الملل والنحل جلد الثاني ::: 21 ـ 30
(21)
    على عقبه ، قال : وكانت نفقته في كلّ سنة سبعة عشر درهماً. (1)
    وهذا من غرائب الأُمور ، إذ مع أنّه لا يكفي لنفقة إنسان طول السنة مهما بلغت قيمة العملة الفضية ، كما هو معلوم لمن تتبع قيمة الدرهم والدينار في العصور الإسلامية ، إنّ الشيخ قام بتأليف كتب يناهز عددها المائة ، وبعضها يقع في مجلدات ضخمة ، وقد ذكر المقريزي أنّ تفسيره يقع في سبعين مجلداً. (2)
    وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها ويراعها ، والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة ، وأخذ بالمحاسبة الدقيقة ، وخرج بهذه النتيجة : أنّ الأشعري كان ينفق في السنة 17 درهماً ، والدرهم ( 95/2 ) غراماً من الفضة فكان مقدار ما ينفقه في العام هو ما يساوي ( 15/50 ) غراماً من الفضة ، ثمّ قال : فما كان أرخص الحياة في تلك الأيام. (3)
    ولأجل ما في هذا النقل من الغرابة ، نقله ابن خلّكان بصورة أُخرى ، وهي أنّ نفقته كلّ يوم كانت (17) درهماً. (4)
    ولكن الحقّ ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ، من أن مُغَلَّه كان في كلّ سنة (17) ألف درهم (5). فسقط الألف من نسخ القوم ، وبذلك تجلّى الأشعري بصورة أنّه كان زاهداً متجافياً عن الدنيا.
رجوعه عن الاعتزال
    اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة ،
1 ـ التبيين : 142.
2 ـ الخطط المقريزية : 2/359.
3 ـ مذاهب الإسلاميين : 503 ـ 504.
4 ـ وفيات الأعيان : 3/382.
5 ـ البداية والنهاية : 11/187 حوادث عام 224 هـ .


(22)
    وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في ( فهرسته ) حيث يقول : أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة ، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، في المسجد الجامع بالبصرة ، في يوم الجمعة رقي كرسياً ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت قلت بخلق القرآن ، وإنّ الله لا يرى بالأبصار ، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة ، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير . (1)
    وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثيرمن علماء التراجم ، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته ، ولأجل ذلك يجب التوقف هنا إجمالاً ، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال.

سبب رجوعه عن الاعتزال
    إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علة وسبباً ، ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته ، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.
    إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم ، أو قلم العاطفة ، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة ، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أبا الحسن أن ينصر سنّته ، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في « تبيينه » في ذلك المجال ، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه :
    1. نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته ،
1 ـ فهرست ابن النديم : 271 ووفيات الأعيان : 3/285.

(23)
    كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً ، فيتحير في ذلك ، فحكي أنّه قال :
    وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد ، فقمت وصليت ركعتين ، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم ، ونمت فرأيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : عليك بسنّتي ، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته ، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.
    2. نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال : بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان ، رأيت المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم ، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي ، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك ، حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في المنام فقال لي : ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت : يا رسول الله ، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام ، واتّبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي : أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن ، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن; إلى آخر ما ذكره من الرؤيا. (1)
    وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات ، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة ، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام ، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.
    أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين ، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام و تزايده إلى أن أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا ، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء
1 ـ التبيين : 38 ـ 41.

(24)
    من الشك والتردد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.
    وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات ، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.
    3. إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً ، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال : معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة ، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق; فاستهديت الله تبارك و تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا; وانخلع من ثوب كان عليه ، و رمى به. ودفع الكتب إلى الناس ، فمنها كتاب « اللمع » وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه ب ـ « كشف الأسرار وهتك الأسرار » وغيرهما ، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث و الفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها ، واعتقدوا تقدّمه ، واتّخذوه إماماً حتى نسب إليه مذهبهم. (1)
    ولا يصحّ هذا النقل من وجوه :
    أمّا أوّلاً : فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل ، وهو في غاية البعد.
    وأمّا ثانياً : فلأن الناظر في كتابيه : ـ الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد ، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة ، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث ، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه. وسيوافيك الكلام في ذلك عند عرض مذهب الأشعري من خلال كتبه.
    وأمّا ثالثاً : فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج
1 ـ التبيين : 39 ـ 40.

(25)
    موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة ، وبما أنّه من مواليد عام ( 260 هـ ) ، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة ( 315 هـ ).
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي ، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام ( 303هـ ) ، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل؟!
    الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال
    إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره ، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه ، فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم ، وناظر وغَلب أو غُلب ، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم ، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل و بقاؤه على مسائل أُخر ، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه ، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة ، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.
    ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.
    فنقول : أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزل من جانب السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه ، وإليك بيانه :

1. الضغط العباسي على المعتزلة
    إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم ، إلى الواثق باللهـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر ، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده ، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث ، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه ، فالمستعين بالله ، فالمعتز بالله ،


(26)
    فالمهتدي ، فالمعتمد ، فالمعتضد ، فالمكتفي ، فالمقتدر ، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295 هـ إلى 320 هـ و في تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل ، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً ، وفي تلك الفترة ، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث ، الذين كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.
    لا أقول : إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال ، بل أقول : قد أوجدت تلك الفكرة ، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث ، والثورة على المعتزلة ، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.

2. فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث
    وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة ، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال عن الاعتزال كلياً.
    توضيحه : إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر ، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصاري ، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان ، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث ، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه ، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل ، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزييهها عمّا لا يناسب ساحة الرب ، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال ، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم ، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.


(27)
    وفي هذا المورد يقول بعض المحقّقين : إنّ الخرافات السائدة بين أهل الحديث أوجبت سقوط عقائدهم عن مقامها في نفوس الناس ، بعد ما كانت قد طبقت العالم الإسلامي ، وانتشرت في أرجاء البلاد ، ولما قام الإمام الأشعري بالإصلاح ، بإحلال التنزيه ، مكان التجسيم ، حلت محلها عقيدة الأشعرية بعد هدوء الجو ، وبسرعة تتناسب معتغيير العقائد في العادة.
    والعقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدلة ، وقد تصرفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُم ، وهي الحنبلية. (1)
    وقد توفّق الرجل في عملية الإصلاح في بعض المجالات ، غير أنّه أبقى مسائل أُخرى على حالها ، فممّا توفق فيه مثلاً هو : القول بكون القرآن قديماً ، أو الاعتقاد بالجبر والقدر ، بحيث يكون الإنسان مسبّراً لا مخيّراً ، أو إثبات الصفات الخبرية لمعانيها الحقيقية على الله تعالى ، كاليد والرجل والعين وسائر الأعضاء التي كانت الحنابلة وأهل الحديث يثبتونها بوضوح ، وكان سبباً لسقوط هذه العقائد في نفوس العقلاء والمفكّرين ، فجاء الإمام الأشعري بإصلاح وتغيير في هذه الأفكار المشوهة ، فجعل القديم من القرآن ، هو الكلام النفسي القائم بالله تبارك و تعالى ، لا القرآن الملفوظ والمكتوب والمسموع ، كما أنّه فسّر مسألة الجبر والقدر بأنّ الله سبحانه هو الخالق للأفعال خيرها وشرها ، ولكن العبد كاسب لها ، فللعبد دور في أفعاله باسم الكسب كما يأتي ، ومع ذلك فقد أبقى رؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الأبصار الظاهرة على حالها ، ولم يفسرها بشيء.
    يقول الشيخ الكوثري في تقديمه على كتاب التبيين ، عن عصر المتوكل : ففي ذلك الزمان ارتفع شأن الحشوية والنواصب ، وقمع أهل النظر والمعتزلة ، والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء ، ويتقولون في الله مالا يجوّزه الشرع ولا العقل ، من إثبات الحركة له ، والنقلة ، والحد ، والجهة ، والقعود والاقعاء والاستلقاء والاستقرار ، إلى نحوها ممّا تلقّوه بالقبول
1 ـ بحوث مع أهل السنة : 157.

(28)
    من دجاجلة الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب ، ومما ورثوه من أُمم قد خلت ويؤلّفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة بالآخرين ، متذرعين بالسنّة ومعزين إلى السلف ، يستغلون ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجّة فيها ، وكانت المعتزلة تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء ، و يسعون في استعادة سلطانهم على الأُمّة ، وأصناف الملاحدة والقرامطة الذين توغلوا في الفساد ، واحتلوا البلاد ، ففي مثل هذه الظروف قام الإمام أبو الحسن الأشعري لنصرة السنّة وقمع البدعة ، فسعى أوّلاً للإصلاح بين الفريقين من الأُمّة بإرجاعهما عن تطرّفهما إلى العدل ، قائلاً للأوّلين : أنتم على الحقّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن ، اللفظ والتلاوة والرسم ، وللآخرين : أنتم مصيبون إذا كان مقصودكم بالقديم ، الصفة القائمة بذات الباري غير البائنة منه ، وأسماه بالكلام النفسي.
    وقام بمثل هذا الجمع في مسألة الرؤية فقال للأوّلين : نفي المحاذاة والصورة صواب ، غير أنّه يجب عليكم الاعتراف بالتجلّي من غير كيف. وقال لأصحاب الحديث : إيّاكم من إثبات الصورة والمحاذاة ، وكلّ ما يفيد الحدوث ، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف. (1)
    أقول : إنّ هذا الإصلاح لو صحّ فإنّما هو بفضل ما تمرن عليه بين أصحاب التفكير والتعقّل ، وعرف منهم التنزيه والتشبيه. ولولاه لما كان له هذا التوفيق البارز ، وسيوافيك أنّه وإن نجح في هذا الأمر ، لكنّه نجاح نسبي لا نجاح على الإطلاق. فإنّ المذهب الأشعري عند التحليل يتفق مع أحد المنهجين ، وإن كان يتظاهر بأنّه على مذهب المحدثين ، ولكنّه تارة يوافقهم ، وأُخرى يخالفهم ويوافق المعتزلة في اللب والمعنى ، وإن كان يخالفهم في القشر واللفظ كما سيظهر.
1 ـ مقدّمة التبيين : 14 ـ 15.

(29)
كلام لأبي زهرة
    إنّه تصدى للرد على المعتزلة ومهاجمتهم ، فلابدّ أن يلحن بمثل حجتهم ، وأن يتّبع طريقتهم في الاستدلال ، ليفلح عليهم ، ويقطع سباتهم ، ويفحمهم بما بين أيديهم ، ويرد حججهم عليهم.
    إنّه تصدى للرد على الفلاسفة ، والقرامطة ، والباطنية ، والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة ، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلاّ أقيسة البرهان ، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلاّ دليل العقل ، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.
    ولقد نال الأشعري منزلة عظيمة ، وصار له أنصار كثيرون ، ولقي من الحكام تأييداً ونصراً ، فتعقّب خصومه من المعتزلة والكفّار ، وأهل الأهواء في كلّ مكان ، وبث أنصاره في الأقاليم والجهات ، يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها ، ولقّبه أكثر العلماء بإمام أهل السنّة أو الجماعة.
    ولكن مع ذلك بقي له من علماء الدين مخالفون منابذون ، فابن حزم يعدّه من الجبرية ، لرأيه في أفعال الإنسان (1) ، ويعده من المرجئة لرأيه في مرتكب الكبيرة (2) ، وقد تعقّبه في غير هاتين المسألتين ، ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه في لجة التاريخ الإسلامي ، واشتد ساعد أنصاره جيلاً بعد جيل ، وقويت كلمتهم وقد حذوا حذوه ، وسلكوا مسلكه ، وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدي من محاربة المعتزلة والملحدين ، ومنازلة لهم في كلّ ميدان من ميادين القول ، و كلّ باب من أبواب الإيمان ، ومذاهب اليقين.
    ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً أبو بكر الباقلاني (3) ، فقد كان عالماً كبيراً ، هذّب بحوث الأشعري ، وتكلّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد ، فتكلم في الجوهر والعرض ، وأنّ العرض لايقوم بالعرض ، وأنّ
1 ـ الفصل في الملل والنحل : 3/22.
2 ـ الفصل في الملل والنحل : 4/204.
3 ـ مات الباقلاني سنة 403 هـ .


(30)
    العرض لا يبقى زمانين ، إلى آخر ما هنالك ، ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه من نتائج ، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك النتائج; فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة ، فإنّ المقدمات العقلية لم تذكر في كتاب أو سنّة ، وميادين العقل متسعة ، وأبوابه مفتحة ، وطرائقه مسلوكة ، وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل إليها الأشعري ، وليس من شر في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج ، وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية. (1)
    وما أُطري به الشيخ الأشعري ، على طرف النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه « الإبانة » ، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.
    والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم الحشوية خدمة جليلة ، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها ، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه على الزوال والفناء; فالناظر في كتاب « الإبانة » يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد الحشوية بالنصوص والروايات ، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.
    والله سبحانه هو الواقف على سرائره ، وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية ، وما يذكرون له من المبررات والأعذار لا محصل وراءها.
    وأمّا كتابه « اللمع » وهو وإن كان لم ينسجه على غرار كتاب الإبانة ، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال ، ولكنّه استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية ، ونسف الاتجاه العقلي; غفر الله له ولنا.
    مع ذلك ، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد من التعديل ، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري ، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر المروزي ، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه على العرش.
1 ـ ابن تيمية عصره وحياته : 192 ـ 193.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس