اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: 136 ـ 150
(136)
التجريد هناك على أنّه بلغ في الأسدية إلى حيث يصحّ أن يجرّد منه أسد فكذا هناك تدل « الياء » على أنّه بلغ في الأوحدية مثلاً إلى حيث تنزع منه « أوحد » آخر.
    أو مبنيّ على القلب ، بمعنى أنّه المنسوب إليه الأوحد ، مثلاً بمعنى أنّه بلغ في الأوحدية إلى حيث ينبغي أن يجعل أصلاً تنسب إليه ماهية الأوحد ، أو كلّ أوحد ، وربّما كانت علامة للمصدر نحو الفاعلية والمفعولية.
    وهذا المعنى أيضاً متشعّب عن النسبة فإنّ للحدث نسبة إلى متصرّفاته :
    وربّما جاء للنسبة « فعّال » نحو : حَمّال ونَبّال وحمّار وقزّار.
    و « فاعل » نحو : لابن و لاحم و رامح.
    وغيرهما ك‍ « مفعال » نحو : امرأة مِعْطار ، أي ذات عطر.
    و « مفعيل » ك‍ : ناقة محصير.
    و « فعل » ك‍ « رجل طعم ».
    وكلّ هذه لتنزيل المنسوب إليه لكمال اختصاص المنسوب به منزلة اعماله التي يفعلها ويوجدها.
    « الواو » : حرف تهجّي ، وحرف معنى.
    أمّا الكلام عليها من الجهة الأُولى : فاعلم أنّ المشهور أنّ مخرجها ما بين الشفتين كالباء والميم إلاّ أنّهما ينطبقان فيهما دونها.
    وذهب الخليل إلى أنّها هوائية لا مخرج لها.
    وعن المهدوي أنّه فصلها عن الباء والميم فجعل لها مخرجاً على حدتها.
    والصواب أنّ الليّنة منها هوائية كما قال الخليل ، وغير الليّنة ساكنة كانت أو متحركة مخرجها مخرج الفاء ، أعني باطن الشفة السّفلى وأطراف الثنايا العليا ولكن


(137)
الفاء أُدخل في الباطن منها. وإنّي لشديد التعجّب جدّاً من عدم يقظتهم لما ذكرت مع شدّة وضوحه ، نعم تفطّن للفرق بين النسبة وغيرها جماعة ، منهم ابن الحريري والجعبري.
    ثمّ « الواو » مجهورة منفتحة منخفضة مصمتة ، ليّنة وغير ليّنة ، بين الشديدة والرخوة.
    وأمّا من الجهة الثانية : فاعلم أنّها حرف مبنيّ على ما هو الأصل في بناء الحروف المفردة من الفتح ، وهي ضربان : عاملة وغير عاملة.
    والعاملة : هي الجارّة حسب ، خلافاً للكسائي والجرمي وأصحابهما ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ نصب الفعل بعدها بها.
    وغير العاملة : عاطفة ، وغير عاطفة.
    والعاطفة : موضوعة لمجرّد التشريك بين الأمرين في الحكم ، فإن عطفت مفرداً على مفرد شركت بينهما في الحكم الملفوظ ، وإن عطفت جملة على جملة أُخرى شركت بينهما في الوجود. وقولنا : لمجرّد التشريك : معناه أنّه لا إشعار فيها بتقدّم أحد المتعاطفين على الآخر بل الكلام محتمل للاجتماع والترتّب ، وقيل : بل يدلّ على تأخّر عن المعطوف عليه.
    وقال ابن مالك : وتنفرد الواو ـ يعني من حروف العطف ـ بكون متبعها في الحكم محتملاً للمعية برجحان وللتأخّر بكثرة وللتقدّم بقلّة.
    وقال ابن كيسان : لمّا احتملت هذه الوجوه ولم يكن فيها أكثر من جمع الأشياء كان أغلب أحوالها أن يكون الكلام على الجمع في كلّ حال حتى يكون في الكلام ما يدلّ على التفرّق.


(138)
    وذهب هشام وأبو جعفر الدينوري إلى أنّ الواو لها معنيان :
    معنى اجتماع : فلا تبالي بأيّها بدأت ، نحو : اختصم زيدٌ وعمرو ؛ رأيتُ زيداً وعمراً ، إذا اتّحد زمان رؤيتهما.
    ومعنى افتراق : وذلك بأن يختلف الزمان ، فلابدّ من تقديم المتقدّم زماناً ، ولا يجوز تأخيره ، ومثله نُقل عن قطرب وثعلب وعلاّمة.
    الأُسد : جمع أسد ، ك‍ « وَثَن » و « وُثْن » وقال الجوهري : إنّه مخفّف « أُسُد » وهو مقصور « أُسُود ».
    « من » : على ثلاثة أحرف : اسم وفعل وحرف.
    فالاسم مخفّف « أيمن » للقسم ، وقيل : بل هو حرف موضوع للقسم.
    والفعل : أمر من « مانَ يَمينُ » إذا كذب.
    والحرف : حرف جرّ ثنائي الوضع ، خلافاً للكسائي والفرّاء فإنّهما ادّعيا أنّ أصلها « منا » ولها معان كثيرة منها : ابتداءُ الغاية ، وهو أصل معانيها الذي يمكن إرجاع سائرها إليه.
    قال نجم الأئمّة ـ رضي اللّه عنه ـ : كثيراً ما يجري في كلامهم أنّ « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية ، ولفظ الغاية يستعمل بمعنى النهاية وبمعنى المدى ، كما أنّ الأمد والأجل أيضاً يستعملان بالمعنيين ، والغاية تستعمل في الزمان والمكان بخلاف الأمد والأجل فإنّهما يستعملان في الزّمان فقط ، والمراد بالغاية في قولهم : ابتداء الغاية وانتهاء الغاية : جميع المسافة ، إذ لا معنى لابتداء النهاية وانتهاء النهاية (1).
1 ـ شرح الرضي على الكافية : 4 / 263. مؤسّسة الصادق ـ طهران.

(139)
    ثمّ إنّ الابتداء يستدعي أن يكون هناك أمر ذو امتداد يبتدئ من شيء ، نحو : سِرتُ مِنَ البَصرةِ ، فإنّ السير ذو امتداد ، وأمّا نحو : خَرَجْتُ مِنَ الدّارِ ، مع أنّ الخروج ليس له امتداد فلأنّه أصل السير الممتد ، وربّما يراد به السّير.
    ثمّ إنّ مجيئها لابتداء الغاية في المكان ممّا لا خلاف فيه.
    وأمّا في الزّمان ، فجوّزه الكوفيّون تمسّكاً بقوله تعالى : ( نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَة ) (1) وقوله تعالى : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْم ) (2).
    وبقوله :
لمن الديارُ بِقُنَّةِ الحَجْــــرِ أقوَيْنَ مِن حِجَج ومِنْ شَهْرِ (3)
    ومنعه البصريّون وأجابوا عن الشواهد بأنّ من الظاهر أنّ « من » فيها ليست للابتداء ، إذ ليس النداء والتأسيس حدثين ممتدّين ولا أصلين لممتدّ والأقواء لم يبتدئ من الحجج ، بل الظاهر أنّها في الكلّ بمعنى « في » أو في الآيتين بمعنى « في » وفي الأخير بمعنى التعليل ولكن الظاهر مذهب الكوفيين ، إذ لا امتناع في نحو : نمتُ من أوّل اللَّيلِ ، ومثله كثير في الكلام.
    وليعلم أنّه قد لا يكون المجرور ب‍ « من » مكاناً ولا زماناً ولكن ينزل منزلة أحدهما.
    ومن معانيها : التعليل نحو : ( مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ) (4) ، ( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ ) (5) وهو المناسب هيهنا.
1 ـ الجمعة : 9.
2 ـ التوبة : 108.
3 ـ البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان ، ديوان زهير : 27.
4 ـ نوح : 25.
5 ـ البقرة : 19.


(140)
    « الخيفة » : الحالة التي عليها الإنسان من الخوف. والخوف : توقّع مكروه عن أمارة قطعيّة أو ظنيّة.
    وربّما استعملت الخيفة بمعنى الخوف ، قال تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (1) وقال : ( تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ). (2)
    قال الراغب : وتخصيص لفظ « الخيفة » تنبيه على أنّ الخوف فيهم حالة لازمة لا تفارقهم.
    وجعلها الجوهري مرادفة للخوف مصدراً ل‍ « خاف ».
    « الفزع » : الذُّعْر ، وهو انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف.
    ويقال : فَزِعَ إليه ، إذا التجأ إليه عند الفَزَع ، وفلان مَفْزَع ، أي مَلْجَأ عند الفزع. ومنه في حديث الكسوف : فافْزَعُوا إلى الصلاة ، أي الجأوا إليها واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث.
    الإعراب :
    تروح : فعل مضارع فاعله « الطير » يجوز تذكيره وتأنيثه لأنّ « الطير » تأنيثه غير حقيقي على أنّه مفصول بالظرف.
    ثمّ إن كان بمعنى « يرجع » ف‍ « عن » للتعدية ، كما يقال : « رجع عنه ». وإن كان بمعنى « يذهب » أو « يسير » فقد ضمن معنى التجاوز فعدّي ب‍ « عن ».
    أو يكون « عن » ظرفاً لمقدّر حالاً عن الفاعل أي : « متجاورة راجعة عنه ».
    و : الطير : يحتمل الاستغراق على ما قيل من أنّ الجمع المعرّف باللاّم ظاهره
1 ـ الرعد : 13.
2 ـ الروم : 28.


(141)
الاستغراق. والمعنى « كلّ طائر يرد ذلك المربع ».
    ويحتمل العهد الذهني على ما قيل أنّه الظاهر من الجمع المعروف نحو : ركبتُ الجبل ، ونكحتُ النساءَ ، ولبستُ الثيابَ.
    ويحتمل العهد الخارجي.
    وحشية : إمّا حال عن الطير ، إمّا منتقلة إن أُريد به التوحّش عن ذلك المَربَع أو التوحّش الحاصل من رؤيته ، وإمّا ثابتة على نحو قوله تعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ ) (1) إن أُريد به ما يقابل الإنسيّ ، أي أنّها من طبعها التوحّش وعدم الإنس وحينئذ يكون في معنى الصفة ، أي : الطير الوحشية ، واحترز به عن الطير التي تأنس بالنّاس.
    وإمّا صفة لمصدر مقدّر ، أي « روحه وحشيّة ».
    وإمّا ظرف إن أُريد نسبتها إلى الجانب الوحشي. وهذه الاحتمالات على أن تكون الياء فيه للنسبة.
    ويحتمل أن تكون مصدرية وحينئذ فهو مفعول له لتروح.
    ويحتمل أن يكون مفعولاً مطلقاً له على تضمين كلّ من « تروح » و « وحشية » بمعنى النفرة والهرب.
    وجملة هذا المصراع صفة أُخرى ل‍ « مربع » أو مستأنف.
    وجملة المصراع الثاني عطف عليه ؛ فإن كان صفة كان من عطف صفة على أُخرى تنزيلاً لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات ، كما في قوله :
1 ـ آل عمران : 18.

(142)
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم (1)
    وكان بمنزلة عطف المفرد على المفرد ، فإنّ المصراع الأوّل حينئذ في محل الإعراب. وإن كان مستأنفاً كان من عطف الجملة على الجملة.
    وقد وقع الخلاف في تعاطف الجملتين المتخالفتين بالفعلية والاسمية ؛ فجوّزه قوم مطلقاً وهو الأقوى وظاهر الأكثر ، وحكي عن ابن جنّي المنع منه مطلقاً وإليه الفخر الرازي في تفسيره وغيره ، وحكي عن الفارسي أنّه جوّزه في « الواو » دون غيرها ، والقائل الثاني يؤوّل مثل هذا بالفعليّة بأن يكون « الأسد » فاعلاً لتفزع مقدراً مفسراً بالمذكور ؛ فالحاصل أنّ « الأسد » إمّا مبتدأ خبره « تفزع » أو فاعل لفعل محذوف يفسّره « تفزع ».
    و : من خيفته : ظرف لغو متعلّق بتفزع ، والإضافة فيه لامية لأدنى ملابسة إن كانت الخيفة بمعنى الحالة التي للخائف.
    وإن كانت بمعنى الخوف كما قاله الجوهري كانت من إضافة المصدر إلى مفعوله.
    المعاني :
    فيه مسائل :
1 ـ ذكره ابن جرير الطبري في جامع البيان : 13 / 121. والقرطبي في تفسيره 9 / 278 وغيرهما ولم يذكروا قائله. وذكره الرضي الاسترابادي في شرحه على الكافية : 1 / 265 قائلاً وجاء في هامشه : والبيت غير منسوب في الخزانة ، ولكنه أورد البيت الذي بعده وسكت عن نسبه ، ولأعشى قيس قصيدة على هذا الوزن منها قوله :
إلى المرء قيس أطيل السري وآخذ من كل حيّ عصم

(143)
    الأُولى : في الوصف بالجملة ، وله وجوه :
    منها : أنّها الأصل هنا في التعبير عن هذا المقصود ، وكلّ مفرد يقوم مقامها فإنما يصاغ منها.
    ومنها : الدلالة على التجدّد ؛ فإنّ الفعل هو الذي يدلّ على التجدّد ، ولاشتماله على الدلالة على الزمان الملزوم للتجدّد ولا يمكن الوصف بالمفرد إلاّ بغير الفعل.
    ومنها : التوجيه ؛ أي جعل الكلام ذا احتمالين ، فإنّ الجملة تحتمل الاستئناف أيضاً كما عرفت.
    ومنها : أن لا يلزم إجراء الصفة على غير من هي له.
    ومنها : أنّه أراد استيفاء جميع أقسام النعت لهذا المربع ، فإنّ النعت إمّا مفرد أو جملة ؛ والجملة إمّا بحال الموصوف أو بحال متعلقه ؛ والجملة إمّا فعلية أو اسمية وقد استوفى الجميع.
    ومنها : أنّه لو أُتي بهذا الوصف مفرداً لكان إمّا أن يجعل الطير فاعلاً ل‍ « رايحة » أو مضافاً إليها ، فإنّه إمّا إن كان يقول : « رايحة عنه الطير » أو « رايح الطير » وعلى كلّ لم يكن له جهة صحة.
    أمّا الأوّل ؛ فلأنّ شرط عمل اسم الفاعل أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الاستمرار.
    وأمّا الثاني : ؛ فلأنّه لمّا كان اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار كانت إضافته معنوية فكانت مفيدة للتعريف فلا يصلح لأن يقع صفة لمربع ؛ لنكارته ، وأيضاً فإنّ الطير ليس بسبب للمربع فلا يكون في الصفة ضمير راجع إلى موصوفها فإنّ نحو : « جاءني رجل ضارب الغلام » إنّما يصحّ إذا كان أصله « ضارب غلامه » فلمّا


(144)
أُضيف « ضارب » انتقل إليه ضمير « غلامه » وليس الأصل هنا « رايح طيره ».
    وقد تناقض في هذا المقام ظاهر كلامين لصاحب الكشّاف حيث قال في ( مالِكِ يَومِ الدِّين ).
    فإن قلت : فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة ؟
    قلت : إنّما يكون (1) غير حقيقية إذا أُريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة ، أو : غداً. فأمّا إذا قصد معنى الماضي كقولك : هو مالك عبده أمس أو زمان مستمرّ كقولك : زيد مالك العبيد ، كانت الإضافة حقيقية كقولك : مولى العبيد. وهذا هو المعنى في ( مالِكِ يَومِ الدِّين ).
    وقال في سورة الأنعام في قوله تعالى : ( فالِقُ الإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ) (2) على قراءة نصب الشمس والقمر فالنصب على إضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي « وجعل الشمس والقمر حسباناً » أو يعطفان على محل الليل.
    فإن قلت : كيف يكون للّيل محلّ والإضافة حقيقية لأنّ اسم الفاعل مضاف إليه في معنى المضيّ ولا نقول زيد ضارب عمراً أمس؟
    قلت : ما هو في معنى المضي وإنّما هو ذاك على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة وكذلك ( فالقُ الحَبِّ ) (3) و ( فالِقُ الإِصْباح ) كما تقول : اللّه عالم قادر ، فلا يقصد زماناً دون زمان.
1 ـ اي : إنّما يكون اضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية.
2 ـ الأنعام : 96.
3 ـ الأنعام : 95.


(145)
    وقد دفع التناقض بأنّ الاستمرار لمّا كان مشتملاً على كلّ من الماضي وأخويه جاز اعتبار الماضي واعتبار أخويه ، فلا يعمل بالاعتبار الأوّل ويجعل إضافة حقيقية ويعمل بالاعتبار الثاني ويجعل الاضافة لفظيّة.
    وردّه صاحب الكشاف بأنّه حين يكون بمعنى أقرب إلى المشابهة بالفعل ممّا إذا كان للاستمرار فإنّ الفعل يكون بمعنى الماضي حقيقة ، بخلاف الاستمرار إذ لا فعل يكون حقيقة فيه ، فلو جاز الإعمال وهو بمعنى الاستمرار لجاز الإعمال وهو بمعنى المضي بطريق أولى ، قال : وكفاك أنّ اسم الفاعل بهذا المعنى يعني الاستمرار لا تدخله اللام الموصولة وتدخل بمعنى المضي ، ثمّ ادّعى أنّه غير ملائم لتقرير الزمخشري فإنّه يدلّ على أنّ الجعل المستمر مانع من كون الإضافة حقيقية ، إذ لو لم يكن مانعاً لا يكون جواباً عن السؤال ثمّ قال : إنّه غير موافق لنقل الثقات.
    ولا يخفى فساد جميع ما ذكره ؛ أمّا ما قاله أوّلاً ، فيما ذكره فاضل تفتازان من أنّ المعتبر في عمل اسم الفاعل مشابهته للمضارع لا لمطلق الفعل ، ولا شكّ أنّ المضارع كثيراً ما يستعمل للاستمرار ، بخلاف الماضي فإذا كان للاستمرار كان أقرب إلى المشابهة من جهتين : من جهة الاشتمال على الحال والاستقبال ، ومن جهة أنّ المضارع كثيراً ما يستعمل للاستمرار.
    وأمّا دخول اللاّم الموصولة على الّذي بمعنى المضي دون الذي للاستمرار ؛ فلأنّ المعتبر في الكون صلته صلة ، هو محض الحدوث الذي هو أصل الفعل حتى يقولون إنّه فعل في صورة الاسم ، كما أنّ اللاّم اسم في صورة الحرف محافظة على كون ما دخلته اللاّم التي في صورة حرف التعريف اسماً صورةً ، والاستمرار بعيد عن معنى الحدوث الفعلي فيكون محض مفرد ، بخلاف المضي. فالحاصل أنّ دخول اللام على الذي بمعنى المضي ، دليل على بعده عن مشابهة الفعل لا قربه.


(146)
    وأمّا ما قاله ثانياً فظاهر الفساد ؛ لأنّ من البيّن أنّ جواب الزمخشري لا يبتني على كون الاستمرار مانعاً عن حقيقة الإضافة ، بل يكفي كونه غير مانع.
    وأمّا ما قاله ثالثاً ، فلأنّ الزمخشري من أعظم الثقات ، غاية الأمر مخالفته لغيره من الثقات.
    وقد حكى السيد الشريف الجرجاني لدفع التناقض أنّ الاستمرار لمّا كان مشتملاً على المضي ومقابلته ؛ روعيت الجهتان معاً ، فجُعلت الإضافة حقيقية نظراً إلى الأُولى ، واسم الفاعل عاملاً نظراً إلى الثانية ، ثمّ قال : وليس بشيء لأنّ مدار كون الإضافة حقيقية أو غيرها على كونه عاملاً أو غير عامل انتهى.
    وفساد ما ذكره بيّن لا يخفى ، فإنّ هذا القائل لا يخلو إمّا أن يكون مراده عين ما نقلناه أو لا من أنّه يعتبر بإحدى الجهتين عاملاً ، فتكون الإضافة غير حقيقية ، وبالأُخرى غير عامل فتكون الإضافة حقيقية.
    أو يكون مراده أنّ إضافة « جاعل إلى الليل » حقيقية بإحدى الجهتين وعمله في سكناً بالجهة الأُخرى.
    وعلى كلّ من الاحتمالين لا يتوجّه عليه ما ذكره ، وكأنّه وهم أنّ مراده أن يعتبر الأمران العمل وكون الإضافة حقيقة بالنسبة إلى المضاف إليه و حينئذ فورود ما ذكره ظاهر.
    ثمّ إنّه أجاب عن التناقض بما كنتُ ربّما يتراأى لي قبل التأمّل في العبارة وهو أنّ الاستمرار على نوعين : ثبوتي تجددي فإن كان للأوّل لم يعمل ، لبعده عن مفهوم الفعل. وإن كان للثاني عمل لأنّ التجدّد إنّما يفهم من الفعل ، و « مالك » في ( مالك يوم الدين ) بالمعنى الأوّل ، و ( جاعل ) بالمعنى الثاني ، فإن جعل ( اللّيل ) من تجدّد كلّ ليلة مستمرّاً ، وهو وجه وجيه إلاّ أنّه لا يصلح لإصلاح كلام الكشّاف ، فإنّه شبّه ( جاعل ) بنحو « اللّه عالم قادر » ولا شبهة في أنّهما


(147)
للاستمرار الثبوتي.
    ويدفع التناقض وجه آخر ، وهو أنّ كلامه في الفاتحة صريح في أنّه المختار عنده ، وأمّا كلامه في الأنعام فلا يتعيّن لذلك كما لا يخفى فيجوز أن يكون مبنيّاً على رأي غير مختار له. هذا ما يتعلّق بكلام الكشاف.
    وأمّا تحقيق أصل المسألة وهي عمل اسم الفاعل إذا كان للاستمرار ، فقد قال فيه نجم الأئمّة ـ رضي اللّه عنه ـ ما هذا لفظه : وأمّا اسما الفاعل والمفعول فعملهما في مرفوع هو سبب (1) جائز مطلقاً ، سواء كانا بمعنى الماضي أو بمعنى الحال أو الاستقبال ، أو لم يكونا لأحد الأزمنة الثلاثة بل كانا للإطلاق المستفاد منه الاستمرار ، نحو : زيد ضامر بطنه ومسودّ وجهه ومؤدّب خدّامه ، وذلك لأنّ أدنى مشابهة للفعل يكفي في عمل الرفع ، لشدّة اختصاص المرفوع بالفعل وخاصّة إذا كان سبباً ، ألا ترى إلى رفع الظرف ، والمنسوب ، في نحو : زيد في الدار أبوه ، على مذهب أبي علي (2) ، ونحو : مررت برجل مصري حماره ؛ وكذا برجل خزّ صُفّةُ سرجه ، وإذا كانا كذا فإضافتهما إلى سبب هو فاعلهما معنى لفظية دائماً ، هذا من حيث اللفظ.
    وأمّا من حيث المعنى : فلأنّ المضاف في الحقيقة نعت المضاف إليه ، ألا ترى إنّك إذا قلت : زيد قائم الغلام ، فالمعنى : له غلام قائم ، وكذا مؤدّب الخدام ، وحسن الوجه. والنعت هو المعيّن للموصوف والمخصص له لا المتعيّن منه والمتخصّص ، فلم يكن تعيّن هذه الثلاثة بما أُضيفت إليه ولا تخصصها منه ، بخلاف : خاتم فضّة ، و : غلام زيد ، فإنّ المضاف إليه في الحقيقة هيهنا صفة
1 ـ المراد به الاسم المرفوع المشتمل على ضمير يعود على الموصوف باسم الفاعل أو اسم المفعول ، ويطلق عليه : السببي.
2 ـ أي « الفارسي » واشتهرت نسبة هذا الرأي إليه.


(148)
للمضاف ؛ لأنّ المعنى : خاتم من فضّة ، و : غلام لزيد.
    ويعمل أيضاً اسما الفاعل والمفعول : الرفعَ في غير السبب بمعنى الإطلاق كانا ، أو بمعنى أحد الأزمنة الثلاثة ، نحو : مررت برجل نائم في داره عمرو ، ومضروب على بابه بكر ، لكن لا يضافان إلى مثل هذا المرفوع ، إذ لا ضمير فيه يصحّ انتقاله إلى الصفة وارتفاعه بها ، فيبقى بلا مرفوع في الظاهر ، ولا يجوز ذلك لقوّة شبههما بالفعل كما سيجيئ.
    وكذا يعملان في الظرف والجار والمجرور مطلقاً ، لأنّ الظرف تكفيه رائحة الفعل ، نحو : مررت برجل ضارب أمس في الدار ومضروب أوّل من أمس السوط ، وكذا ينبغي أن يكون الحال ، لمشابهته للظرف ، وكذا المفعول المطلق ، لأنّه ليس بأجنبي.
    وأمّا عمل اسمي الفاعل والمفعول ، في المفعول به وغيره من المعمولات الفعلية (1) ، فمحتاج إلى شرط لكونها أجنبية وهو مشابهتهما للفعل معنىً ووزناً ، ويحصل هذا الشرط لهما إذا كانا بمعنى الحال أو الاستقبال ، أو الإطلاق المفيد للاستمرار ، لأنّهما إذن يشابهان المضارع الصالح لهذه المعاني الثلاثة ، الموازن على الاطّراد ، لاسم الفاعل والمفعول ، بخلاف الماضي ، أمّا صلاحيّته للحال والاستقبال فظاهرة ، وأمّا صلاحيّته للإطلاق المفيد للاستمرار فلأنّ العادة جارية منهم إذا قصدوا معنى الاستمرار ، بأن يعبّروا عنه بلفظ المضارع لمشابهته للاسم الذي أصل وضعه للإطلاق كقولك : زيد يؤمن باللّه وعمرو يسخو بموجوده ، أي هذه عادته ، فإذا ثبت أنّ اسمي الفاعل والمفعول يعملان في الأجنبي إذا كانا بأحد هذه المعاني الثلاثة ، فإضافتهما إذن إلى ذلك الأجنبي لفظيّة ، لأنّ هذا مبنيّ
1 ـ أي متعلّقات الفعل المختلفة.

(149)
على العمل كما تقدم (1). انتهت عبارته بألفاظها.
    وهو تفصيل حسن ، ووجه دقيق تقبله العقول إلاّ أنّه كان يجب أن يستشهد لكلّ ما ذكره ليصحّ الاعتماد عليه ، فإنّ أمثال ما ذكره نكت إنّما تقال بعد الوقوع فإذ لم يعلم الوقوع لم يكن لها فائدة ، وإنّما حكيناه نحن لأنّا أردنا أن لا يخلو كتابنا هذا عن ضابط في هذه المسألة ممّن يوثق بقوله ويعرج عليه. وللقوم فيها أقاويل شتّى وتفاصيل متباينة لو أردنا الاستقصاء لأُفضي إلى التطويل في غير مقامه.
    ولابدّ من أن يعلم أنّه إذا كان اسم الفاعل أو المفعول للاستمرار في الحال والاستقبال حسب دون الماضي ، فالظاهر أنّه لا شبهة في عملهما عمل المضارع.
    وقد علم من جملة ذلك أنّ الوجه الذي ذكرناه للعدول عن « رائحة عنه الطير » لا يتمّ إلاّ على رأي ، وأمّا على الرأي الآخر فيمكن أن يعتاص هذا (2) الوجه بأنّ في إعمال اسم الفاعل الذي للاستمرار ولو كان تجد فيها ضعفاً ولو كان في الفاعل ، لضعف مشابهته المضارع بالنسبة إلى الذي بمعنى الحال والاستقبال.
    المسألة الثانية : في فعلية هذه الجملة : ووجهها الدلالة على التجدّد ، فإنّ الرّواح لا يكون إلاّ متجدّداً ولأنّه أراد أنّ الرواح يحصل منها مرّة بعد أُخرى ، فقد أراد التجدّد المستمر ، وذلك لا يفهم إلاّ من المضارع لا سيما إذا أراد الاستمرار في الحال والاستقبال فقط ، ولأنّ الفعلية أقرب إلى أن يقع نعتاً لأنّ الاسمية أشدّ استقلالاً فهي إلى الاستئناف أقرب ، وهذا إنّما يتمّ على تقدير أن لا تكون الجملة مستأنفة.
    الثالثة : في تأخير هذا الوصف وما يليه عن السابقين ، وله وجوه :
1 ـ شرح الرضي : 2 / 222.
2 ـ اعتاصَ عليَّ هذالأمرُ يَعْتاصُ ، فهو مُعْتاصٌ : إذا التاثَ عليه امره فلم يهتَد لجهة الصواب فيه ( لسان العرب : « عوص » ).


(150)
    منها : رعاية الرقي.
    ومنها : أنّ الأوّلين مفردان والوصف المفرد أعرف في الوصف والتبعية وعدم الاستقلال وكلّ ذلك يقتضي التقديم.
    ومنها : أنّهما مشتقّان عن الأوّلين أو عن ثانيهما.
    ومنها : أنّ كلاً منهما لكونه جملة فيه طول لا ينبغي أن يفصل به بين التابع ومتبوعه.
    ومنها : أنّ المقصود بالذات إنّما هو وصف « المربع » بالبلقعية وإمحاء الآثار ، وأمّا وصفه بهذين الأمرين فهو من التوابع و المبالغات في ذلك فالأوّلان أهمّ منهما.
    الرابعة : في تقديم هذا الوصف على ما يليه وله وجهان : أحدهما رعاية الترقي ، وثانيهما أنّه جملة فعلية والأخير اسمية ، وقد عرفت أنّ الفعلية أقرب إلى الوصفية ، ولذا أتى بالاسميّة معطوفة خصوصاً والفعل مضارع فإنّ المضارع بمنزلة اسم الفاعل.
    الخامسة : في تأخير الفاعل عن الظرف : ووجهه مع الضرورة تقريب الضمير من مرجعه والاهتمام ، فإنّ الكلام في أحوال « المربع » والاخبار عنها والتشويق إلى الفاعل ؛ لزيادة التمكين كما عرفت ، والدلالة على استعظام هذا الحكم حتى أنّه لا يمكن أن يُنسب هذا الأمر إلى هذا المحكوم عليه و يحكم عليه إلاّ بعد أن يتمّها ويتأمّل ويرضي نفسه بهذا الاسناد ويتحقّق المسند إليه حقّ التحقّق والدلالة على زيادة تمكّن « المربع » في ذهنه ، وأنّه يخطر بباله أقدم من كلّ شيء إمّا لأنّه مربع أُمّ عمرو ، وإمّا للاستغراب والاستعجاب ممّا طراه ، وإمّا لهما جميعاً ، ولأنّه لو أخّر الظرف سواء أخّره عن وحشية أم لا ، لكان في معرض أن يتوهّم تعلّقه بوحشية لا سيّما إذا كان وحشية ما لا يأتيه ، فإنّها بمنزلة الوصف ، فلو
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس