|
|||
(76)
ألم يرو الملاّ عن أم سلمة ـ كما في الصواعق (1) وغيرها ـ : أنّها قالت : سمعت نوح الجن على الحسين (2) ؟
1 ـ كلّما ننقله هنا عن الصواعق موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الاحاديث التي أوردها في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر « المؤلّف ». 2 ـ الصواعق المحرقة 2 / 573 ، المعجم الكبير : (2867) ، سير أعلام النبلاء 3 / 316 ، مجمع الزوائد 9 / 199. (77)
وروى ابن سعد (1) ـ كما في الصواعق أيضاً ـ أنّها بكت حينئذ حتّى غشي عليها.
وأخرج أبو نعيم الحافظ في الدلائل عنها ـ كما نقله السيوطي (2) ـ قالت : سمعت الجن تبكي على الحسين وتنوح عليه. وأخرج ثعلب في أماليه ـ كما في تاريخ الخلفاء أيضاً ـ عن أبي خباب الكلبي ، قال : أتيت كربلاء ، فقلت لرجل من أشراف العرب : أخبرني بما بلغني أنكم تسمعونه من نوح الجن ؟ فقال : ما تلقى أحداً إلاّ أخبرك أنه سمع ذلك ، قال : فأخبرني بما سمعت أنت ؟ قال سمعتهم يقولون :
1 ـ الصواعق المحرقة 2 / 573 ، وراجع : ترجمة الامام الحسين ومقتله من طبقات ابن سعد : 87 رقم 301 ، وحكاه سبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الامّة : 267 عن ابن سعد أيضاً. 2 ـ في أحوال يزيد ، من كتابه تاريخ الخلفاء « المؤلّف ». (78)
نصرة الازدية قالت : لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملوءة دماً (1).
قال ابن حجر ـ بعد إيراده في الصواعق ـ : وكذا روي في أحاديث غير هذه. قال : وممّا ظهر يوم قتله من الايات أيضاً : أنّ السماء اسودت اسوداداً عظيماً حتى رؤيت النجوم نهاراً. قال : ولم يرفع حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط (2). وأخرج أبو الشيخ ـ كما في الصواعق أيضاً ـ أنّ السماء احمرت لقتله ( عليه السلام ) ، وانكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النار ، وظنّ الناس أن القيامة قد قامت. قال : ولم يرفع حجر في الشام إلاّ رؤي تحته دم عبيط (3). وأخرج عثمان بن أبي شيبة ـ كما في الصواعق وغيرها ـ : أنّ الشمس مكثت بعد قتله ( عليه السلام ) سبعة أيام ترى 1 ـ الصواعق المحرقة 2 / 568 ، مختصر تاريخ دمشق 7 / 149 ـ 150. 2 ـ الصواعق المحرقة 2 / 568. 3 ـ الصواعق المحرقة 2 / 569 ، مختصر تاريخ دمشق 7 / 150. (79)
على الحيطان كأنها ملاحف معصفرة من شدة حمرتها ، وضربت الكواكب بعضها بعضاً (1).
قال في الصواعق : ونقل ابن الجوزي عن ابن سيرين : أنّ الدنيا اظلمت ثلاثة أيام ، ثم ظهرت الحمرة في السماء. قال : وقال أبو سعيد : ما رفع حجر من الدنيا إلاّ وجد تحته دم عبيط ، ولقد مطرت السماء دماً بقي أثره في الثياب مدّة حتى تقطّعت. قال : وأخرج الثعلبي : أنّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها ، وقال غيره : احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ، ثم لا زالت الحمرة ترى بعد ذلك ، وأنّ ابن سيرين قال : أخبرنا أنّ الحمرة التي مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين ( عليه السلام ) ، قال : وذكر ابن سعد : أنّ هذه الحمرة لم تر في السماء قبل قتله (2). إلى آخر ماهو مذكور في كتب السنة ، مما يدلّك على 1 ـ الصواعق المحرقة 2 / 569 ، المعجم الكبير : (2839) ، مختصر تاريخ دمشق 7 / 149 ، سير أعلام النبلاء 3 / 312. 2 ـ الصواعق المحرقة 2 / 569 ـ 570. (80)
انقلاب الكون بمقتله ( عليه السلام ) ، وأنّه قد بكته السماء وصخور الارض دماً (1).
1 ـ وللمزيد من المصادر التي تعرّفك على البينات التي ظهرت بعد شهادة الامام الحسين ( عليه السلام ) راجع : صحيح الترمذي 13 / 97 ، المناقب لاحمد ، عمدة القاري 16 / 241 ، جامع الاصول 10 / 25 ، الاصابة 1/334 ، تفسير ابن كثير 9 / 162 ، تاريخ الخلفاء : 80 ، الكامل في التاريخ 3 / 296 و 301 ، المعجم الكبير : (2830) و (2834) و (2839) و (2857) و (2858) ، مجمع الزوائد 9 / 197 ، نور الابصار : 123 ، الفصول المهمة : 179 ، المحاسن والمساوي : 62 ، أخبار الدول : 109 ، تهذيب التهذيب 2 / 353 ، سير أعلام النبلاء 3/312 ، تهذيب تاريخ دمشق 4 / 341 و 342 و 343 ، أسد الغابة 2/22 ، مجابي الدعوة : 38 ، الانس الجليل : 252 ، العقد الفريد 2/220 ، مقتل الحسين 2 / 89 ـ 91 و 101 ، كفاية الطالب : 284 و 289 و 295 و 296 ، تاريخ الاسلام 2 / 348 و 349 ، نظم درر السمطين : 220 ، الاخبار الطوال : 109 ، وسيلة المآل : 197 ، الخصائص الكبرى 2 / 126 و 127 ، حياة الحيوان 1 / 60 ، تاريخ الامم والملوك 4 / 327 و 357 ، الشرف المؤبد : 68 ، إسعاف الراغبين : 111 و 215 و 218 و 251 ، تـاج العروس 3 / 196 ، الكواكب الدرية : 57. وراجع من مصادر الشيعة ماذكره العلاّمة المجلسي في البحار 45/201 ـ 219 الباب 40. (81)
ولو فرض خصمنا جاهلاً بما في تلك الكتب مما سمعت بعضه ، فهل يجهل ما قام به ابن نباته خطيباً على أعواده ، وتركه سنة لخطباء المسلمين في الجمعة الثانية من المحرم في كلّ سنة ، وإليك ما اشتملت عليه تلك الخطبة بعين لفظه :
قال : بكت لموته الارض والسموات ، وأمطرت دماً ، وأظلمت الافلاك من الكسوف ، واشتدّ سواد السماء ، ودام ذلك ثلاث أيام ، والكواكب في أفلاكها تتهافت ، وعظمت الاهوال حتى ظنّ أنّ القيامة قد قامت. قال : كيف لا وهو ابن السيدة فاطمة الزهراء ، وسبط سيد الخلائق دنياً وآخرة ، وكان عليه الصلاة والسلام من حبّه في الحسين يقبل شفتيه ، ويحمله كثيراً على كتفيه ، فكيف لو رآه ملقى على جنبيه ، شديد العطش والماء بين يديه ، وأطفاله يصيحون بالبكاء عليه ؟؟ لصاح عليه الصلاة (82)
والسلام ، وخرّ مغشياً عليه.
قال : فتأسفوا رحمكم الله على هذا السبط السعيد الشهيد ، وتسلّوا بما أصابه عما سلف لكم من موت الاحرار والعبيد ، واتقوا الله حق تقواه. قال : وفي الحديث : إذا حشر الناس في عرصات القيامة ، نادى مناد من وراء حجب العرش : يا أهل الموقف ، غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمد ، فتجوز وعليها ثوب مخضوب بدم الحسين ، وتتعلّق بساق العرش وتقول : « أنت الجبار العدل ، اقضي بيني وبين من قتل ابني » ، فيقضي الله بينها وبينه ، ثم تقول : « اللّهم شفّعني فيمن بكى على مصيبتي » ، فيشفعها الله تعالى فيهم ... إلى آخر كلامه. فهلـ بعد هذا كلّه ـ تقول : إنّ البكاء على مصائب أهل البيت بدعة ؟! وهب أنّك لا ترجوا شفاعة الزهراء ، ولا تبكي (83)
لبكاء الانبياء والاوصياء ، فابك لبكاء الشمس والقمر ، ولا يكن قلبك أقسى من الحجر ، إبك لبكاء عمر بن سعد أو عمرو بن الحجاج والاخنس بن يزيد ويزيد بن معاوية أو خولي والسالب لحليّ فاطمة بنت الحسين ( عليه السلام ) ، إبك لبكاء العسكر بأجمعه ، فقد شهدت كتب السير بكاءهم مع خبث أمهاتهم وآبائهم.
أيحسن منك ـ وأنت مسلم ـ أن يصاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بهذه الفجائع ، وتحل بساحته تلك القوارع ، ثم تتخذها ظهرياً ، وتكون عندك نسياً منسياً ؟! ما هذا شأن أهل الوفاء ، ولا بهذا تكون المواساة لسيد الانبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ). ثم إن الانقلاب الهائل ، وتلك الاحوال المدهشة ـ من الخسوف ، والكسوف ، ورجف الارض ، وظلمة الافق ، وتهافت النجوم ، وحمرة السماء ، وبكاء الصخر الاصم دماً ـ لم تكن إلاّ إظهاراً لغضب الله عز وجل ، وتنبيهاً على فظاعة الخطب ، وتسجيلاً لتلك النازلة في صفحات الافق ، لئلاّ تنسى على مرّ الليالي والايام ، وفيها من بعث الناس على استشعار الحزن وادثار الكآبة ما لا يخفى على أولي (84)
الالباب.
(85)
علم الباحثون من مدقّقي الفلاسفة : أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت ( عليهم السلام ) أسراراً شريفة (1) ، تعود على
1 ـ نبَّهكَ إلى بعضها حكيما الغربيين وفيلسوفا المستشرقين : الدكتور جوزف الفرنساوي في كتابه : ( الاسلام والمسلمون ) ، والمسيو ماربين الالماني في كتابه ( السياسة الاسلامية ). وقد ترجمت جريدة ( حبل المتين ) الفارسية في 82 من أعداد سنة 17 فصلين من ذينك الكتابين النفيسين ، يحتويان على أسرار شهادة الحسين وفلسفة مأتمه ( عليه السلام ) ، فكان لهما دوي في العالم الاسلامي ، وأخذا في الشرق دوراً مهماً ، وترجما بالتركية والهندية ، وعرّبهما العلاّمة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل آية الله السيد إسماعيل الصدر ، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين ، ومجلة العرفان نشرت الاخر. وإليك ماذكره الدكتور جوزف تحت عنوان ( الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول ) ، قال من جملة كلام له طويل : لم تكن هذه الفرقة ـ يعني الشيعة ـ ظاهرة في القرون الاولى الاسلامية كأختها ، ويمكن أن تنسب قلّتهم إلى سببين : أحدهما : أن الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت بيد الفرقة الاخرى. والسبب الاخر : هو القتل والغارات التي كانت تتوالى عليهم. ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمّتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقية ، فزادت في قوتهم ، لعدم تمكن العدوّ القوي الشكيمة من قتلهم والاغارة عليهم ، بعد أن لم يكونوا ظاهرين ، وصاروا يعقدون المجالس سراً ويبكون على مصائب الحسين ، واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم على وجه لم يمض زمان قليل إلاّ وارتقوا ، حتى صار منهم الخلفاء والسلاطين والوزراء ، وهؤلاء بين من أخفى مذهبه وتشيعه ، وبين من أظهره. وبعد أمير تيمور ، حيث رجعت السلطنة في إيران إلى الصفوية ، صارت إيران مركز فرقة الشيعة ، وبمقتضى تخمين بعض سواح فرنسا أن الشيعة فعلاً : سدس المسلمين أو سبعهم. [ الاحصائيات الان تنبئنا بأن الشيعة تتراوح نسبتهم بين الربع والثلث من عدد المسلمين ]. ونظراً إلى هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل ، من دون جبر وإكراه ، يمكن أن يقال : إنّهم سيفوقون سائر فرق الاسلام بعد قرن أو قرنين. والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كل واحد منهم داعياً إلى مذهبه ، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الاثنان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيه عزاء الحسين ، ويبذلان في هذا السبيل الاموال الكثيرة. فقد رأيتُ في نزل ما رسل شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد ، ويرقى المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي ، ثم يقسم ما أحضره من الطعام على الفقراء. هذه الطائفة تبذل الاموال في هذا السبيل على وجهين : فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته ، وصرفيات هذا القسم تزيد على ملايين فرنك. وبعضهم يعين أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة ، وهذا القسم أضعاف الاول. ويمكن أن يقال : إن جميع فرق الاسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها ، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين ، أو ثلاثة أضعافها. كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلى مذهبه من حيث يخفى على سائر المسلمين ، بل إنّ الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة على عملهم ، وليس في نظرهم إلاّ الثواب الاخروي. ولكن حيث أنّ كل من عمل في هذا العالم لابدّ وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الاجتماعي ، قصده الفاعل أو لم يقصده ، لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعية في هذا العالم. ومن المعلوم أن مذهباً دعاته خمسون أو ستون مليوناً لابدّ وأن يرتقي أربابه على وجه التدريج إلى ما يليق بشأنهم ، حتى أن الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة ، وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الاعيان والاكابر ، لانهم يرون في ذلك خير الدنيا والاخرة. لهذا ترى جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشية وتفرغوا لهذا العمل ، وهم يكابدون المشاق في تحري العبارات الرائفة والجمل الواضحة عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت على المنابر في المجالس العمومية ، ولاجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة على خطباء جميع فرق المسلمين. وحيث أنّ تكرار الامر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير ، تسعى هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الاسلامية الراجعة إلى مذهبهم بهذا العنوان على المنابر ، حتى آل الامر إلى عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها ، كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر من سائر المسلمين. ولو نظرنا اليوم في أقطار العالم ، نرى أنّ الافراد التي هي أولى بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنما توجد بين الشيعة ، والدعوة التي قام بها الشيعة إلى مذهبهم أو سائر الفرق الاسلامية غير محدودة ، بل أنّ آحاد وأفراد الطائفة دعاة ، ما دخلوا بين أمة إلاّ وسرى هذا الاثر في قلوبها ، وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلاّ هو أثر إقامة هذه المآتم. الشيعة لم تؤيّد دينها بقوة ولا سيف ، حتّى في زمن الصفوية ، بل أنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقّي المحيّر للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضى من السيف. ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً ، حتّى جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها ، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب. ومن المعلوم أنّ بعد مضي قرن ووصل هذه الاعمال بالارث إلى أبناء أولئك الطوائف يذعنون بها ويصدقون هذا المذهب. وبما أن فرقة الشيعة تعتقد بان جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلى أكابر مذهبهم ، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج ، ويستمدون منهم عند الشدائد ، سرت هذه الروح أيضاً إلى سائر الفرق التي اشتركت معهم في تلك الاعمال والافعال ، ومن المعلوم أنّ بمجرد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً. من هذه القرائن والاسباب يمكننا أن نقول : لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد ، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنين تلازم التقية ـ فيما عدا إيران ـ نظراً لقلّتهم ، وعدم قدرتهم على إظهار شعائر مذهبهم ، ولكن من يوم استولت الدولة الغربية على الممالك الشرقية ومنحت جميع المذاهب الحرية قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان ، واستفادوا من هذه الحرية فائدة تامة حتى أنهم تركوا التقية. لهذه الاسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر ، وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف ، لذلك ترى العمّال في هذه الفرقة أكثر مما تراه في سائر فرق المسلمين ، لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب ، مضافاً إلى أنّ مثابرتهم على العمل مما توجب احتياج الغير إليهم ، كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفرق وصلاتهم الودادية مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم ، فيسمعون أصول مذهبهم ، ويصغون إلى كلماتهم وعباراتهم ، وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم. وهذا هو عمل الدعاة ، والاثر الذي يترتب على هذه السيرة هو الاثر الذي يتطلبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهظة. ومن جملة الامور السياسة التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصيغة مذهبيه منذ قرون وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو : قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين ، وقد قرر حكماء الهند التمثيل لاغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم ، فأخذته أورپا وأخرجته بمقتضى السياسة بصورة التفرج ، وصارت تمثل الامور المهمة السياسية في دور التمثيل الخاصة والعامة ، وجلبت القلوب بسببه ، وأصابت بسهم غرضين : تفريج النفوس وجلب القلوب في الامور السياسية ، والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة وأظهرته بصيغة دينيه ، ويمكن القول بأنّ الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود. وكيف كان ، فالاثر الذي ينبغي أن يعود من التمثيل إلى قلوب الخواص والعوام قد عاد ، ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة على أكابر دينهم ، والمظالم التي وردت على الحسين ، مع تلك الاخبار الواردة في فضل البكاء على مصائب آل محمد ، إذا انضمّت إلى تمثيل تلك المصائب ، تكون شديدة الاثر ، وتوجب رسوخ عقائد خواصّ هذه الفرقة وعوامها ، فوق ما يتصور. وهذا هو السبب الذي لم يسمع من ابتداء ترقي مذهب الشيعة إلى الان أن ترك بعضهم دين الاسلام أو دخل في سائر الفرق الاسلامية. هذه الفرقة تقيم التمثيل على أقسام مختلفة ، فتارة في مجالس خصوصية وأمكنة معينة ، وحيث أنّ الفرق الاخرى قلّما تشترك معهم في المجالس ، اخترعوا تمثيلاً خاصاً وصاروا يدورون به في الازقة والطرقات وبين جميع الفرق ، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد ، عين الاثر الذي يحصل من التمثيل ، ولم يزل هذا العمل يزداد إليه توجه الانظار من الخاص والعام حتى قلد الشيعة فيه بعض الفرق الاسلامية والهنود واشتركوا معهم في ذلك ، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الاسلامية ، كما أنّ سائر فرق الاسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد. ويغلب على الظن أن أصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفوية الذين هم أول من نال السلطنة بقوة المذهب ، وأجاز العلماء والرؤساء الروحانيون هذه الاصول. ومن جملة الامور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم ـ في كل مكان ـ هو تعرفهم ، بمعنى أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفرق من حيث الجاه والقوة والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والالوية في عزاء الحسين. إن من المعلوم أنّ كل جمعية وجماعة تجلب إليها الانظار والخواطر بدرجة ما ، مثلاً لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين ، وفي محل الف نفس مجتمعة ، كانت شوكة الالف المجتمعين وأبّهتهم في أنظار الخاصة والعامة أكثر من العشرة آلاف المتفرقين ، مضافاً إلى أنّهم لو اجتمع الف نفس انضمّ إليهم من غيرهم مثل عددهم ، إمّا للتفرج ، أو لاجل صداقة ورفاقة ، أو لاغراض أخرى ، وبهذا الانضمام تزيد شوكة الالف وقوتهم في الانظار وتتضاعف. (86)
(87)
(88)
(89)
(90)
|
|||
|