اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 556 ـ 570
(556)
    وإمّا بسماع كلام من غير معاينة ، كسماع موسى كلام اللّه تعالى.
    وإمّا بإلقاء في الرّوع كما ذَكرَ عليهالصلاة والسلام : « إنّ روح القدس نفث في روعي ».
    وإمّا بإلهام ، نحو : ( وَأَوحَيْنا إِلى أُمّ مُوسى أَن أَرْضِعيه ). (1)
    وإمّا بتسخير ، نحو قوله : ( وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ). (2)
    أو بمنام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « انقطع الوحيُ وبقِيَتِ المُبَشِّراتُ رؤيا المؤمن ».
    فالإلهام والتسخير والمنام ، دَلّ عليه قوله : ( إلاّ وَحْياً ) (3) ، وسماع الكلام مُعاينةً دلّ عليه قوله : ( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب ) (4).
    وتبليغُ جبرئيلَ في صورة معيّنة دلّ عليه قوله : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) (5). (6) انتهى.
    وفي الصحاح : الوَحي : الكتاب ، وجمعه وحيٌّ ، مثل حَلي وَحُلي. قال لبيد : « كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها ». (7) والوحيُ أيضاً : الإشارة ، والكتابة ، والرّسالة ، والإلهام ، والكلام الخفيّ ، وكلُّ ما ألقيتَه إلى غيرك. يقال : وَحَيْتُ إليهِ الكلامَ وأوحَيْتُ ، وهو أن تكلِّمة بكلام تخفيه. قال العجاج : « وَحَى لها القرار فاستقرّت ». (8)
1 ـ القصص : 7.
2 ـ النحل : 68.
3 و 4 و 5 ـ الشورى : 51.
6 ـ مفردات الراغب : 515 ـ 516.
7 ـ من معلّقته ، والبيت بتمامه :
فمدافِعُ الرَّيّانِ عُرّي رَسمُها خَلقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
( المعلّقات العشر : 191 )
8 ـ وبعده : « وسدَّها بالراسيات الثبَّت ».


(557)
    ويروى : « أوحى لها » ووحَى وأوحى أيضاً كتب. وقال : « لِقَدَر كانَ وحاهُ الواحي ». وأوحى اللّه إلى أنبيائه. وأوحى ، أي أشار. قال اللّه تعالى : ( فَأَوحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (1).
    ووحيتُ له بِخَبَر كذا ، أي أشرتُ وصوَّتُّ به رويداً. (2) انتهى.
    وقد روى الصدوق أبو جعفر ابن بابويه رضوان اللّه عليه في باب الردّ على الثنويّة والزنادقة من كتاب « التوحيد » عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث طويل ، أجاب فيه عن عدّة مسائل لرجل في كتاب اللّه قال :
    فأمّا قوله : ( وَما كانَ لِبَشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب ) (3) : ما ينبغي لبشر أن يكلّمه اللّه إلاّ وحياً وليس بكائن إلاّ من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء كذلك قال اللّه تبارك وتعالى : ( عُلُوّاً كَبيراً ) (4) ، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء فيبلغ رسلُ السماء رسلَ الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السّماء.
    وقد قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : يا جبرئيل هل رأيت ربّك ؟ فقال جبرئيل : إنّ ربّي لا يُرى. فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : من أين تأخذ الوحي ؟ فقال : آخذه من إسرافيل ، فقال : ومن أين يأخذ إسرافيل ؟ قال : يأخذ من ملك فوقه من الرّوحانيين ، قال : فمن أين يأخذه ذلك الملك ؟ قال : يقذف في قلبه قذفاً. فهذا وحيٌ وهو كلام اللّه عزّ وجلّ وكلام اللّه ليس بنحو واحد ؛ منه ما كلّم اللّه به الرّسل ، ومنه ما قذفه في قلوبهم ، ومنه رؤيا يُريها الرّسل ، ومنه وحيّ وتنزيل يُتلى ويُقرأ ، فهو كلام اللّه
1 ـ مريم : 11.
2 ـ الصحاح : « وحى ».
3 ـ الشورى : 51.
4 ـ الإسراء : 4 و 43.


(558)
فاكتف بما وصفت لك من كلام اللّه ، فإنّ معنى كلام اللّه ليس بنحو واحد ، فإنّ منه ما يبلِّغ رسلُ السّماء رسلَ الأرض (1). انتهى ما أردنا حكايته.
    وروى في باب معاني الحروف المقطّعة في أوائل السّور من القرآن من كتاب « معاني الأخبار » بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن الإمام الهمام أبي عبد اللّه الصادق صلوات اللّه عليه ، في خبر طويل :
    قال :
    وأمّا « ن » ، فهو نهر في الجنة ، قال اللّه عزّ وجلّ : إجمد فجمد فصار مداداً ، ثمّ قال عزّوجلّ : للقلم : اُكتب فسطّر القلم في اللّوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فالمداد مداد من نور ، والقلم قلم من نور ، واللّوح لوح من نور.
    قال سفيان : فقلت له : يا ابن رسول اللّه بيّن لي أمر اللّوح والقلم والمداد فضل بيان ، وعلّمني ممّا علّمك اللّه.
    فقال : يا ابن سعيد لولا أنّك أهل للجواب ما أجبتك ف‍ « نون » ملك يؤدي إلى القلم وهو ملك ، والقلم يؤدي إلى اللّوح وهو ملك ، واللّوح يؤدي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدي إلى الأنبياء والرسل صلوات اللّه عليهم.
    قال : ثمّ قال لي : قم يا سفيان فلا آمن عليك. (2)
    فهذا شطر كافي في هذا الكتاب ممّا ورد في الوحي ، والاستقصاء في ذلك ـ مع أنّه لا يناسب المقام ـ يستدعي كتاباً مخصوصاً به ، والمراد بالوحي هنا إمّا الكلام الموحى به أو إنزال الكلام أو الرسول الآتي بالوحي.
1 ـ التوحيد : 264.
2 ـ معاني الأخبار : 22ذ ح 1.


(559)
    فعلى الأوّلين نسبة المجيئ إليه مجازية إلاّ أن يقدّر له مضاف ، أو جعل المجيئ مجازاً عن التنصيص والبيان.
    وعلى الثاني لا يجوز إلاّ في الوحي.
    « من » للابتداء.
    « يا » حرف موضوع للنداء وهو الدعاء لطلب الاقبال ، حقيقة أو مجازاً ، بالوجه أو القلب.
    ثمّ اختلفوا فقيل : إنّه لنداء البعيد حقيقة ، أو حكماً ومعنى البعد حكماً ، أن يكون المنادى مع قربه : غافلاً أو ساهياً عمّا ينادى له ، أو متعالياً عن رتبة المنادى ، نحو : يا للّه ، أو متنازلاً عنها ، نحو : يا هذا ، أو يكون الاهتمام بالإقبال على ما ينادى له عظيماً ، حتى إنّه ينزل المنادى مع تهالكه عليه بعيداً عنه ، نحو : ( يا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ). (1)
    وقيل : بل مشتركة بين نداء القريب والبعيد ، وقيل : بينهما وبين المتوسّط.
    وقيل : إنّها وأخواتها أسماء أفعال متضمّنة الضمير المتكلّم وأنّها بمعنى « أُدعوا ».
    « الألف واللام » للجنس ، أو العهد ، أو الاستغراق.
    « الحق » : الموجود الثّابت ، وخلاف الباطل ، أي المطابق لما في نفس الأمر.
    قال الرّاغب : أصل الحقّ : المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على استقامة. (2)
    والحقّ يقال على اللّه تعالى ، إمّا لكونه موجوداً ثابتاً ، أو لأنّه فعل ما فعل على
1 ـ المائدة : 67.
2 ـ مفردات الراغب : 125 : « حق ».


(560)
وفق الحكمة ، وكذا يقال على الفعل المطابق للحكمة ، وكذا على الفعل المطابق لما ينبغي أو يجب.
    والمراد هنا إمّا الاعتقاد الحقّ ، أو الدِّين الحقّ ، أو أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لكونه الإمام الحقّ ، أو اللّه سبحانه ، أو الثابت ، أو المطلق لما يجب.
    « الفاء » للعطف أو فصيحة أو زائدة.
    « لا » حرف موضوع للنهي ، أي طلب ترك الفعل ، أو الكفّ عن الفعل على اختلاف في ذلك.
    « الجزع » ضدّ الصبر. وقال الراغب : الجزع أبلغ من الحزن ، فإنّ الحزن عامّ ، والجزع هو حزن يَصرِفُ الإنسانَ عمّا هو بصدده ويقطَعُهُ عنه ، وأصل الجزع قطع الحبل من نصفه ، يقال : جَزَعتُهُ فانجزع ، و لِتَصوُّر الانقطاع منه. قيل : جَزعٌ الوادي لِمُنْقَطَعِهِِ ، ولانقطاع اللّون بتغيّره ، . قيل للخَرَز المتلوّن : جَزْعُ ، وعنه استعير قولهم : « لَحْمٌ مُجَزَّع » إذا كان ذا لونين. وقيل للبسرة إذا بلغ الإرطاب نصفَها : مُجَزَّعَةٌ (1). انتهى.
    الإعراب :
    « بذاك » إمّا مفعول به ل‍ « جاء » ، أو متعلّق به ، وهو إن كانت الباء للسببية ، أو بمعنى « في ».
    « من ربّنا » إمّا لغو متعلّق ب‍ « جاء » ، أو مستقرّ حال عن الوحي.
    « شيعة الحقّ » منادى مضاف منصوب إمّا ب‍ « يا » لقيامها مقام « ادعو » ، أو لكونها اسم فعل ، أو ب‍ « ادعو » مقدّراً لازم الحذف ، على اختلاف في ذلك ، والإضافة لامية أو بيانيّة ، بمعنى الشيعة الّذين هم الحقّ أي الثابتون في التشيّع ، أو
1 ـ مفردات الراغب : 92 « جزع ».

(561)
المطابقون أي المطابق اعتقادهم لما يجب ، أو أهل الحقّ تسمية لهم باسم ما يتلبّسون به من الحقّ.
    أو « شيعة » منادى مفرد مبني على الضم لإفراده وتعريفه ، وإنّما بني لوقوعه موقع الكاف الاسمية المشابهة للكاف الحرفية لفظاً ومعنى ، فإنّ : يا زيد ، بمعنى : أدعوك ، وهذه الكاف ككاف ذلك ، ولم يبن المضاف لأنّ المضاف إليه بمنزلة التنوين في الاختصاص بالاسم ، فلا يؤثّر معه مناسبة المبنيُّ الأصل ، ولأنّه بالتركيب لا يشبه الكاف المفردة ، ولم يبن المنكر لعدم المشابهة من جهة النكارة.
    وإنّما بني على الحركة ، لأنّه لو بني على السكون لأوهم الوقف والانقطاع عمّا بعده ، مع أنّه إنّما ينادى للمصلحة التي بعده.
    وإنّما بني على الضمّ لأنّه لو بني على الكسر لتوهّم أنّه مضاف إلى ياء المتكلّم فحذفت ياؤه واقتصرت على الكسرة.
    وأمّا الفتح ، فقد كان له قبل البناء ، فلو بني على الفتح لتوهّم أنّه الإعراب. هذا رأي الجمهور.
    وعند الكسائي أنّه معرب مرفوع لتجرّده عن العوامل اللفظية ، لا أنّ التجرّد عامل فيه ، بل بمعنى أنّه لما لم يكن فيه سبب للبناء أُعرب.
    ثمّ لو جرّ لالتبس بالمضاف إلى ياء المتكلّم.
    ولو نصب لالتبس بغير المنصرف ، فرفع ولم ينوّن ، للفرق بينه وبين ما رفع بعامل رافع ، وإنّما نصب المضاف وشبهه للطول ، ولأنّ المنصوب في كلام العرب أكثر.
    وقال الفرّاء : أصل : يا زيد ، مثلاً يا زيداً ، بالألف ليكون المنادى بين صوتين ثمّ اكتفي بالصوت الأوّل وحُذف الثاني فصار كالغايات فبني على الضم ، وإنّما نصب المضاف لقيام المضاف إليه مقام الألف.


(562)
    وقد ينوّن المنادى المفرد المعرفة للضرورة ، كقوله :
سلامُ اللّهِ يا مَطَــرٌ عَلَيهــا ولَيْسَ عَليكَ يا مَطَرُ السلاَّمُ (1)
    واعلم أنّ المراد بالمفرد هنا ما لا يكون مضافاً ولا مشابهاً له ، سواء كان مفرداً أو مثنّى أو مجموعاً ، إلاّ أنّ المثنّى والمجموع لا يبنيان على الضمّ ، بل على الألف والواو.
    وذهب بعض الكوفيين إلى تشبيههما بالمضاف فنادوهما بالياء ، نحو : يا زيدَين ويا زيدِين.
    هذا في الجمع بالواو والنّون ، وأمّا غيره من الجموع ، ك‍ « الشيعة » فلا شبهة في كونها كالواحد ، وعلى هذا ف‍ « الحقّ » صفة للمنادى يجوز فيه الرفع حملاً على لفظ المتبوع ؛ والنّصب على محلّه.
    قال نجم الأئمّة رضي اللّه عنه : فإن قلت : فَلِمَ لَمْ يجز بناء التوابع المفردة ولا سيّما الوصف منها كما جاز في : لا رجل ظريف ، فكتب يقول : يا زيد الظريف ، واللاّم لا تمنع البناء كما لم تمنع في الخمسة عشر.
    قلت : إنّما جاز ذلك في « لا » لأنّ المنفي في الحقيقة هو الوصف لا الموصوف فكان لا باشرت الوصف ، وذلك لأنّ معنى لا رجل ظريف فيها : لا ظرافة في الرّجال الّذين فيها ، فالمنفي مضمون الصفة ، فهي لنفي الظرفاء لا نفي الرجال ، فكأنّه قيل : لا ظريف فيها ، بخلاف يا زيد الظريف ، فإنّ المنادى لفظاً ومعنى هو المتبوع. فبان الفرق.
    على أنّه أورد الأخفش في مسائله الكبير أنّ بعضهم يقول في الوصف وعطف البيان ، نحو : يا زيد الطويل ، ويا عالم زيد : إنّهما مبنيان على الضمّ كما في
1 ـ البيت للأحوص الأنصاري ، شرح ابن عقيل : الشاهد 307.

(563)
البدل. انتهى.
    وعن الأصمعي : أنّه لا يوصف المنادى المضموم ، لشبهه بالمضمر الذي لا يجوز وصفه ، فنحو « الظريف » في : يا زيد الظريف ، إذا ارتفع ، خبر أنت مقدراً ، وإذا انتصب مفعول أعني مقدّراً.
    وفيه أنّه لا يلزم من شبهه بالمضمر كونه مثله في جميع أحكامه ، ثمّ إفراد « الحق » على هذا التقدير لكونه في الأصل مصدراً يستوي فيه الواحد وغيره ، أو لكونه وصفاً بحال المتعلّق وفاعله مقدّر أي : الحقّ تشيعهم أو اعتقادهم.
    ويجوز أن يكون « الحقّ » خبر مبتدأ محذوف أي أنتم الحقّ ، أو دينكم الحقّ ، أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : الحقّ معكم ، وأن يكون مفعولاً لمقدّر ، أي الزموا الحقّ أو لزمتم الحق ، أو خبر كان محذوفاً ، أي : كنتم الحق.
    وعلى كلّ تقدير يحتمل فيه الحقّ عليهم فإمّا المراد به أهل الحقّ ، أو يكون « الأهل » مقدراً مضافاً ففيه مجاز حذف ، أو لا تقدير ولا عناية ، وذلك ظاهر عند ملاحظة معاني « الحق ».
    ثمّ إنّ المنادى له قد يتقدّم على النداء وقد يتأخّر ، تقول : قم يا زيد ، وتقول : يا زيد قم.
    والوجهان هنا محتملان ، فإنّه يجوز أن يكون المنادى له قوله : « بذاك جاء الوحي من ربّنا ».
    ويجوز أن يكون قوله : « فلا تجزعوا » وأن يكون قوله : « الحق » إذا كان جملة برأسها.
    فعلى الأوّل يكون « الفاء » في « فلا تجزعوا » للعطف على المنادى له.
    وعلى الثاني يجوز أن تكون فصيحة والتقدير : إذا كان الأمر كذلك فلا تجزعوا ، وأن تكون زائدة ، وأن تكون للعطف على مقدّر ، أي أبشروا فلا تجزعوا ، أو


(564)
لا تجزعوا فلا تجزعوا ، فيكون مبالغة في النهي عن الجزع.
    والثّالث يكون للعطف على جملة « الحق ».
    المعنى :
    يا أتباع الدِّين الحقّ وأنصاره أو أنصار اللّه ، أو أتباع أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وأنصاره ، أو أيّتها الشيعة من الثابتين في التشيّع أو المطابق اعتقادهم لما يجب أو من أهل الحقّ ، أو يا شيعة أي المسمَّون بهذا الاسم الذين هم الحقّ أي أهله ، أو الثابتون في التشيّع ، أو المطابق اعتقادهم لما يجب ؛ أتى من ربّنا الوحي ، أي القرآن أو كلام اللّه غيره ، أو انزاله تعالى الكلام بالّذي ذكر ، من أنّ شيعة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يُروَوْن من الحوض ولا يُمنعون ، أو بجميع ما ذكر من أحوال الشيعة وإمامهم واصدادهم ، أو أتى به الوحي حال كونه من ربّنا ، أي الوحي الّذي من ربّنا ، أو أتى فيه الوحي أو بسببه : فلا تجزعوا ، أو : « بذاك جاء الوحي من ربّنا يا شيعة الحق » إذا كان الأمر كذلك فلا تجزعوا ، أو أبشروا فلا تجزعوا ، أو لا تجزعوا فلا تجزعوا ، أو يا شيعة أنتم الحقّ أو أهل الحقّ أو معكم الحق أو دينكم الحق أو الزموا الحقّ أو لزمتم الحق أو كنتم الحق أو أهل الحق فلا تحزنوا.
    ثمّ إن كان المراد بالوحي هو القرآن فمعنى إتيانه بذلك أنّ الآيات الناصّة بوجوب اتّباع أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وهلاك من خالفه ولم يتواله ، كثيرة ، فهي تدل على نجاتهم وهلاك مَن عداهم.
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : التعبير عن « في » بالباء إن كانت بمعناها ، للإيجاز والوزن والتوجيه.


(565)
    الثانية : الإشارة بما وضع للقريب لتنزيل القرب الذكري منزلة المكاني وللتنبيه تنبيه على أنّ ما ذكر ينبغي أن يكون نصب عين المؤمن حاضراً في ذهنه ليستبشر به ويقوى في دينه.
    الثالثة : تقديم « بذاك » على « جاء » للاعتناء بشأن المشار إليه ، ولتقريب اسم الإشارة من المشار إليه ، ولا سيما واسم الإشارة موضوع للقريب وللوزن. ويجوز أن يكون للحصر خصوصاً ، إذا كانت الباء للسببيّة ، فإنّ غاية الغايات للبعث والإنزال والتبليغ إنّما هو الإيمان وإثابة المؤمنين ، فما ذكر هو السّبب حقيقة للوحي ، وغيره وسائل إليه وأسباب له. وإن كان (1) الباء للتعدية أو الظّرفية صحّ الحصر أيضاً بهذا الاعتبار ، فإنّه لما كان العمدة فكأنّه ما أتى إلاّ به أو في شأنه.
    الرابعة : العدول عن : وحي ربّنا إلى « الوحي من ربّنا » إن كان « من ربّنا » حالاً عن « الوحي » للإيضاح بعد الإبهام.
    الخامسة : زيادة « من ربّنا » لزيادة التنصيص مزيد التقرير والتثبيت لما ذكر والتعظيم له.
    السادسة : إفراد الحق : إذا كان محمولاً عليهم مع ما ذكر من الوجه ، للإيماء إلى أنّهم بمنزلة شخص واحد ، أو ينبغي أن يكونوا كذلك في الاجتماع على الحقّ وفي انتصار بعضهم ببعض ، وكونهم يداً على من سواهم.
    البيان :
    « الباء » إن كانت بمعنى « في » كانت استعارة ، واستعمال اسم الإشارة الموضوع للإشارة الحسّية في المعاني استعارة تشبيهاً للحضور الذهني ، أو الذكري بواسطة ذكر ألفاظها بالحضور الخارجي اسناداً لمجيئ إلى الوحي مجازي أو الوحي
1 ـ ذُكّر على تقدير « إن كان حرف الباء ».

(566)
مجاز ، أو المجيئ استعارة تبعيّة ، أو في الوحي مجاز في الحذف إن كان المراد بالحق الباري سبحانه كان نسبة الشيعة إليه مجازية ، فإنّ أنصار اللّه بمعنى أنصار دينه أو أوليائه ، أو فيه مجاز في الحذف.
    وإن كان الحقّ صفة للشيعة أو كان الإضافة بيانية احتمل أن يكون « الحقّ » مجازاً عن أهله ، وأن يكون فيه مجاز الحذف.
    ثمّ نصّ الناظم رحمه اللّه على نفسه واستعطف واستشفع ضمناً وافتخر صريحاً ؛ بأنّه مادح أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم أو مادح شيعتهم على اختلاف احتمال فقال :


(567)
الحِمْيَريُّ مادِحُكُمْ لَمْ يَزَل وَلَوْ يُقَطَّع اصبع اصبعُ
    اللّغة :
    « الألف واللام » للعهد.
    « الحميريّ » نسبة إلى حِمْيَر كدرهم ، وهو ابن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان وهو من ملوك اليمن وأوّل ملوكه سبأ ، وقيل : يعرب. قيل : وإنّما سمي حميراً لكثرة لبسه الثياب الحمر.
    وهو أوّل من وضع من ملوك اليمن على رأسه التاج تاج الذّهب.
    وحميَر أيضاً موضع غربي صنعاء.
    ولعلّه سمّي باسم حمير الملك.
    ويحتمل أن تكون النسبة إليه وقد خفّفت ياء النسبة للضرورة ، وقد كرهوا تخفيف المشدّد إذا كان في غير القافية إلاّ أنّه جائز.
    « المدح » هو الثناء على الجميل اختياريّاً كان أو غيره ، وقيل : يختصّ بالاختياري.


(568)
    الخطاب يحتمل أن يكون إلى أهل البيت صلوات اللّه عليهم وإن لم يجر لهم ذكر ؛ لحضورهم بالبال ، وذكر أوّلهم وسيّدهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ، وأن يكون إلى الشيعة وهو الأظهر لفظاً.
    « زال » من الأفعال الناقصة وهو : زال يزال ، فالماضي أصله « زَوِل » كعلم ، فأمّا زال يزول وزاله يزيله أي فرقه ، فتامّان. وقيل : إنّ الناقصة أيضاً يائية.
    وحكى سيبويه وأبو الخطاب عن بعض العرب : ما زيل يفعل كذا ، فنقل كسرة الواو إلى ماقبلها ثمّ قلبها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كقيل المبني للمفعول ، وهو ملزوم للنفي إلاّ نادراً ، فقد يقال شاذّاً : زلت أفعل كذا ، بحذف حرف النفي ، كما في ( تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) (1) ومعناه الاستمرار والدوام ، فإنّ الزّوال نفي ، فإذا نفي تأكّد الإثبات.
    ويحتمل أن يكون ما في البيت تامّة فحينئذ يكون بضمّ الزاي من زال عن الشيء ، أي ذهب.
    وعلى التقديرين فالمراد الاستمرار في جميع الأزمنة ، أو تخصيص الماضي لأنّ غرضه الاستعطاف والاستشفاع.
    والأنسب بهما ما حصل منه من المدح ، أو لعدم الوثوق بالحياة والتوفيق للمدح فيما بعد ، ولا يأتي هذا صحة الأوّل ، فإنّ مثل هذه العبارة شائع ، بمعنى أنّه إن يفي ويوفّق له ، كان كذا.
    « الواو » حالية ، أو للاعتراض ، أو للعطف على اختلاف في كلّ واو قبل « لو » أو « ان » الوصليتين. والحقّ أنّ « لو » و « إن » باقيتان على الشرطيّة وعلى اقتضاء
1 ـ يوسف : 85.

(569)
الجواب ، وأمّا الواو فيحتمل أن تكون للحال على أن يكون ما بعدها من الجملة الشرطية بتمامها حالاً ، وهذا مذهب الزمخشري.
    وأن تكون (1) للاعتراض ، وهذا مذهب مختار نجم الأئمّة رحمه اللّه بناءً على ما ذهب إليه من جواز الاعتراض في آخر الكلام.
    و أن تكون للعطف على مقدّر ، و هو مذهب الشيخ عفيف الدين أبي حفص عمر بن عثمان الخبزي في المسائل العشرين ، والمقدّر جملة شرطية أُخرى شرطها نقيض المذكور وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا « منية الحريص على فهم شرح التلخيص » وفّقنا اللّه سبحانه لإتمامه.
    ثمّ إنّ « لو » كما عرفت أصلها المضي (2) وإن دخلت على المضارع.
    ولكن المراد ب‍ « لم يزل » إن كان الاستمرار في جميع الأزمنة ، فلا بدّ من أن يكون المراد ب‍ « لو يقطع » أيضاً إمّا الاستمرار أو الاستقبال كما لا يخفى.
    الإعراب :
    « الحميري » : مبتدأ « مادحكم » خبره ، أو صفة ، ولمّا كان اسم الفاعل هنا للاستمرار كانت إضافته معنويّة مفيدة للتعريف فجاز وصف المعرفة به.
    « لم يزل » خبر آخر ، أو هو الخبر ، فإن كان ناقصاً كان خبره مقدّراً ، أي « لم يزل كذلك » أي : مادحاً لكم ، وإن كان تامّاً قدّر له متعلّق ، أي « لم يزل عن مدحكم ».
    ويحتمل على رأي من جوّز تقديم خبر مازال وأخواتها عليها وهم الكوفيون وابن كيسان : أن يكون « مادحكم » منصوباً خبر « لم يزل » ، والجملة
1 ـ أي « ويحتمل أن تكون الواو ».
2 ـ إلى هنا تنتهي إحدى النسخ المعتمدة التي بأيدينا.


(570)
خبر « الحميري ».
    المصراع الأخير : إن كان اعتراضاً لم يقدّر إلاّ جواب الشرط أي « يقطع لمدحكم » إن كان « لم يزل » ناقصاً ، أو « لم يزل عن مدحكم » إن كان تامّاً ، وذلك لأنّه على الأوّل يكون قرينة الجواب « مادحكم » إن كان خبر « لم يزل » وإلاّ فمادحكم المقدّر خبراً له.
    وعلى الثاني يكون قرينة « لم يزل » و « لو » هذه بمنزلة « لو » في نحو قوله : « لو لم يخف اللّه لم يعصه » بمعنى استمرار الجزاء على تقديري الشرط وجر نقيضه ، بل على تقدير النقيض أولى ، وإن كان حالاً قدّر مع ذلك مبتدأ تكون الجملة الشرطية بتمامها خبراً له ، أي : وهو لو يقطع لمدحكم ؛ وذو الحال إمّا الحميري أو الضمير في « لم يزل ».
    وإن كان معطوفاً قدّر مع الجواب شرطية أُخرى : لو لم يُقَطَّع لمَدحكم ولو يُقَطَّع لمدحكم.
    وأمّا الجزم ب‍ « لو » ، فقيل : إنّه لغة وقيل بجوازه في الشعر ، كقوله :
لَوْ يَشَأ طارَ بِـهِ ذُو مَيْعَــة لاحِق ُ الآطالِ نَهْدٌ ذُو خُصَـلْ (1)
    وقوله :
نامت فؤادك لم يحزنك ماصنعت إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
    وقد خرج الأوّل على لغة من يقول شا يشا بألف ثمّ أُبدلت الألف همزة ساكنة كما قيل : العالم والحاتم ، وكما وجّه به قراءة ابن ذكوان منسأته بهمزة ساكنة.
    والثاني على أنّ ضمة الإعراب سلب تخفيفاً كقراءة أبي عمير ، و ينصركم
1 ـ البيت عزاء في الحماسة لامرأة من بني الحارث ، وقال العيني : هو لعلقمة. شرح شواهد المغني : 2 / 664 الشاهد 422.
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس