد العشرة المبشرة ، وأحد الستة أصحاب الشورى
    1 ـ روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 ص 43 قال : كتب عمرو بن العاص إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن قتل عثمان ومن قتله ومن تولى كبره فكتب إليه سعد : إنك سألتني من قتل عثمان وأني أخبرك أنه قتل بسيف سلته عائشة ، وصقله طلحة ، وسمه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشار بيده ، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكن عثمان غير وتغير وأحسن وأساء ، فإن كنا أحسنا فقد أحسنا ، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله.
    الحديث مر بتمامه ص 83.
    2 ـ عن أبي حبيبة قال : نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان دخل عليه ثم خرج من عنده وهو يسترجع مما يرى على الباب فقال له مروان : الآن تندم ؟ أنت أشعرته.
    فأسمع سعدا يقول : استغفر الله لم أكن أظن الناس يجترؤن هذه الجرأة ولا يطلبون دمه ، وقد دخلت عليه الآن فتكلم بكلام لم تحضره أنت ولا أصحابك فنزع عن كل ما كره منه وأعطى التوبة.
    وقال : لا أتمادى في الهلكة ان ما تمادى في الجور كان أبعد من الطريق فأنا أتوب وأنزع.
    فقال مروان : إن كنت تريد أن تذب عنه فعليك
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس