اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 481 ـ 495
(481)
ضارب. والمراد هنا هو المعنى الأوّل أو الثاني.
    « تبعه » كعلمه تبعاً وتباعة : مشى خلفه واقتدى به في أعماله وامتثل أوامره ، وانتهى عن مناهيه ، وهذان المعنيان مأخوذان من الأوّل.
    الإعراب :
    « إذا » إن كانت ظرفية كانت مضافة إلى الجملة بعدها وتعلّقت ب‍ « قيل » ، وإن كانت شرطية ففيها الخلاف الذي عرفته.
    ضمير « دنوا » يرجع إلى القوم السابق ذكرهم ، وهم الّذين لم يرضوا بالوصي وخالفوا ما أوصاهم به النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، والضمير في « منه » عائد إلى الحوض أو الكوثر.
    « لكي يشربوا » متعلّق ب‍ « دنوا » والشّرب متعلّق مقدّر ، أي يشربوا منه.
    « تبّاً لكم » إلى آخر البيت الثالث ، مرفوع المحل على أنّه قام مقام فاعل القول ، وإعراب « تبّاً لكم » قد مضى فيما سبق.
    « فارجعوا » إمّا عطف على « ارجعوا » مقدّراً أو مستأنف وله متعلّق مقدّر ، أي ارجعوا عنه.
    « دونكم » إن كان ظرفاً تعلّق ب‍ « التمسوا » المذكور أو المقدّر إن كان المذكور عطفاً على المقدّر ، وإن كان اسم فعل فإن كان بمعنى خذوا كان له مفعول مقدّر ، أي دونكم منهلاً ، فحذف بقرينة المذكور أو تنازع « هو » و « التمسوا » في المذكور ، وإن كان بمعنى تأخّروا ، فلا مفعول له وأصل اسم الفعل هذا ظرف ، فأصل « دونك زيداً » : دونك زيد فخذه ، ثمّ حذف « فخذه » واستغنى بالباقي ، ثمّ لما قام الباقي مقام المحذوف تضمّن معنى خذ فنصب « زيد » وقيل : دونك زيداً ،


(482)
بمعنى خذه ، ثمّ الكاف التي فيه مجرور المحل كما كانت كذلك ، وقيل إنّه لا محلّ لها بل إنّما هي حرف خطاب كالتي في جهلك ، والكسائي على أنّها في موضع نصب ، والفراء على أنّها في موضع رفع.
    ثمّ إنّهم اختلفوا في أسماء الأفعال ، فالأخفش على أنّه لا محل لها من الإعراب ، ونسب ذلك إلى الجمهور وسيبويه والمازني وأبو علي الدينوري على أنّها في موضع نصب فما كان منها منقولاً عن المصادر فعلى المصدرية ، وما كان منها منقولاً عن الظروف فعلى الظرفية استصحاباً لحالتها السابقة.
    وقيل : إنّها مرفوعة المحال على الابتداء واستغنت بالضمير المستكن فيها عن الخبر كما استغنى نحو : « قائم » في : أقائم الزيدان ؟ بالفاعل عن الخبر. ثمّ إنّها عند جماعة معارف ؛ لكونها أعلام جناس. وفصل جماعة فقالوا : إنّ ما لزمه التنوين منها كونها نكرة ولم يدخله التنوين ألبتة كبله معرفة ، وما يدخله تارة ولا يدخله أُخرى كمه ، نكرة إذا نوّن ومعرفة إذا لم ينوّن.
    « فالتمسوا » إمّا مستأنف وهو إذا كان فاؤه الاستئناف وكان « دونكم » اسم فعل ، أو كانت الفاء زائدة و « دونكم » ظرفاً متعلّقاً به أو عطف على « التمسوا » مقدّراً ، أو على « دونكم » إذا كان بمعنى تأخّروا أو خذوا ، فإنّه في قوّة أن يقال : تأخّروا فالتمسوا منهلاً أو خذوا منه منهلاً فالتمسوا منهلاً.
    « يرويكم » صفة ل‍ « منهلاً ».
    « يشبع » صفة ل‍ « مطعماً » بمعنى يشبعكم ، فحذف المفعول أو نزل منزلة اللازم ، أي يحصل الشبع.
    جملة البيت الأخير استئناف ، كأنّهم قالوا : لم تطردنا عنه ، فقيل : لأنّ هذا. الخ.


(483)
    « هذا » مبتدأ خبره ما بعده.
    « غيرهم » إمّا مفعول ل‍ « يتبع » من غير تفريع ، أو مفعوله الذي فرع له الفعل ، وهو إذا كان « غير » بمعنى « إلاّ » فانّ الاستثناء ، حينئذ يكون مفرغاً ، أي يتبع النّاس أو أحداً أو نحو ذلك إلاّ إيّاهم.
    المعنى :
    إنّ أُولئك القوم إذا قربوا من الحوض أو الكوثر لأن يشربوا منه قيل لهم : هلاكاً وخسراناً لكم ارجعوا عن هذا المنهل ، اطلبوا عندكم مورداً يرويكم أو مطعماً يشبعكم أو يحصل به الشبع ، أو تأخّروا فاطلبوا أو خذوا منهلاً آخر فاطلبوا أو اطلبوا فاطلبوا ، أي اطلبوا مرّة بعد أُخرى.
    وفي قوله « مطعماً يشبع » : إشارة إلى أنّ الحوض أو الكوثر كما يروي يشبع أيضاً ، والأمر كذلك كما عرفت من الأخبار ، ثمّ يعلّل لهم ذلك ويجاب عن سؤالهم عن علة ذلك ؛ بأنّ المنهل ـ أي الحوض أو الكوثر ـ ملك من أحبّ أو اتّبع بني أحمد المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من الأئمّة الهداة صلوات اللّه عليهم و لم يكن يتبع من غايرهم ، أو لم يكن يتبع أحداً إلاّ إيّاهم. وهذا الحصر إضافي بالنسبة إلى من ضادّهم.
    أو يقال : إنّ اتّباع أتباعهم داخل في اتّباعهم وموافقهم أو مخصوص لهم أو حقّهم ، وموالاة بنيه يستلزم موالاة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ، ولذا اكتفى بذلك عن الإفصاح به ، وقد عرفت من الأخبار ما يفصح بهذا المضمون و به أخبار لا تحصى كثرة من طرق الخاصة والعامّة مذكورة في مواضعها.


(484)
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : بُني القول للمجهول تعظيماً للقائل ولعدم تعيّنه ، فإنّه كما يكون أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يجوز أن يكون الملائكة والمؤمنين أيضاً ، ولأنّه لو نسبه إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لتوهّم ربطه بما تقدّم من حديث الذبّ وليس كذلك ، بل إنّما يتعلّق بما سبق من قوله « لا هم عليه يردوا حوضه » والأبيات العشرة معترضة في البين ، لبيان الحوض وصفاته.
    الثانية : تقديم « دونكم » على « فالتمسوا » إن كان متعلّقاً به ، أو على « التمسوا » المقدّر إن تعلّق به الحصر بالإضافة إلى الحوض ، أو الكوثر والتوجيه.
    الثالثة : تقديم « غيرهم » على « يتبع » للوزن والقافية وتقريب الضمير من مرجعه ولشرافتهم المقتضية لتقديمهم وهذا على تقدير أن يكون « غير » بمعنى « إلاّ ».


(485)
فالفوز للشّاربِ من حوضِهِ وَالويــلُ والذلّ لِمَنْ يُمْنَــعُ
    اللغة :
    « الفاء » للعطف ويفيد الترتيب في الكلام لا في الوجود ، فإنّه متفرّع على ما تقدم وبمنزلة الفذلكة والنتيجة له أو فصيحه بمعنى أنّك إذا عرفت أنّ الناس يفترقون فرقتين شاربة وممنوعة فاعلم كذا.
    « الألف واللام » إمّا للحقيقة أو الاستغراق ولا يتفاوتان في المعنى هنا ، فإنّه إذا اختصّت حقيقة الفوز به اختصّت جميع أفراده به ، إذ لو وجد في غيره لوجدت في ضمنه الحقيقة ، وكذا ما في الويل والذلّ إلاّ أن يكون الويل اسماً لموضع في جهنّم كما ستعرف ، فحينئذ لا تكون الألف واللاّم فيه إلاّلمجرّد التزيين.
    « الفوز » النجاة والظفر بالخير. وقال الراغب : هو الظفر بالخير مع حصول السلامة (1). يقال : فاز به ، أي ظفر ، و : فاز منه ، أي نجا.
    « اللام » للاختصاص أو الاستحقاق أو شبه الملكيّة.
1 ـ الراغب الاصفهاني : مفردات ألفاظ القرآن في غريب القرآن : 387 « فوز ».

(486)
    « الألف واللاّم » الداخلان على اسم الفاعل أو اسم المفعول عند الجمهور : اسم موصول ، وعند الزمخشري : منقوصة من « الذي » وأخواته ، وعند المازني : حرف تعريف كما في نحو : الرّجل.
    « من » إمّا للتبعيض أو الابتداء.
    « الويل » كلمة يستعملها كلّ واقع في هلكة ، وأصله العذاب والهلاك. وقال الأصمعي : هو التقبيح ، وقيل : هو الهوان والخزي. وفي الفائق : وأمّا ويل فَشتمٌ ودعاء بالهلكة. وعن الفرّاء : إنّ الوَيْل كلمة شتم ودعاء سوء ; وقد استعملتها العرب استعمال « قاتله اللّه » في موضع الاستعجاب ، ثمّ استعظموها وكنّوا عنها ب‍ « ويح » و « ويب » و « ويس » ، كما كنّوا عن « قاتله اللّه » بقولهم « قانعه اللّه » و « كانعه اللّه » ، وكما كنّوا عن جوعاً له بجُوساً له وجوداً. (1) انتهى كلام الفائق.
    وفي النهاية للجزري : « الويل » : الحُزن والهلاك والمشقّة من العذاب. (2)
    وعن ابن عباس أنّه شدّة العذاب ، وهو المروي عن الإمام الهمام الحسن بن علي العسكري صلوات اللّه عليهما في « تفسيره » ، وقال الشيخ الجليل الصدوق أبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم رحمه اللّه في « تفسيره » : وأمّا الويل فبلغنا واللّه أعلم أنّها بئر في جهنّم. (3) وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : الويل واد في جهنّم يهوى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، والصعود حبل من نار
1 ـ جار اللّه الزمخشري : الفائق في غريب الحديث : 4 / 85 ـ 86 وجاء في هامشه : جُوعاً له وجوساً : إتباع. والجود : الجوع.
2 ـ الجزري ( ابن الاثير ) : النهاية : 5 / 236.
3 ـ تفسير القمي : 2 / 410 والرواية عن أبي الجارود عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ( عليه السَّلام ) : 303 ح 145 حول معنى « الويل » جاء بهذا النص : أسوأ بقاع الجحيم.


(487)
يتصعّد فيه أربعين خريفاً ثمّ يهوى فيه كذلك أبداً. (1)
    وعن سعيد بن المسيّب : « ويل » وادفي جهنّم لو سيّرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حرّها.
    قال الراغب : ومن قال : ويل وادفي جهنّم فإنّه لم يُرِدْ أنّ ويلاً في اللّغة هو موضوعٌ لهذا ، وإنّما أراد من قال اللّه تعالى فيه ذلك فقد استحقّ مقرّاً من النار وثبت ذلك له. (2)
    « الذلّ » ـ بالضم ـ : ضدّ العزّ يقال : رجل ذليل بيّن الذل والذلالة ـ بالضم ـ والذلة ـ بالكسر ـ والمذلّة والذلّ ـ بالكسر ـ : اللين ضدّ الصعوبة ، ومنه يقال : دابّة ذلول بيِّن الذلّ ، وقولهم : بعض الذل أبقى للأهل والمال.
    وفي القاموس : والذلّ ـ بالضم والكسر ـ : ضدّ الصّعوبة. (3)
    وقال الراغب : الذّلّ يعني ـ بالضمّ ـ : ما كان عن قهر ، يقال : ذَلَّ يَذِلُّ ذُلاّ. والذِّلُّ يعني ـ بالكسر ـ : ما كان بعدَ تَصَعُّب وشِماس مِنْ غير قَهْر ، يقال : ذَلَّ يَذِلُّ ذُلاًّ ـ قال : ـ وقوله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (4) أي كُنْ كالمقهور لهما ، وقُرئ : « جَناحَ الذِّلّ » ، والمعنى لِنْ وانقَد لَهما (5) ، هذه اللام كالأُولى في المعنى.
1 ـ تفسير ابن كثير : 4 / 471 ، وتفسير نورالثقلين : 1 / 93.
2 ـ الراغب : المفردات : ص 535 : « ويل ».
3 ـ الفيروز آبادي : القاموس المحيط : 3 / 379 : « ذلّ ».
4 ـ الإسراء : 24.
5 ـ الراغب : المفردات : ص 180 : « ذل ».


(488)
    الإعراب :
    « الفوز » مبتدأ ، ما بعده خبره « من حوضه » متعلّق بالشارب.
    « الألف واللام » إن كان اسم موصول فاسم الفاعل صلته ، وهو اسم بصورة فعل معنىً ، وإنّما عدل به عن الصورة الفعلية إلى الاسميّة استكراهاً لدخول ما يشبه « الألف واللاّم » اللتين هما حرف تعريف على الفعل.
    « الويل والذلّ » مبتدأن متعاطفان خبرهما لمن يمنع ، فالضمير المستقرّ فيه ضمير مثنى ليمنع متعلّق مقدّر ، أي يمنع منه ، أي من الحوض أو من الشرب منه.
    المعنى :
    الظفر بالخير أو النجاة ، أو الأمران مخصوص بالذي يشرب من حوض النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو حقّ له أو ملك له والهلاك والعذاب أو شدة العذاب أو الخزي والهوان أو القبيح أو ذلك المكان من جهنّم مخصوص بالذي يمنع منه ، أو حقّ له أو ملك له وكذا الهوان.
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : أفرد الشارب تنصيصاً على أنّ الفوز ثابت ولكلّ واحد من الشاربين.
    الثانية : عبّر عن الشرب بالاسم ، وعن المنع بالفعل دلالة على أنّ الشارب يكفيه الشرب مرّة واحدة ، لما عرفت من أنّ من شرب منه شربة لم يضمأ بعدها أبداً ،


(489)
وأنّه يكفي في الفوز حصول مسمّى الشرب ، وعلى أنّ الممنوعين يمنعون مرّة بعد أُخرى ، فإنّ المضارع يدلّ على الاستمرار التجددي كما في قوله :
أوَ كُلَّما وَرَدت عُكاظَ قَبيلةٌ بَعَثُوا إليَّ عَريفَهُمْ يَتَوَسَّمُ (1)
    الثالثة : في حذف متعلّق المنع مع الاختصار ، دلالة على أنّ من يمنع من الحوض فهو ممنوع من كلّ خير.
    البيان :
    ليس فيه التجوّز إلاّ في اللامين إن أُريد بهما شبه التملك.
1 ـ لطريف بن مالك العنبري ، وقيل طريف بن عمرو ؛ ذكره ابن منظور في « السان العرب » : 9 / 236 : « عرف ». والسمعاني : الأنساب : 1 / 47 ، وساقية ابن الحاجب : 3 / 128 ، وفي الصحاح : 4 / 1402 نسبه إلى طريف بن عمرو الغنوي.

(490)
والناسُ يومَ الحشـرِ راياتُـهُم فرايَةُ العِجْلِ وفِرعَونُها ورايةٌ يَقدِمُها أدلَمُ ورايةٌ يقدِمُها حَبتَرٌ ورايةٌ يَقْدِمُها نَعْثَلٌ أربعةٌ في سَقَر أُودِعُوا ورايةٌ يَقْدِمُها حَيدَرٌ خمسٌ فمنها هالِكٌ أربَعُ وسامريُّ الأُمّةِ المُشنَعُ عَبدٌ لَئيمٌ لُكَعٌ أكوَعُ للزُّورِ والبُهتانِ قَدْ أبدَعُوا لا بَرَّدَ اللّهُ لَهُ مَضْجَعُ ليسَ لَهُمْ مِنْ قعرِها مَطْلَعُ وَوَجُهُهُ كالشَّمس إذ تَطْلَعُ
    اللغة :
    « الواو » للاستئناف.
    « الألف واللاّم » للاستغراق أو الحقيقة كما نحو : ركبت الخيل.
    « الناس » : قيل أصله أُناس حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل لوقت في الوقت ، وهو اسم جمع كرخال (1) وحذف الهمزة مع لام التعريف كاللازم لا يكادون يقولون
1 ـ رخل : الرِّخْل والرَّخِل : الأُنثى من أولاد الضأْن ، والذكَر « حَمَلٌ » والجمع أرْخُل ورِخال ، ورُخال. ( لسان العرب : « رخل » ).

(491)
في السعة الاناس ، وقيل : بل قلت من نسي لأنّهم نسّاءُون ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ). (1)
    وقال الشّاعر :
لا تَنْسَينْ تلك العهود َفإنّما سُمِّيتَ إنساناً لأنّك ناسي (2)
    وقيل من ناسَ يَنُوسُ إذا اضطرب. ونُسْتُ الإبل : سُقتُها. وذُو نُواس مَلك كان تنوس على ظهره ذُؤابة.
    وأمّا على الأوّل ، فهو إمّا من الإنس لأنّهم خلقوا خلقة لا يمكنهم التعيّش إلاّ بأن يستأنس بعضهم ببعض ، ولذا قيل : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع. أو لأنّهم ناسون لكلّ ما يألفونه.
    وأمّا من آنستُهُ ببصري بمعنى أبصرته ، قال تعالى : ( آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّور ناراً ) (3) لأنّهم ظاهرون مبصرون ، بخلاف الجن فإنّهم مستترون عن الأبصار ولذا سمّوا جنّاً.
    وقيل : بل عليه أيضاً من النسيان وإنّ الإنسان أيضاً أصله إنسيان ، بدليل تصغيره على إنسان.
    وروى الشيخ الصدوق أبو جعفر بن بابوية رحمه اللّه في كتاب « علل الشرائع والأحكام » عن أبي عبد اللّه الصادق صلوات اللّه عليه قال : سمّي الإنسان إنساناً لأنّه ينسى ، وقال اللّه عزّوجلّ ( وَلَقَدْعَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسي ). (4)
1 ـ طه : 115.
2 ـ البيت من قصيدة لأبي تمام ، ديوانه : 152.
3 ـ القصص : 29.
4 ـ محمد بن بابويه : علل الشرائع : 15 باب 11 ح 1. والآية من سورة طه : 115.


(492)
    وأمّا معنى الناس فهو ظاهر معروف. وقد روى الصدوق أبو جعفر ابن بابويه في كتاب « العلل » المتقدّم ذكره ، بإسناده عن أبي خالد قال : سئل أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : الناس أكثر أم بني آدم ؟ فقال : الناس ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأنّك إذا قلت « الناس » دخل آدم فيهم ، وإذا قلت « بنو آدم » فقد تركت آدم لم تُدخله مع بنيه ، فلذلك صار الناس أكثر من بني آدم وإدخالك إيّاه معهم ، و لمّا قلت بنو آدم نقص آدم من النّاس.
    « اليوم » (1) معروف وقد يراد به مدّة من الزمان أيّة مدّة كانت وهو الظاهر هنا.
    وفي نحو ( يوم الدِّين ) (2) و ( يومَ التَّنادِ ) (3) وأمثال ذلك ممّا يتعلّق بالأُخرى.
    « الحشر » الجمع والإجلاء ، وقال الراغب : إنّه إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. (4) وهذا المعنى هو مجموع المعنيين الأوّلين ، فإنّه إجلاء ثمّ جمع ، والحشر الذي في القيامة مشتمل على الإزعاج عن القبور والجمع في المحشر للحساب وغيره.
    و « الألف واللام » فيه للعهد الخارجي ، أي ما يعرفه كلّ أحد من الواقع يوم القيامة.
    « الراية » العَلَمْ ، وهي واحدة الراي ، ويجمع على رايات.
    « الخمس » مرتبة معروفة من العدد ، وهي مع أخواتها من الثلاثة إلى العشرة
1 ـ الصدوق : علل الشرائع : 78 ب 68.
2 ـ الحمد : 3.
3 ـ غافر : 32.
4 ـ الراغب : المفردات : ص 119 : « حشر ».


(493)
قد خولف بها فعُريَت عن التاء للمؤنّث وحليت بها للمذكّر ، وقد قيل في ذلك وجوه.
    وقال نجم الأئمّة : والأقرب عندي أن يقال : إنّ ما فوق الاثنين من العدد موضوع على التأنيث في أصل وضعه ، وأعني بأصل وضعه ، أن يعبّر به عن مطلق العدد ، نحو : ستة ضعف ثلاثة ، وأربعه نصف ثمانية ، قبل أن يستعمل بمعنى المعدود كما في : جاءني ثلاثة رجال ، فلا يقال في مطلق العدد : ستّ ضعف ثلاث ، وإنّما وضع على التأنيث في الأصل ، لأنّ كلّ جمع إنّما يصير مؤنّثاً في كلامهم بسبب كونه على عدد فوق الاثنين ، فإذا صار المذكر في نحو : « رجال » مؤنّثاً بسبب عروض هذا العرض ; فتأنيث العرض في نفسه أولى ، وأمّا كون العدد عرضاً ، فلأنّه من باب الكم وهو عرض على ما ذكر في موضعه (1).
    ثمّ إنّه غلب على ألفاظ العدد التعبير بها عن المعدود ، فطرأ عليها إذن معنى الوصف الذي هو معنى الأسماء المشتقة ، إذ صار معنى قولك : جاءني رجال ثلاثة ، رجال معدودة بهذا العدد ، لكنّه مع غلبة معنى الوصف عليها ، كان استعمالها غير تابعة لموصوفها أغلب ، فاستعمال نحو « ثلاثة رجال » أغلب من استعمال « رجال ثلاثة » وإن كان الثاني أيضاً كثير الاستعمال ؛ وذلك لأجل مراعاة أصل هذه الألفاظ في الجمود ، ولقصد التخفيف أيضاً ، إذ بإضافتها إلى معدوداتها يحصل التخفيف بحذف التنوين.
    ثمّ قال : فنقول : بَقِيَت الأعداد إذا كانت صفة لجمع المذكّر على تأنيثها الموضوعة هي عليه وذلك من الثلاثة إلى العشرة ؛ لكونها صفة الجمع والجمع مؤنث ، بخلاف لفظ الواحد والاثنين فإنّهما لا يقعان صفة للجمع فقيل : رجال
1 ـ « ذكر في موضعه » من المصدر ، في الأصل : « يذكر في غير هذا الفن ».

(494)
ثلاثة ، كرجال ضاربة. (1)
    وهو جيد ، وتكميله أن يقال : ثم لمّا أرادوا الفرق بين المذكّر والمؤنّث حذفوا التاء في المؤنّث ، ونظير ذلك أنّهم جمعوا « فُعالاً » في المذكر على « أفعلة » بالتاء كجراب وأجربة ، وغلام وأغلمة ، وفي المؤنث على « أفعل » كذراع وأذرع ، وعقاب وأعقب.
    « الفاء » لعطف التفصيل على الإجمال ، فهي للترتيب في الذكر.
    التنوين : في خمس عوض عن المضاف إليه ، فإنّ التقدير خمس رايات ، إلاّ أن يقدّر الموصوف أي رايات خمس ، ولكنّ الأوّل أظهر ، أو يقال : لا حاجة إلى تقدير فإنّه قد حمل على الروايات ، فكأنّه قيل : راياتهم معدودة بهذا العدد.
    « من » للتبعيض.
    « الهلاك » على ثلاثة أوجه : الموت ، ومنه قوله تعالى : ( إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ) (2) ( وَما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهر ) (3).
    وافتقاد الشيء بالفساد ، ومنه قوله تعالى : ( وَيُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَساد ). (4)
    وكون الشيء باطلاً في نفسه ، ومنه : ( كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) (5) على قول.
    وربّما يقال : على الخوف والفقر والعذاب ، وهو المراد هنا. ويحتمل أن يراد
1 ـ نجم الأئمّة الرضي الاسترابادي : شرح الكافية : 214.
2 ـ النساء : 176.
3 ـ الجاثية : 24.
4 ـ البقرة : 205.
5 ـ القصص : 88.


(495)
الخوف.
    « أربع » مثل « خمس » في جميع ما ذكر إلاّ أنّه لا بدّله من التقدير إمّا تقدير مميّز أو موصوف.
    « الفاء » هذه كالسابقة في كونها لعطف المفصّل على المجمل.
    « الألف و اللام » للعهد الخارجي.
    والمراد بالعجل : الأوّل لأنّه كما وصّى موسى ـ صلوات اللّه على نبيّنا وآله وعليه ـ قومه باتّباع أخيه هارون واستخلفه على قومه فلم يقبلوا وصيّته ورفضوا اتّباع وصيّه وخليفته وعبدوا العجل ، كذلك أُمّة نبيّنا صلوات اللّه عليه وآله رفضوا اتّباع أخيه ووصيّه وخليفته عليهم واتّبعوا أبا بكر ، وقد مضى الدلالة عليه في خبر غدير خم فتذكر.
    وروى الشيخ الصدوق أبو جعفر ابن بابويه في كتاب « عقاب الأعمال » عن محمد بن الحسن الصفّار عن عبّاد بن سليمان ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن إسحاق بن عمّار الصيرفي ، عن أبي الحسن الماضي ( عليه السَّلام ) قال : قلت : جعلت فداك حدّثني فيهما بحديث فقد سمعت عن أبيك فيهما أحاديث عدّة ، فقال لي : يا إسحاق الأوّل بمنزلة العجل ، والثاني بمنزلة السامريّ. (1) إلى آخر الحديث وهو طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
    ثمّ إنّ الأوّل مشابهة خاصّة بالعجل في الحمق والبلادة وغاية البعد عن المنصب والذي زعموه له ولكن سيأتي في فصل المعاني خبر ينصّ على أنّ العجل هو عثمان.
    وفي تفسير الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري ( عليه السَّلام ) في تفسير قوله
1 ـ محمد بن علي الصدوق : عقاب الأعمال : 481 ح 3.
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس