اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 121 ـ 135
(121)
عليهم أعمار الخلائق لأنّهم أسباب لأعمارهم إمّا لحياتهم الدنيوية والأُخروية ، أو لأديانهم ، إذ لولاهم لخربت الدنيا ، ولولاهم لم يكن دين.
    وأيضاً فإنّها صلوات عليها أُمّ السبطين اللَّذين هما قرطا عرش الرحمن وشنفاه على ما نطقت به الأخبار ، فقد روى ابن لَهيعةَ عن أبي عوانة (1) رفعه إلى النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ الحسن والحسين شنَفا (2) العرش ، وإنّ الجنّة قالت : يا ربّ أسْكَنْتَني الضعفاء والمساكين ، قال لها اللّهُ تعالى : ألا تَرضَين أنّي زيّنت أركانكِ بالحسن والحسين ؛ قال : فماست (3) كما تَمِيسُ العروس فرحاً. (4)
    وروي أيضاً عن سليمان الأنصاري (5) قال : كنّا جلوساً في مسجد النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذ أقبل عليّ ( عليه السَّلام ) فتحفّى (6) له النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وكان
1 ـ من الإرشاد ، وفي الأصل « غسانه » ، وفي تاريخ بغداد وكنز العمال : « عُشانة ».
2 ـ « الشَّنف » : قرط يلبس في أعلى الأُذن. انظر ( الصحاح : « شنف » ). والقرط : الذي يعلّق في شحمة الأُذن ، والجمع قرطة وقراط ( الصحاح « قرط » ).
3 ـ ماس يميس ميساً ، إذا تبختر في مشيه. قاله الجزري.
4 ـ المفيد : الإرشاد : 2 / 127 باب طرف من فضائل الحسين ( عليه السَّلام ) ... ، عنه البحار 43 / 275 ح 44.
    وروى مثله في كتاب الآل ( لابن خالويه اللغوي ) مرفوعاً إلى عقبة بن عامر قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : قالت الجنة : يا ربّ أليس قد وعدتني أن تسكنني ركناً من أركانك ؟ قال : فأوحى إليها أما ترضين أنّي زيّنتك بالحسن والحسين ، فأقبلت تميس كما تميس العروس. نقلاً عن البحار : 43 / 304.
5 ـ سليمان بن عمرو بن حديدة الأنصاري الخزرجي. قُتل هو ومولاه عنترة يوم أُحد شهيدين. والأكثر يقولون هذا سُليم الخزرجي ، وكذلك قال ابن هشام ( الاستيعاب : 2 / 651 رقم 1057 ).
    وقد قال ابن هشام في ذكر من استشهد بأُحد : ومن بني سَواد بن غَنَم : سُليم بن عمرو بن حَديدة ؛ ومولاه عنترة ... ( السيرة النبوية : 3 / 133 ).
6 ـ هذه دلالة على منزلة الإمام ( عليه السَّلام ) الرفيعة أظهرها النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بهذا الشكل من الإكرام والتعظيم له.
    وما نشاهده اليوم من الإعظام والتبجيل إنّما تغلب عليه روح المصلحة والمنافع الخاصة ، وأين هي من السيرة النبوية وسيرة الأئمّة الأطهار ( عليهم السَّلام ).


(122)
له عشرة أيّام منذ دخل بفاطمة ( عليها السَّلام ) فقال له : ألا أُخبرك في عرسك شيئاً ؟ قال : إن شئت فافعل صلى اللّه عليك.
    قال : هذا أخي جبرئيل عليه السَّلام قال : تشاجر آدم و حواء عليهما السَّلام في الجنّة ، فقال آدم : يا حواء ما هذه المشاجرة ؟ فقالت : يقع لي أنّ ما خلق اللّه خلقاً أحسن منّي ومنك ، فأوحى اللّه تعالى إليه أن يا آدم طف الجنة فانظر ماذا ترى.
    قال : فبينا آدم ( عليه السَّلام ) يطوف في الجنّة إذ نظر إلى قبّة بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ، داخل القبة شخص على رأسه تاج; في عنقه خناق (1) ؛ وفي أُذنيه قرطان ، فخرّ آدم ساجداً للّه تعالى. فأوحى اللّه إليه يا آدم ما هذا السجود وليس موضعك موضع سجود.
    فقال آدم : يا جبرئيل ما هذه القبّة التي ما رأيت أحسن منها ؟!
    فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ قال لها كوني فكانت.
    قال : فمن هذا الشخص الذي داخلها ؟
    قال : الشخص جارية حوراء إنسيّة تخرج من ظهر نبيّ يقال له : محمّد.
    قال : فما هذا التاج الذي على رأسها ؟
    قال : هو أبوها محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    قال : فما هذا الخناق الذي في عنقها ؟
    قال : بعلها علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ).
    قال : فما هذان القرطان اللّذان في أُذنيها ؟
    قال : هما قرطا العرش وريحانتا الجنة ولداها الحسن والحسين عليهما السَّلام.
    قال : فكيف ترد يوم القيامة هذه الجارية ؟
1 ـ الخِناق والمِخْنقة : القِلادة الواقعة على المُخَنَّق. ( لسان العرب : « خنق » ).

(123)
    قال : إنّ اللّه تعالى يقول : ترد على ناقة ليست من نوق دار الدنيا ؛ رأسها من بهاء اللّه ، ومؤخرها من عظمة اللّه ، وعظامها (1) من رحمة اللّه وقوائمها من خشية اللّه ، ولحمها وجلدها معجونان بماء الحيوان ؛ قال اللّه تعالى له كن فكان ، يقود زمام الناقة سبعون ألف صفّ من الملائكة كلّهم ينادون غضّوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تجوز الصديقة سيّدة النساء فاطمة الزهراء ( عليها السَّلام ). (2)
    وفي مناقب ابن شهر آشوب رحمه اللّه : سليمان بن أحمد الطبراني (3) ، والقاضي أبوالحسن الجراحي ، وأبوالفتح الحفار (4) ، والكياشيرويه ، والقاضي النطنزي بأسانيدهم عن عقبة ، عن عمار الجهني ، وأبي دجانة (5) ، وزيد بن علي ، عن
1 ـ « خطامها » : حلية الأبرار. والخطام : زمام البعير لأنّه يقع على الخطم وهو الأنف وما يليه. ( الطريحي : مجمع البحرين : « خطم » ).
2 ـ انظر حلية الأبرار لهاشم البحراني : 2 / 10 ح 2 نقلاً عن « الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم » للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي : 149 مخطوط مكتوب سنة ( 734 ) في مكتبة السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه اللّه.
3 ـ هو سليمان بن أحمد بن مطير اللخمي الطبراني ( أبو القاسم ) ، محدّث ، حافظ ، ولد بطبرية الشام ( سنة 260 ) توفي بإصبهان ( سنة 360 ). وله مؤلفات كثيرة أشهرها : المعاجم الثلاثة. ( عمر رضا كحاله : معجم المؤلفين : 4 / 253 ).
    وذكره القمي في « الكنى والألقاب » : 2 / 409 بكنية ( أبو القسم ) وقال : اللخمي ـ بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة ـ نسبة إلى لخم أبي جذام.
4 ـ هو هلال بن محمد بن جعفر ، أبو الفتح الحفار ( 322 ـ 414 هـ ) : من رجال الحديث ، فارسي الأصل من أهل بغداد ، ( خيرالدين الزركلي : الاعلام : 8 / 92 ).
5 ـ أبو دجانة ـ بالضم والتخفيف ـ : هو سماك بالكسر والتخفيف ، ابن خرشة بالفتحات ابن لوزان صحابي أنصاري بطل شجاع عدّ من الذابين عن الإسلام ، وقد ظهر منه في جهاده وحروبه ما يدلّ على ذلك ، وفي وقعة اليمامة سنة 11 أشترك في قتل مسيلمة الكذاب ، ـ و يقال ـ قُتل أيضاً أبو دجانة ، وقيل بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع أمير المؤمنين. وثباته في نصرة الدين مشهورة. ( القمي : الكنى والألقاب : 1 / 63 ـ 64 ).


(124)
النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : الحسن والحسين شنفا العرش. وفي رواية : وليسا بمعلقين ؛ وأنّ الجنّة قالت : يا ربّ أسكنتني الضعفاء والمساكين ، فقال اللّه تعالى : ألا ترضين أنّي زيّنت أركانك بالحسن والحسين ، فماست كما تميس العروس فرحاً. وفي خبر عنه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم : إذا كان يوم القيامة زيّن عرش الرحمن بكلّ زينة ثمّ يؤتى بمنبرين من نور ، طولهما مائة ميل ، فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يأتي الحسن والحسين يزيّن الربّ تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها. (1)
    وقال الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد ( رحمه اللّه تعالى ) في ذلك :
وَلَداهُ شَنْفا العرشِ فَقُلْ حَبَّذا العرش وَحَبّا اشنفا (2)
    وقال ابن علويه :
وابْناهُ عقدُ قوى الجِنانِ عَليهِما وهُما مَعاً لَو يَعْلَمُونَ لعرشِهِ فَهُما لِدارِ مقامهِ رُكْنانِ دُونَ المَلائكِ كُلّها (3) شَنْفانِ

1 ـ محمد بن علي بن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : 3 / 395 ـ 396.
2 ـ ذكره الشيخ عباس علي الأديب في كتابه : هدية العباد في شرح حال صاحب بن عباد : ص 64 ( بالفارسية ). وفيه « شنفا » بدل « اشنفا ». وفي المناقب « شنفاه ».
3 ـ « كلهم » : المناقب.


(125)
    وقال ابن حماد :
تُفّاحَتا الهادي وقِرطا الـ ‍عرشِ (1) الواحدِ المُتمجَّدِ (2)
    وفي إفراد عمرو على هذا إشارة إلى أنّها بمنزلة شخص واحد ، والأمر كذلك ، بل الأئمّة والنبيّ وفاطمة صلوات اللّه عليهم بمنزلة شخص واحد فإنّهم من نور واحد وإنّ طاعة واحد منهم طاعة الجميع ، ومعصية واحد منهم معصية الجميع ، وقول واحد منهم قول الجميع.
    والمراد ب‍ « المربع » أمّا على تقدير أن يريد ب‍ « أُمّ عمرو » حبيبته ؛ فمعناه ظاهر ، ويحتمل أن يريد مطلق المنزل إمّا على التجريد ، أو على تخييل أنّ منزل تنزله المحبوبة فهو مربع ، أو أنّ أيّامها جملة أيّام الربيع ، أو يريد منزلها أوان شبابها.
    وأمّا على سائر المعاني : فالمراد به مطلق المنزل إمّا بالتجريد أو بتخييل أحد الأمرين الأوّلين.
    ويجري الثالث أيضاً فيما إذا أُريد الدِّين أو القرآن أو النبوّة أو الإمامة أو الخلافة ، أو المراد به مرتبة الرئاسة والسياسة.
    والمراد بطموس أعلامه : أنّ أهله طُردوا عنه بحيث لم يبق فيه من أعلامهم شيء ، أو لم يبق من العلامات التي بها يهتدي إلى منزل الدين أو القرآن أو الإمامة أو الخلافة شيء فضلَّ الناسُ الطريق ، فلم ينالوا الدين ولم يعلموا القرآن ولم يهتدوا إلى الإمام.
1 ـ « العرش عرش الواحد المتمجّد » : المناقب.
2 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : 3 / 396.


(126)
    أو المراد به إمحاء سادات هذا المنزل عنه ، أو إمحاء أبنية الدِّين وقواعده.
    وعلى كلّ من هذه التقادير يكون تخييراً وتأسفاً من غصب غاصبي الخلافة وظلمهم أهل البيت صلوات اللّه عليهم ، فيكون مثل قول دعبل الخزاعي (1) رضوان اللّه عليه.
بَكَيتُ لِربع الدّارِ مِنْ عَرَفاتِ وبانت عُرى صَبْري وهاجَتْ صَبابَتي مَدارِسُ آيات خَلَتْ مِنْ تِلاوَة لآلِ رَسُولِ اللّهِ بِالخيفِ مِنْ مِنى وَأَذْرَيتُ دَمعَ العَينِ من وجناتي رُسُومُ دِيار قدْ عَفَتْ وَعِراتِ ومَهبط وَحي مُقفرُ العَرَصاتِ وِبالبَيْتِ وَالتَّعريفِ وَالجَمَراتِ

1 ـ هو دعبل ( الشاعر ) بن رزين بن سليمان الخزاعي ولد سنة 148 وقيل 142 ، أصله من الكوفة ويقال قرقيسا وأقام ببغداد. من مؤلفاته كتاب طبقات الشعراء ، كتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها ، وديوان شعر.
    وأشهر قصائده ـ والتي منها هذه الأبيات ـ التي مدح فيها أهل البيت ( عليهم السَّلام ) وتعرف بالتائية.
    توفي سنة 246 هـ على الأرجح. ( ديوان دعبل ـ شرح و ضبط ضياء حسين اللأعلمي ـ ).
    وانظر في مصادره : الأغاني : 20 / 131 ، لسان الميزان : 2 / 430 ، تاريخ بغداد : 8 / 383 ، أعيان الشيعة : 6 / 405 ، الكامل للمبرد : 1 / 843 ، .


(127)
مَنازِلُ وَحْي اللّهِ يَنْزلُ بَينَها مَنازِلُ قَوم يُهْتَدى بِِهُداهُمُْ مَنازِلُ كانَتْ لِلصَّلاةِ وَلِلتُّقى منازل لاتَيم يَحِلُّ بربعها (1) ديارُ عليّ والحُسَينِ وجَعْفَر ودار لِعَبدِ اللّهِ وَالفَضلِ صِنوه وَسِبْطَي رَسُول اللّهِ وَابْنَي وصِيِّهِ ديارٌ عَفاها جَورُ كُلِّ مُعانِد عَلى أَحْمدَ المذكورِ في السُّوراتِ ويؤمنُ مِنْهُمْ زَلَّةُ العَثَراتِ ولِلصَّومِ والتطهير والحَسَناتِ ْولا ابنُ صهاك هاتِكُ الحُرُماتِ وحَمزةَ والسجّادِ ذِي الثَّفناتِ نَجِيّ رَسُوله اللّهِ في الخَلَواتِ ووارِثِ علمِ اللّهِ والتَّرِكاتِ ولَـمْ تَعْفُ للأيّامِ وَالسَّنَواتِ

1 ـ من شرح المجلسي ، وفي الأصل « عراصها ».

(128)
    وأمّا المراد ب‍ « اللوى » على هذه التقادير :
    فإمّا منقطع الرمل كما على التقدير الأوّل ؛ ويكون المعنى به المدينة أو كلّ منها و من مكّة ، فإنّ كلاًّ منهما مهبط القرآن ومنزل الأحكام وموطن النبيّ وآله صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم.
    وإمّا آخر الزمان ؛ فيكون قد شبّه الدنيا بالرمل إمّا لعدم ثبات أمرها ، أو لتشتت أُمورها واختلافها كما أنّ الرمل متشتّت لا يُضمّ بعضه إلى بعض ، أو لسرعة انغمار الناس واندفانهم فيها كما ينغمر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الرمل ، أو لعسر العدول والتجاوز عنها إلى آخره كما يعسر السير في الرمل.
    وإمّا الإمامة أو النبوّة أو الخلافة ؛ على أن يكون شبَّهَ حال النبيّ والخليفة قبل تحمّل أعباء النبوّة أو الخلافة بالرمل في اللِّين والملاءمة ، لأنّه قبل ذلك يداهن الناس وليس عليه أن يضادّهم ويقابلهم ويحملهم على ما لا يرضونه فيكون حال لِين له وللناس ، وأمّا إذا تحمّل النبّوة أو الخلافة فقد انقطع عنه وعن الناس ما كان من اللِّين والرفق والمداهنة.
    البيان : قد تبيّن لك إن أحطت بما سمعته من المعاني ، أنّ الكلام :
    يحتمل أن يكون على حقيقته من غير تجوّز ولا كناية فيه ولا في شيء من إجراءاته.
    ويحتمل أن يكون مشتملاً على الكناية ب‍ « أُمّ عمرو » عن إحدى المعاني التي عرفت وأن يكون الاعلام مجازاً عن الأبنية الرفيعة ، أو السادات ، أو المشاهير.
    ولمّا كانت العلاقة هي المشابهة كان استعارة.
    ولمّا كان اسم المشبه به مذكوراً كانت استعارة مصرّحاً بها.


(129)
    ولمّا كان الجامع أمراً متحققاً كانت تحقيقية.
    ولمّا كان أمراً مبتذلاً كانت عامية.
    ولمّا كان مقروناً بالطموس الذي لا يناسب المشبه به كانت مرشحة.
    ويحتمل أن يكون المربع مجازاً عن المنزل إمّا مرسلاً من قبيل تسمية المطلق باسم المقيّد وهو من تسمية الجزء باسم الكلّ إمّا مجرد ذلك ، أو مضمّناً تشبيه أوان الشباب بأيّام الربيع ، أو أيّام الحبيب بأيّامه ، أو ادّعاء أنّ أيّامها أيّامه حقيقة ، وإمّا استعارة لتشبيه منزلها بالمربع ، وأن يكون مستعاراً للمرتبة تشبيهاً للمراتب الشرفية بالمكانيّة ، والاستعارة على الأخير مرشحة لأنّ الأعلام وطموسها والبلقع كل منها يلائم المشبه به وعلى الذي قبله مطلقة ، إذ لم يقرن بما يلائم شيئاً من المشبه والمشبه به ، أعني ما يلائم شيئاً منهما بخصوصه وإلاّ فهذه الأُمور ملائمة لكلّ منهما ، وكلّ من هاتين الاستعارتين أيضاً مصرَّح بها تحقيقية عاميّة.
    ويحتمل أن يكون « أُمّ عمرو » استعارة مصرحاً بها لما عرفت ، بناءً على تشبيه تلك الأُمور بأصل الحياة أو الدِّين ؛ لكونها من أسبابهما القويّة ، فإن كان استعارة للقرآن أو النبوّة أو الخلافة أو الإمامة كانت مرشّحة ؛ لأنّ المربع ممّا يلائم المشبه به ، وإن كان للباقي كانت مطلقة.
    ويحتمل أن يكون « أُمّ عمرو » علَماً لمعشوقه ويكون قد استعار اسمها للإمامة أو الخلافة أو النبوّة أو الرئاسة ، لأنّ كلاً منها معشوق لأكثر الخلق كما أنّه كثيراً ما يستعار « ليلى » ونحوها لما يزداد حبه والميل إليه ، أو استعارة للدّين أو القرآن ؛ لأنّهما معشوقا المؤمنين ، أو استعارة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أو هما وسائر الأئمّة صلوات اللّه عليهم ؛ لأنّهم معشوقو المؤمنين ، ولا بُعد في ذلك إذ لا يراد


(130)
باسم المعشوقة حينئذ إلاّ ما اشتهرت به من المعشوقية ، كما يقال فلان حاتم ولا يراد إلاّ ما اشتهر به من معنى الجود ، وعلى الأوّلين مثبت الترشيح دون الأخير.
    ويحتمل أن يكون من المجاز المركّب تمثيلاً لخلو الدِّين عن أئمّته ، والإمامة عن أهلها بخلو مربع أُمّ عمرو عن أهله.
    ويحتمل أن يكون « اللِّوى » مستعاراً لما عرفت من استعارة مصرّحاً بها مرشّحة.


(131)
تروح عنـه الطير وَحْشيَّةً والأُسدُ مِنْ خِيفَتِهِ تَفْزَعُ
    اللغة :
    الرواح : الوقت من زوال الشمس إلى اللّيل وهو العشي ، وإنّما سمّي بذلك لراحة الناس فيه غالباً عن الأعمال. و قد يكون مصدر « راح يَرُوحُ » في مُقابِله « غدا يغدو ». ويقال : رحت القوم وإليهم وعندهم روحاً ورواحاً : ذَهَبت إليهم في الرواح.
    ويقال : سَرَحَتِ الماشِيَةُ بِالغَداةِ. وراحَتْ بِالعَشِيّ ، أي رجعت. وأرحنا إبلنا رددناها في الرّواح.
    ثمّ اتّسع فقيل : راحَ القَومُ وتَرَوَّحوا ، إذا ساروا إلى وقت كان. ومنه الحديث : من راح إلى الجمعة في السّاعة الأُولى كأنّما قرب بدنه.
    وقال الأزهري إمام اللغويّين في عصره : يقال : راح إلى المسجد ، أي مضى. قال : ويتوهّم كثير من الناس أنّ الرواح لا يكون إلاّ في آخر النهار ، وليس ذلك بشيء لأنّ الرواح والغدوّ عند العرب يستعملان في المسير أيّ وقت كان : من ليل أو نهار ؛ يقال : راح في أوّل النهار وآخره ، وتروّح وغدا بمعناه (1). انتهى بألفاظه.
    « عن » : حرف جرّ وضع للدلالة على المجاورة ، أي مجاورة شيء عن المجرور
1 ـ أشار إليه الرضي الاسترابادي في « شرح شافية ابن الحاجب » : 4 / 337.

(132)
بها بسبب إحداث مصدر المعدى بها فمعنى : رميت عن القوس : أنّ السهم بعُدَ عن القوس بسبب الرمي. ومعنى : أطعمه عن الجوع : بعَّده عن الجوع بسبب الإطعام. و : أدّيت الدَّيْن عنه ، بمعنى بعَّدتُ الدَّيْن عنه بسبب الأداء.
    وأمّا نحو : رَوَيتُ عنهُ العِلمَ ، و : حكيتُ عنه ، و : أخذتُ عنه ، فمجاز ، كأنّك نقلت عنه ما عنده.
    وقولك : جلستُ عن يمينه ، أي تراخيت عن موضع يمينه بالجلوس.
    والبصريّون على أنّها ليست إلاّ للمجاوزة. وذكر الكوفيون لها معاني أُخرى.
    ثمّ إنّها تدخل عليها « من » الجارة ، فالأكثر على أنّها حينئذ اسم.
    وزعم الفرّاء أنّها حرف وأن « من » من الجوار تدخل على حروف الجر كلّها إلاّ « من » و « اللام » و « الباء » و « في » و « أمّا » ، مثال ذلك نحو قوله :
وَلَقَدْ أَراني للـرِّماحِ دريئـة من عن يميني مرّة وشمالي (1)
    وقد يدخلها « على » كما قال :
عَلَى عَنْ يَمِيني مَرَّتِ الطيرُ سُنَّحاً و كَيْــفَ سُنُــوحٌ واليـَميـنُ قَطيـعُُ (2)
    وفيه الخلاف السابق.
    وذهب بعض إلى أنّها اسم ، في قوله :
وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ ولَكنْ حَدِيثاً ما حَديثُ الرَّواحِلِِ (3)

1 ـ ذكره الرضي في شرح شافية ابن الحاجب : 3 / 58 والبيت ل‍ « قطري بن الفجاءة ».
2 ـ ذكره في مغني اللبيب : 150 رقم 241 ولم يذكر قائله.
3 ـ البيت هو مطلع أبيات لامرئ القيس بن حجرالكندي ، قالها حين أغارت عليه بنوجَدِيلة ، فذهبت بإبله ورواحله فلحق بهم جار لهم ، يقال له خالد ، فردّها ( انظر ديوان امرئ القيس : ص 146 ). وجاء البيت في نهج البلاغة ضمن الخطبة : 162.


(133)
    وفي عنعنة تميم « عن » بمعنى « ان » كقوله :
أَعَنْ تَرَسَّمْتَ مِـْن خَرْقـاءَ مَنْزِلَـةً ماءُ الصَّبابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُومُ (1)
    « الطير » جمع طائر ، كراكب وركب وصاحب وصحب.
    وقال قطرب وأبو عبيدة : إنّه يقع على الواحد.
    وقرئ : ( فيكون طيراً بإذن اللّه ) (2).
    « الوحش » : خلاف الإنس ، ويسمّى الحيوان الذي لا أُنس له بالإنس وَحشاً. وجمعه : وحوش.
    والوحش : المكان القفر ، يقال : لَقِيه بِوَحْشِ إصْمِتَ ، أي ببلد قَفْر.
    وبلد وحش ، وأرض وحشة وموحشة.
    وتوحّشت الأرض : صارت وحشة ، و أوحشت الأرض : وجدتها وحشة.
    وأوحش المنزل : صار وحشاً. وذهب عنه الناس وبات وحشاً : إذا لم يكن في جوفه طعام.
    وأوحش وتوحش : خلا بطنه من الجوع. ويقال : توحَّش للدواء أي أخلِ جَوفَكَ من الطعام.
    والوحشة : الهم والخلوة والخوف ، وقد أوحشت الرَّجل فاستوحش.
    والجانب الوحشي من كلّ شيء : جانبه الأيمن ، على قول أبي زيد وأبي عمرو.
1 ـ البيت ل‍ « ذي الرُّمّة » كما ذكره ابن هشام في مغني اللبيب : 1 / 149. وذكره في شرح شواهد المغني : 1 / 437 الشاهد 231 ، ولسان العرب : « عن ».
2 ـ آل عمران : 49.


(134)
    قال (1) :
فمالَتْ على شِقِّ وحْشِيِّها وقد رِيعَ جانِبُها الأيسَرُ
    يقال : ليس من شيء يفزع إلاّ مال إلى جانبه الأيمن ، ( لأنّ الدابّة لا تؤتى من جانبها الأيمن ) (2) وإنّما تؤتى في الاحتلاب والركوبِ من جانبها الأيسر ، فإنّما خوفها (3) منه ، والخائف إنّما يفرّ من موضع المخافة إلى موضع الأمن ، وعن الأصمعي أنّه الجانب الأيسر.
    أقول : ولكلّ جهة مناسبة لأصل المعنى.
    أمّا الأوّل فلأنّه لمّا كان أكثر الأعمال والتصرّفات بالجانب الأيمن فهو أكثر حركة وخروجاً عن ملازمة الجسد من الأيسر ، والأيسر أكثر سكوناً إلى الحيوان وأقلّ خروجاً عن ملازمة الجسد فصحّ أن يقال للأوّل : وحشيّ ، وللثاني : إنسيّ.
    ويحتمل أن يكون أصله من الدابة التي تركب فإنّ جانبها المأنوس للركوب إنّما هو اليسار فيمينها وحشي المراكب.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الحيوان إنس بجانبه الأيمن منه بالأيسر فإنّ أعماله في الغالب بالأوّل.
    ووحشيّ القوس : ظَهرُها ، وإنسيُّها : ما أقبل عليك منها ، وكذلك وحشيُّ اليد والرجل وإنسيُّهما.
    « الياء » حرف واسم ، والحرف حرف تهجّي ، وحرف معنى.
    أمّا الكلام على حرف التهجي منها : فاعلم أنّ مخرجها ممّا بين وسط اللسان
1 ـ والقائل هنا : الراعي.انظر لسان العرب : « وحش » ، وتاج العروس : 4 / 362 مكتبة الحياة ، بيروت.
2 ـ ما بين المعقوفين أضفناها من لسان العرب.
3 ـ في اللسان : « خوفه ».


(135)
ووسط الحنك ، خلافاً للخليل لزعمه أنّها هوائية كالألف والحق أنّها كذلك إذا كانت مدّة ، وإلاّ فالحقّ الأوّل وهو الذي خرج به جماعة : منهم ابن الحريري في مقدمته والجعبري في « شرح حرز الأماني » وهي مجهورة منفتحة منخفضة مصمتة بين الشديدة والرخوة ، ليّنة وغير ليّنة.
    وأمّا إذا كانت حرف معنى : فهي على نوعين : مخفّفة ، ومشدّدة.
    والكلام هنا في المشدّدة : وهي موضوعة للدلالة على انتساب شيء إلى ما لحقته ، ضرباً من الانتساب.
    وإنّما كانت علامة النسبة حرف لين ؛ لخفتّه وكثرة زيادته.
    وإنّما لحقت بالآخر لأنّها بمنزلة الإعراب في العروض ، وإنّما لم تكن « ألفاً » لئلاّ يلزم تقدير الإعراب ، ولا « واواً » لأنّها أثقل.
    وإنّما كانت مشدّدة لئلاّ تلتبس بياء المتكلم ، ولا تعلّ إعلال ياء قاض.
    ومن شأنها أن تحدث بما لحقته ثلاثة تغيّرات :
    أحدها : لفظي : وهو كسر ما قبلها وانتقال الإعراب إليها.
    ثانيها : معنوي : وهو صيرورته اسماً لغير مسمّاه.
    وثالثها : حكمي : وهو رفعه لما بعده بالفاعلية ظاهراً نحو : مَرَرتُ برَجُل قرشيّ أبوهُ ، أو مضمراً نحو : مَرَرتُ برَجُل قرشي.
    وربّما يراد للمبالغة كالأوحدي والأحمري والألمعي وكأنّه بمعنى أنّ له اختصاصاً تامّاً بهذه الماهية.
    أو مبنيّ على تخييل أنّه قد بلغ في الكمال في ذلك المعنى إلى حيث خرج عن جنسه فهو ليس فرداً من أفراده بل أمر له نسبة ما إليه.
    أو مبنيّ على نحو التجريد نحو : لَقيتُ بزيد ، أو : من زيد أسداً ، فكما يدلّ
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس