على عقبه ، قال :
وكانت نفقته في كلّ سنة سبعة عشر درهماً. (1) وهذا من غرائب الأُمور ، إذ مع أنّه لا
يكفي لنفقة إنسان طول السنة مهما بلغت قيمة العملة الفضية ، كما هو معلوم لمن
تتبع قيمة الدرهم والدينار في العصور الإسلامية ، إنّ الشيخ قام بتأليف كتب
يناهز عددها المائة ، وبعضها يقع في مجلدات ضخمة ، وقد ذكر المقريزي
أنّ تفسيره يقع في سبعين مجلداً. (2) وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها
ويراعها ، والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة ،
وأخذ بالمحاسبة الدقيقة ، وخرج بهذه النتيجة : أنّ الأشعري كان ينفق في السنة 17
درهماً ، والدرهم ( 95/2 ) غراماً من الفضة فكان مقدار ما ينفقه في العام هو ما
يساوي ( 15/50 ) غراماً من الفضة ، ثمّ قال : فما كان أرخص الحياة في تلك
الأيام. (3) ولأجل ما في هذا النقل من الغرابة ، نقله
ابن خلّكان بصورة أُخرى ، وهي أنّ نفقته كلّ يوم كانت (17)
درهماً. (4) ولكن الحقّ ما ذكره ابن كثير في البداية
والنهاية ، من أن مُغَلَّه كان في كلّ سنة (17) ألف درهم (5). فسقط
الألف من نسخ القوم ، وبذلك تجلّى الأشعري بصورة أنّه كان زاهداً متجافياً عن
الدنيا.
رجوعه عن الاعتزال اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من
الاعتزال في جامع البصرة ،
1 ـ التبيين : 142.
2 ـ الخطط المقريزية : 2/359.
3 ـ مذاهب الإسلاميين : 503 ـ 504.
4 ـ وفيات الأعيان : 3/382.
5 ـ البداية والنهاية : 11/187 حوادث عام 224 هـ .
(22)
وأقدم مصدر يذكر
ذلك هو ابن النديم في ( فهرسته ) حيث يقول : أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة ، كان
معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، في المسجد الجامع بالبصرة ، في
يوم الجمعة رقي كرسياً ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني
فأنا أعرّفه نفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت قلت بخلق القرآن ، وإنّ الله لا يرى
بالأبصار ، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على
المعتزلة ، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير
. (1) وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج
الاعتزال كثيرمن علماء التراجم ، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت
الشيخ إلى هذا الانسلاخ ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في
المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته ، ولأجل ذلك يجب التوقف
هنا إجمالاً ، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن
الاعتزال.
سبب رجوعه عن الاعتزال إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية
تطلب لنفسها علة وسبباً ، ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته ، وما
كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.
إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم ، أو قلم
العاطفة ، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة ،
فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أبا الحسن أن ينصر سنّته ، ويرجع عمّا كان فيه.
غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في « تبيينه » في ذلك
المجال ، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه :
1. نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم
قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال
فبلغ غايته ،
1 ـ فهرست ابن النديم : 271 ووفيات الأعيان : 3/285.
(23)
كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً ، فيتحير في ذلك ، فحكي أنّه قال :
وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت
فيه من العقائد ، فقمت وصليت ركعتين ، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق
المستقيم ، ونمت فرأيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : عليك
بسنّتي ، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته ،
ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.
2. نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال : بينا
أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان ، رأيت المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم ، ولم أزل مفكراً
مهموماً لرؤياي ، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك ، حتى كان العشر
الأوسط فرأيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في المنام فقال لي : ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت : يا رسول الله ، وما عسى
أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام ، واتّبعت الأدلة
الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي : أنصر المذاهب المروية
عني فإنّها الحقّ ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن ، فأجمعت على ترك الكلام
واتبعت الحديث وتلاوة القرآن; إلى آخر ما ذكره من الرؤيا. (1) وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه
المنامات ، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة ، يلجأون
إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام ، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.
أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين ،
فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام و تزايده إلى أن
أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا ، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان
فجائياً غير مسبوق بشيء
1 ـ التبيين : 38 ـ 41.
(24)
من الشك والتردد
في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.
وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات ،
لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.
3. إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة
أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً ، ثمّ خرج
إلى الجامع وصعد المنبر وقال : معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة ،
لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق;
فاستهديت الله تبارك و تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت
من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا; وانخلع من ثوب كان عليه ، و رمى
به. ودفع الكتب إلى الناس ، فمنها كتاب « اللمع » وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة
وسمّاه ب ـ « كشف الأسرار وهتك الأسرار » وغيرهما ، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث
و الفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها ، واعتقدوا تقدّمه ، واتّخذوه
إماماً حتى نسب إليه مذهبهم. (1) ولا يصحّ هذا النقل من وجوه :
أمّا أوّلاً : فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه
قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل ، وهو في غاية البعد.
وأمّا ثانياً : فلأن الناظر في كتابيه : ـ
الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد ، فالأوّل منهما هو
الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب
عقائد إمام الحنابلة ، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه
كتب أهل الحديث ، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه. وسيوافيك الكلام في ذلك عند عرض
مذهب الأشعري من خلال كتبه.
وأمّا ثالثاً : فكيف يمكن أن يقال إنّه
أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم
أن يكون عام الخروج
1 ـ التبيين : 39 ـ 40.
(25)
موافقاً لكونه
ابن خمس وخمسين سنة ، وبما أنّه من مواليد عام ( 260 هـ ) ، فيجب أن يكون عام
الإنابة موافقاً لسنة ( 315 هـ ).
هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من
منهج الأُستاذ وهو حي ، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام ( 303هـ ) ، وعندئذ كيف يمكن
تصديق ذلك النقل؟!
الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال
إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب
الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره ، وعند ذاك تكون
عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه ، فمن المشكل جداً أن ينخلع
الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم ، وناظر وغَلب أو غُلب ، وينخرط في مسلك
يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم ، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض
المسائل و بقاؤه على مسائل أُخر ، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه
وبرع فيه ، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة ، فلا يمكن أن يكون
أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.
ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي
في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.
فنقول : أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه
هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزل من جانب
السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه ، وإليك
بيانه :
1. الضغط العباسي على المعتزلة إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون
إلى المعتصم ، إلى الواثق باللهـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر ، فكان
للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232هـ وأخذ
المتوكل بزمام السلطة بيده ، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث ، ولم تزل
السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه ، فالمستعين بالله ،
فالمعتز بالله ،
(26)
فالمهتدي ،
فالمعتمد ، فالمعتضد ، فالمكتفي ، فالمقتدر ، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام
295 هـ إلى 320 هـ و في تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن
الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل
إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل ، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا
يتناقصان أبداً ، وفي تلك الفترة ، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من
الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث ، الذين
كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.
لا أقول : إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت
العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال ، بل أقول : قد أوجدت تلك الفكرة ، أرضية
صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث ، والثورة على المعتزلة ، فإنّ تأثير البيئة
وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.
2. فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في
تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة ، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل
الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال
عن الاعتزال كلياً.
توضيحه : إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث
كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر ، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن
اليهود والنصاري ، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان ، فعندما
رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث ، وأنّه يعتقد بما
يعتقد به أصحابه ، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل ، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل
الحديث وتنزييهها عمّا لا يناسب ساحة الرب ، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن
مذهب الاعتزال ، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم
وأعوانهم ، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.
(27)
وفي هذا المورد
يقول بعض المحقّقين : إنّ الخرافات السائدة بين أهل الحديث أوجبت سقوط عقائدهم
عن مقامها في نفوس الناس ، بعد ما كانت قد طبقت العالم الإسلامي ، وانتشرت في
أرجاء البلاد ، ولما قام الإمام الأشعري بالإصلاح ، بإحلال التنزيه ، مكان
التجسيم ، حلت محلها عقيدة الأشعرية بعد هدوء الجو ، وبسرعة تتناسب معتغيير
العقائد في العادة.
والعقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية
معدلة ، وقد تصرفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُم ، وهي
الحنبلية. (1) وقد توفّق الرجل في عملية الإصلاح في بعض
المجالات ، غير أنّه أبقى مسائل أُخرى على حالها ، فممّا توفق فيه مثلاً هو :
القول بكون القرآن قديماً ، أو الاعتقاد بالجبر والقدر ، بحيث يكون الإنسان
مسبّراً لا مخيّراً ، أو إثبات الصفات الخبرية لمعانيها الحقيقية على الله
تعالى ، كاليد والرجل والعين وسائر الأعضاء التي كانت الحنابلة وأهل الحديث
يثبتونها بوضوح ، وكان سبباً لسقوط هذه العقائد في نفوس العقلاء والمفكّرين ،
فجاء الإمام الأشعري بإصلاح وتغيير في هذه الأفكار المشوهة ، فجعل القديم من
القرآن ، هو الكلام النفسي القائم بالله تبارك و تعالى ، لا القرآن الملفوظ
والمكتوب والمسموع ، كما أنّه فسّر مسألة الجبر والقدر بأنّ الله سبحانه هو
الخالق للأفعال خيرها وشرها ، ولكن العبد كاسب لها ، فللعبد دور في أفعاله باسم
الكسب كما يأتي ، ومع ذلك فقد أبقى رؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الأبصار
الظاهرة على حالها ، ولم يفسرها بشيء.
يقول الشيخ الكوثري في تقديمه على كتاب
التبيين ، عن عصر المتوكل : ففي ذلك الزمان ارتفع شأن الحشوية والنواصب ، وقمع أهل
النظر والمعتزلة ، والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع
والغوغاء ، ويتقولون في الله مالا يجوّزه الشرع ولا العقل ، من إثبات الحركة له ،
والنقلة ، والحد ، والجهة ، والقعود والاقعاء والاستلقاء والاستقرار ، إلى نحوها
ممّا تلقّوه بالقبول
1 ـ بحوث مع أهل السنة : 157.
(28)
من دجاجلة
الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب ، ومما ورثوه من أُمم قد خلت ويؤلّفون في ذلك
كتباً يملأونها بالوقيعة بالآخرين ، متذرعين بالسنّة ومعزين إلى السلف ، يستغلون
ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجّة فيها ، وكانت المعتزلة
تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء ، و يسعون في استعادة سلطانهم على الأُمّة ،
وأصناف الملاحدة والقرامطة الذين توغلوا في الفساد ، واحتلوا البلاد ، ففي مثل
هذه الظروف قام الإمام أبو الحسن الأشعري لنصرة السنّة وقمع البدعة ، فسعى
أوّلاً للإصلاح بين الفريقين من الأُمّة بإرجاعهما عن تطرّفهما إلى العدل ،
قائلاً للأوّلين : أنتم على الحقّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن ، اللفظ والتلاوة
والرسم ، وللآخرين : أنتم مصيبون إذا كان مقصودكم بالقديم ، الصفة القائمة بذات
الباري غير البائنة منه ، وأسماه بالكلام النفسي.
وقام بمثل هذا الجمع في مسألة الرؤية
فقال للأوّلين : نفي المحاذاة والصورة صواب ، غير أنّه يجب عليكم الاعتراف
بالتجلّي من غير كيف. وقال لأصحاب الحديث : إيّاكم من إثبات الصورة والمحاذاة ،
وكلّ ما يفيد الحدوث ، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في
الآخرة من غير كيف. (1) أقول : إنّ هذا الإصلاح لو صحّ فإنّما هو
بفضل ما تمرن عليه بين أصحاب التفكير والتعقّل ، وعرف منهم التنزيه والتشبيه.
ولولاه لما كان له هذا التوفيق البارز ، وسيوافيك أنّه وإن نجح في هذا الأمر ،
لكنّه نجاح نسبي لا نجاح على الإطلاق. فإنّ المذهب الأشعري عند التحليل يتفق مع
أحد المنهجين ، وإن كان يتظاهر بأنّه على مذهب المحدثين ، ولكنّه تارة يوافقهم ،
وأُخرى يخالفهم ويوافق المعتزلة في اللب والمعنى ، وإن كان يخالفهم في القشر
واللفظ كما سيظهر.
1 ـ مقدّمة التبيين : 14 ـ 15.
(29)
كلام لأبي زهرة إنّه تصدى للرد على المعتزلة ومهاجمتهم ، فلابدّ أن
يلحن بمثل حجتهم ، وأن يتّبع طريقتهم في الاستدلال ، ليفلح عليهم ، ويقطع سباتهم ،
ويفحمهم بما بين أيديهم ، ويرد حججهم عليهم.
إنّه تصدى للرد على الفلاسفة ،
والقرامطة ، والباطنية ، والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل
الباطلة ، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلاّ أقيسة البرهان ، ومنهم فلاسفة علماء لا
يقطعهم إلاّ دليل العقل ، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.
ولقد نال الأشعري منزلة عظيمة ، وصار له
أنصار كثيرون ، ولقي من الحكام تأييداً ونصراً ، فتعقّب خصومه من المعتزلة
والكفّار ، وأهل الأهواء في كلّ مكان ، وبث أنصاره في الأقاليم والجهات ، يحاربون
خصوم الجماعة ومخالفيها ، ولقّبه أكثر العلماء بإمام أهل السنّة أو
الجماعة.
ولكن مع ذلك بقي له من علماء الدين
مخالفون منابذون ، فابن حزم يعدّه من الجبرية ، لرأيه في أفعال
الإنسان (1) ، ويعده من المرجئة لرأيه في مرتكب
الكبيرة (2) ، وقد تعقّبه في غير هاتين المسألتين ، ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه في
لجة التاريخ الإسلامي ، واشتد ساعد أنصاره جيلاً بعد جيل ، وقويت كلمتهم وقد حذوا
حذوه ، وسلكوا مسلكه ، وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدي من محاربة المعتزلة
والملحدين ، ومنازلة لهم في كلّ ميدان من ميادين القول ، و كلّ باب من أبواب
الإيمان ، ومذاهب اليقين.
ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً
أبو بكر الباقلاني (3) ، فقد كان عالماً كبيراً ، هذّب بحوث الأشعري ، وتكلّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد ، فتكلم في الجوهر والعرض ، وأنّ العرض لايقوم بالعرض ، وأنّ
1 ـ الفصل في الملل والنحل : 3/22.
2 ـ الفصل في الملل والنحل : 4/204.
3 ـ مات الباقلاني سنة 403 هـ .
(30)
العرض لا يبقى
زمانين ، إلى آخر ما هنالك ، ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه
من نتائج ، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك
النتائج; فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة ، فإنّ المقدمات العقلية لم
تذكر في كتاب أو سنّة ، وميادين العقل متسعة ، وأبوابه مفتحة ، وطرائقه مسلوكة ،
وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل
إليها الأشعري ، وليس من شر في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من
نتائج ، وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية. (1) وما أُطري به الشيخ الأشعري ، على طرف
النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه « الإبانة » ، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية
بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.
والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم الحشوية
خدمة جليلة ، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها ، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه
على الزوال والفناء; فالناظر في كتاب « الإبانة » يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد
الحشوية بالنصوص والروايات ، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.
والله سبحانه هو الواقف على سرائره ،
وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية ، وما يذكرون له من
المبررات والأعذار لا محصل وراءها.
وأمّا كتابه « اللمع » وهو وإن كان لم
ينسجه على غرار كتاب الإبانة ، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال ، ولكنّه
استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية ، ونسف الاتجاه العقلي; غفر
الله له ولنا.
مع ذلك ، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد
من التعديل ، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري ، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر
المروزي ، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه
على العرش.
1 ـ ابن تيمية عصره وحياته : 192 ـ 193.