الملل والنحل جلد الثاني ::: 41 ـ 50
(41)
    رسمياً للسنّة في جميع الأقطار ، وقلّ من يتخلّف عنه ، وهو مستمر إلى العصر الحاضر.
    يقول تقي الدين أبو العباس المقريزي ( المتوفى عام 845هـ ) بعد سرد عقائده إجمالاً : فهذه جملة في أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أُريق دمه. (1)
    ولأجل هذه الشهرة نرى أصحاب المذاهب يتجاذبونه إلى مذاهبهم. فالشافعية تقول : إنّه كان شافعياً ، والمالكية تقول : إنّه كان مالكياً. وبما أنّه نشأ في العراق فالظاهر أنّه نشأ على مذهب أبي حنيفة ، وإنّما هو رجع عن الاعتزال الذي هو مذهب كلامي ، ولم يرجع عن مذهب فقهي. ولكن الظاهر من مقدمة كتابهـ الإبانة ـ أنّه كان على مذهب إمام الحنابلة. وقال الكوثري : إنّ الغاية من هذه المظاهرة هو النفوذ في الحشوية ليتدرج بهم إلى معتقد أهل السنّة.
    وعلى كلّ تقدير فلم يعلم مذهبه الفقهي على وجه التحقيق.
    هذا والخدمة التي قام بها الأشعري في مقابلة المجسّمة والمشبّهة وأصحاب البدع واليهودية والمسيحيّة خدمة نسبية لا تنكر ، غير أنّ الذي يؤسف المسلم الغيور هو : أن نرى متزمتة الوهابية وبعض رجال الإصلاح في هذا العصر داعين إلى مذهب الحشوية باسم السلفية مقلّدين في كلّ ما يذكره شيخهم ابن تيمية الذي يقول عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم (2)
    وتلميذه المعروف بابن القيم الذي يفسر المقام المحمود في قوله تعالى : عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُودا (3) بإقعاد الرسول على العرش. (4)
1 ـ الخطط المقريزية : 2/360 ، ط مصر.
2 ـ لاحظ تعليقة التبيين : 393.
3 ـ الإسراء : 79.
4 ـ بدائع الفوائد : 4/39.


(42)
4. مؤلّفاته
    وقد فهرس الشيخ نفسه كتبه في كتاب سمّاه « العمدة » كما فهرس غيره. فقد أخرج ابن عساكر أسماء كتبه التي صنّفها إلى سنّة ( 320هـ ) ، وبلغت أسماء كتبه إلى ثمانية وتسعين كتاباً ، غير أنّ أكثر هذه الكتب عصفت بها عواصف الدهر فأهلكتها ، فلم يصل إلينا منها إلاّ القليل. ولعلّ في مكتبات العالم المعمورة بالمخطوطات الشرقية ، بعضاً منها. وإليك دراسة الكتب الموجودة المطبوعة :
    1. « الإبانة عن أُصول الديانة » : طبع كراراً ، والطبعة الأخيرة طبعة مكتبة دار البيان بدمشق عام 1401هـ ، وعبر عنه ابن النديم في فهرسته ب ـ « التبيين عن أُصول الدين ». (1)
    يقول ابن عساكر : إنّ الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره في كتاب « الإبانة » وهجروه ، ويضيف أيضاً : إنّ الشيخ إسماعيل الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلاّ وبِيَده كتاب الإبانة. (2)
    وقد نقل ابن عساكر الفصلين الأوّلين من الكتاب في « التبيين ». وما جاء في مقدّمتها فقد أورده في « مقالات الإسلاميين » عند البحث عن عقائد أهل الحديث باختلاف يسير ، وما جاء به الأشعري في ذينك الكتابين يوافق ما ذكره إمام الحنابلة في عقائد أهل الحديث في كتابه « السنّة » غير أنّ تعبيرات الأشعري إلى التنزيه أقرب من كتاب « السنّة » ، وكلمات « الإمام » إلى التجسيم أميل.
    مثلاً : يقول إمام الحنابلة : والله تعالى سميع لا يشك ، بصير لا يرتاب ، عليم لا يجهل ، يقظان لا يسهو ، قريب لا يغفل ، يتكلّم ويسمع وينظر ويبصر ، ويضحك ويفرح ، ويحب ويكره ويبغض ، ويرضى ويغضب ، ويسخط ويرحم ، ويعطي ويمنع ، وينزل تبارك و تعالى كلّ ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاءلَيْسَ كمثله شيء و هو السميع البصير و قلوب العباد بين أصبعين
1 ـ هرست ابن النديم : 271.
2 ـ التبيين : 589.


(43)
    من أصابع الرب عزّوجلّ ، يقلّبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق الله عزّ وجلّ آدم بيده ، السماوات والأرض يوم القيامة في كفه ، ويخرج قوماً من النار بيده ، وينظر أهل الجنّة إلى وجهه ، ويرونه فيكرمهم ، ويتجلّى لهم فيعطيهم ، ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين ، ويتولّى حسابهم بنفسه لا يولي ذلك غيره عزّ وجلّ.
    والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق ، فهو جهمي كافر; ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل; ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)
    2. « مقالات الإسلاميين » ، والكتاب يتناول البحث عن الفرق الإسلامية ، وطبع في جزءين في مجلد واحد عام 1369هـ بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
    3.« اللمع في الرد على أهل الزيغ و البدع » طبع غير مرة ، وهذا خاصة أنضج كتبه ، تجد مستواه فوق كتاب « الإبانة » ، وهو خير مصور لعرض آرائه ونظرياته الكلامية ، ولأجل ذلك نعرض آراءه ونظرياته على ضوء هذا الكتاب.

المقارنة بين الكتابين : «الإبانة» و «اللمع»
     إنّ الناظر في أحوال الشيخ أبي الحسن الأشعري يظن بادئ ذي بدء ، أنّه ألّف كلاًّ من الكتابين لنصرة السنّة ، والدفاع عن عقيدة أهل الحديث التي كانت تتمثل يوم ذاك ـ يوم أعلن انفصاله عن المعتزلة وانخراطه في سلك أهل السنّة والحديث ـ في الآراء والعقائد الموروثة عن إمام الحنابلة ، ولكنّه إذا قام بعمل المقايسة والمقارنة بين الكتابين سرعان ما يعدل عن تلك العقيدة ، ويخرج
1 ـ كتاب السنة لإمام الحنابلة : 49.

(44)
    من البحث بنتيجة تتباعد عنها بكثير ، ويقضي بأنّ « الإبانة » أُلِّفت لنصرة عقيدة أهل الحديث وكسر صولة المعتزلة دون « اللمع » ، لأنّه في الثاني أعمق تفكيراً ، وأشد عناية بالأدلّة العقلية ، ولا يظهر منه أية عناية بابن حنبل ومنهجه العقائدي ، بل يظهر له جلياً أنّ الشيخ في الكتاب الأخير بصدد طرح أُصول يعتقد بها هو ، سواء أكانت موافقة لعقائد الحنابلة أم لا ، وسواء أكان لهم فيها نفي أم لا ، وسواء أوصلت إليها فكرتهم أم لا.
    وهذه النتيجة تنعكس على ذهنية القارئ عن طريق طرح الأُصول الموجودة في الكتابين وإليك بيانها إجمالاً :
    1. إنّ الشيخ في « الإبانة » : بعد ما طرح في الباب الأوّل عقيدة أهل الزيغ ـ و هم حسب عقيدته عبارة عن المعتزلة والقدرية والجهمية والمرجئة والحرورية والرافضة ـ طرح في الباب الثاني قول أهل الحقّ والسنّة بادئاً كلامه بقوله :
    قولنا الذي نقول به ، وديانتنا التي ندين بها : التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ ، وبسنّة نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضّر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبتهـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون. لأنّه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، فقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظّم ، وكبير مفخّم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين.
    ترى أنّه يجعل عقيدة إمام الحنابلة عدلاً لما روي عن الصحابة والتابعين ، ويعرفه كإمام متمسّك بالحق ومعتصم به ، على وجه يبلغ به مقام العصمة في القول والرأي ، ولكنّه في « اللمع » لا يتحدث عنه أبداً ، ولا يذكر عنه شيئاً ، بل يتفرد بطرح المسائل على ما يتبّناه هو ، وإقامة الدلائل العقلية عليها.
    2. إنّ الأشعري لا يتحدّث في كتاب « الإبانة » عن تنزيه الحقّ جلّ


(45)
    وعلا عن الجسم والجسمانية بحماس وأسلوب صريح ، بل يحاول إثبات الصفات الخبرية ، كالوجه واليدين له سبحانه ، كما يحاول إثبات استوائه على عرشه تعالى و يقول : « وإنّ الله استوى على عرشه » كما قال : الرَّحْمنُ على الْعَرْشِ اسْتَوى (1) ، وإنّ له وجهاً بلا كيفكما قال : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّك ذُو الجَلالِ والإِكْرامِ (2) ، و إنّ له يدين بلا كيف كما قال : خَلَقْتُ بِيَدي (3) ، و كما قال : بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ (4) وإنّ له عيناً بلا كيف كما قال : تَجري بِأَعْيُننا . (5). (6)
    ترى أنّه اكتفى في التنزيه بلفظ مجمل و هو قوله : « بلا كيف » مع أنّ اللفظ المجمل لا يفيد الناظر شيئاً ولا يصونه من أن يقع في ورطة التشبيه والتجسيم. ولكنّه في « اللمع » لم يتعرض للوجه واليدين والاستواء على العرش ، بل أهمل ذلك إهمالاً تاماً ، وزاد على ذلك التصريح القاطع بتنزيه الله عن الجسمية ، وعلوِّه أن يكون مشابهاً للحوادث.
    3. ترى بوادر التجسيم في « الإبانة » بوضوح ، ونأتي بنماذج من ذلك :
    أ. ما ذكره تأييداً لقوله : إنّ الله عزّوجلّ مستو على عرشه ، أنّه روى نافع بن جبير عن أبيه : ينزل الله عزّوجلّ كلّ ليلة إلى سماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له ، حتى يطلع الفجر. (7)
    ب. إنّه يصر على البينونة التامة بين الخالق والمخلوق ، ويقول : إنّه ليس في خلقه ، ولا خلقُهُ فيه ، وإنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استقرار. (8)
1 ـ طه : 5.
2 ـ الرحمن : 27.
3 ـ ص : 75.
4 ـ المائدة : 64.
5 ـ القمر : 14.
6 ـ الإبانة : 18 الأُصول برقم 6 ، 7 ، 8 ، 9.
7 ـ الإبانة : 88; أخرجه أحمد في المسند : 4/81 من حديث جبير.
8 ـ الإبانة : 922.


(46)
    ومع ذلك لم يتفطن لظاهر قوله سبحانه : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (1) وقوله : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إِلاّهُوَ رابِعُهُمْ (2) والآيتان تنافيان البينونة الكاملة التي يدّعيها الأشعري.
    ج. ويستدلّ على أنّ الله في السماء بما روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه سأل جارية فقال لها : أين الله؟ قالت : في السماء. فقال : فمن أنا؟ قالت : أنت رسول الله. فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) للرجل الذي كان بصدد عتقها : أعتقها فإنّها مؤمنة. (3)
    د. ويقول : إنّه سبحانه يضع السماوات على اصبع ، والأرضين على إصبع ، كما جاءت الرواية عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من غير تكييف (4) ويكتفي في نفي التجسيم بكلمة مجملة ، أعني قوله : « من غير تكييف ».
    4. إنّ الشيخ في « الإبانة » يصرّح بأنّه لا خالق إلاّ الله ، وأنّ أعمال العبيد مخلوقة لله مقدورة ، كما قال : وَاللّهُ خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (5) ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون. (6)
    ومن المعلوم أنّ القول بأنّ فعل العبد مخلوق لله لا ينفك عن الجبر وسلب الاختيار عن الفاعل ، لأنّ الفعل إذا كان مخلوقاً له سبحانه ، وكان هو الموجد والمحقّق ، فما معنى كون العبد مسؤولاً عن فعله ـ خيره و شره ـ ؟
    ولمّا كان أهل الحديث معتقدين بهذا ( مع كونه نفس الجبر ) أبقاه بحاله ، ولم يشر في كتاب « الإبانة » إلى شيء يعالج تلك المسألة العويصة.
1 ـ الحديد : 4.
2 ـ المجادلة : 7.
3 ـ الإبانة : 93 والحديث أخرجه مسلم باب تحريم الكلام في الصلاة : 2/71 ، ط مصر.
4 ـ الإبانة : 22 أخرجه البخاري : 9/123 في تفسير قوله : لماخلقت بيدي .
5 ـ الصافات : 96.
6 ـ الإبانة : 20 الأصل 17.


(47)
    وهذا بخلاف ما في « اللمع » فإنّه أضاف فيه إلى خالقيّة الرب ، كاسبيّة العبد وقال : « إن الله هو الخالق ، و العبد هو الكاسب » و بذلك عالج مشكلة الجبر وخرج من مغبته ، وصحّح مسؤولية العبد لأجل الكسب.
    هذه مميزات كتاب « الإبانة » و خصوصياته ، و ماجاء فيه من الأُصول ، وجميعها يؤيد أنّه قد أُلّف لغاية نصرة مذهب أحمد بن حنبل ، والذي كان يمثل نظرية أهل الحديث والمحدّثين جميعاً.
    وأمّا « اللمع » فقد طرح فيه مسائل ، أهملها في « الإبانة » نشير إلى بعضها : 1. مسألة التعديل والتجويز
    إنّ لتلك المسألة دوراً عظيماً في تمييز المنهج الأشعري عن المعتزلي ، ولبّ المسألة يرجع إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين وإنكارهما ، فالمعتزلة على الأوّل والأشعري وأشياعه على الثاني ، و ـ لأجل ذلك ـ أنكروا توصيفه سبحانه بالعدل بالمفهوم المحدد عند العقل ، بل قالوا إنّ كلّ ما يفعله فهو عدل سواء أكان عند العقل عدلاً أم جوراً ، وقد ركّز على ذلك الأشعري في « اللمع » حتى قال : يصحّ لله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة. وهو عادل إن فعله. وكذلك كلّ ما يفعله حتى تعذيب المؤمنين وإدخال الكافرين الجنان ، وإنّما نقول لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (1)
    ولكنّه لم يُعلَم إلى الآن أنّ الشيخ من أين علم أنّه لا يجوز عليه تعالى الكذب؟ فإن علم ذلك من إخباره سبحانه بأنّه لا يكذب ، فننقل الكلام إلى إخباره هذا ، فمن أين نعلم أنّه سبحانه لا يكذب في إخباره هذا ( إنّه لا يكذب ) فإنّه كما يحتمل الكذب في سائر إخباره ، يحتمل حتى في نفس هذا الإخبار; وإن علم من حكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والقبيح لا يجوز
1 ـ اللمع : 116.

(48)
    عليه ، فهو عين الاعتراف بالتقبيح العقلي ، ولو في مورد واحد.
    ولأجل ذلك قلنا في الأبحاث الكلامية إنّ إثبات الحسن والتقبيح الشرعيّين يتوقف على قبول حكم العقل بقبح الكذب على الشارع ، حتى يثبت بقبوله سائر إخباره بالحسن والقبح. وقبوله في مورد ، يوجب انهدام القاعدة وبطلانها ، أعني كون التحسين والتقبيح شرعيين لا عقليين.
2. مسألة الاستطاعة والقدرة
     لقد فصَّل الإمام الأشعري الكلام في الاستطاعة والقدرة وركَّز على أنّها غير متقدمة على الفعل بل معه دائماً ـ و مع ذلك ـ اعترف بأنّ قدرة الله قديمة متقدمة على فعله ، ولم يعلم وجه التفريق بينهما.
    هذا مع أنّ كون إحدى القدرتين واجبة والأُخرى ممكنة ، لا يكون فارقاً في وجوب تقدّم إحداهما على الفعل ، وتقارن الأُخرى معه. و مع أنّ رأيه هذا يخالف الفطرة الإنسانية ، فإنّ كلّ إنسان يرى بالوجدان قدرته على القيام حال القعود ، وعلى المشي حال القيام.
3. ما هو حدّ الإيمان؟
     بحث عن حدّ الإيمان فقال : الإيمان بمعنى التصديق ، وإنّ مرتكب الكبيرة من أهل القبلة مؤمن بإيمانه ، فاسق بفسقه وكبيرته ، لا كافر كما عليه الخوارج ، ولا هو برزخ بين الإيمان والكفر ، كما عليه المعتزلة.
4. الآيات الواردة حول الوعد والوعيد
     طرح الآيات الواردة حول الوعد والوعيد ، وعالج التعارض المتوهَّم بينهما ، حيث إنّ ظاهر بعض آيات الوعيد ، هو تعذيب كلّ فاجر وإن كان موحداً مسلماً ، مثل قوله : وَإِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحيم (1) ، وظاهر بعض الآيات أنّ المسلم الجائي بالحسنة في الجنة ، مثل قوله : مَنَْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
1 ـ الانفطار : 14.

(49)
خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ (1) ، فعالج ذلك التعارض الابتدائي بوجه خاص.
     والسير في الكتابين والمقارنة بين فصولهما والأُصول المطروحة فيهما ، وكيفية البرهنة عليها ، يعرب للباحث أنّ هناك هوة سحيقة بين مذهب الأشعري في « الإبانة » ، و مذهبه في « اللمع » ، وأنّ تلامذة مدرسته استثمروا ماجاء به الشيخ في « اللمع » ، دون ما في « الإبانة » ، وجعلوه هو الأصل ، وأشادوا بنيانه ، وأكبّوا على دراسته ، ولأجل ذلك أصرُّوا على التنزيه ، وركّزوا على الكسب ، وأسّسوا منهجاً كلامياً ، بين مذهب الحشوية من أهل الحديث والمعتزلة من المتكلّمين.
ما هو الداعي إلى التصويرين المختلفين؟
     إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه : إذا كان ما يعتقده الأشعري من الأُصول هو ما جاء به في « الإبانة » ، فما هو الداعي للتصويرين المختلفين في مذهب الحقّ؟
    والإجابة عن هذا السؤال مشكلة جداً ، وعلى ضوء ما ذكرناه حول الدوافع التي دعت الشيخ الأشعري إلى الانخراط في سلك أهل الحديث ، يمكن أن يقال : إنّ الهدف الأسمى للشيخ كان هو تعديل عقائد الحشوية ، من أهل الحديث الذين كانوا يتعبّدون بكلّ حديث من دون معالجة أسناده ، أو مضمونه ، وتقييمه في سوق الاعتبار ، وكان تحقّق ذلك الهدف رهن الانخراط في سلكهم ، والرجوع عن أعدائهم ومخالفيهم ، ولذلك أعلن الشيخ التوبة عن الاعتزال ونصرة مذهب إمام الحديث ومقدامه.
    ولكن لمّا لم يكن ذلك كافياً في الأخذ بمجامع قلوبهم ، وصرف نفوسهم وأهوائهم إلى نفسه ، عمل كتاب « الإبانة » حتى يرضي قلوبهم ويملأ عيونهم مع إقحام بعض الكلمات التي تناسب التنزيه وتخالف التجسيم فيها.
    ولمّا تربّع على سدَّة الحكم وآمنت أصناف من الحشوية به ، أخذ بالتعديل
1 ـ النمل : 89.

(50)
    والإصلاح ، وبيّن ما يعتقد به من المذهب الحقّ ، الذي هو منهج وسط ين العقيدة الحنبلية والمعتزلة; فألّف كتاب « اللمع » ، وبذلك يمكن أن يقال إنّ « الإبانة » أسبق تأليفاًمن « اللمع ».
    إنّ ما بين الباحثين عن منهج الإمام الأشعري من يوافقنا في النتيجة ، وقد وصل إليها من طريق غير ما سلكناه ، وإليك نصّه : « إنّ الصورة العقلية التي يصوّرها في « الإبانة » قد صوّرت أوّلاً ، والصورة العقلية التي يصوّرها في « اللمع » قد صوّرت أخيراً ، وإنّها كانت تجديداً لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه ، ويعتقد صحته ، ويدافع عنه ، ويرضاه لأتباعه ، وأسباب هذا الترجيح ـ كون اللمع أُلِّف بعد الإبانة ـ كثيرة ، فمنها ما هو نفسي ، ومنها ما هو علمي.
    وممّا يعود إلى الأسباب النفسية أنّنا نرى الأشعري في كتاب « الإبانة » أشرق أسلوباً ، وأكثر تحمّساً ، وأعظم تحاملاً على المعتزلة ، وأكثر بعداً عن آرائهم ، وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبّان تركه أو بُعَيْدَ التنازل عنه ، أمّا من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع باباً مشتركاً في الكتابين ليرى أنّ كتاب « اللمع » في ذلك الباب أحاط بمسائل ، وأجاد في عرض أدلّتها ، وأفاض في بيان اعتراضات خصومه ، وأحسن في الرد عليها ، وذاك ممّا يدلّ على أنّ كتاب « اللمع » لم يكتب إلاّ في الوقت الذي نضج فيه المذهب في نفس صاحبه ، وأنّه لم يصوّره في هذا الكتاب إلاّ بعد أن أصبح واضحاً عنده. (1)
    والفرق بين التحليلين واضح ، فعلى ما ذكرناه نحن لم يكن للإمام الأشعري بعد الرجوع عن الاعتزال إلاّ مذهب واحد وفكرة خاصة ، وقد عرضها بعد ما اصطنع الصورة الأُولى ليكسب بها رضى الحنابلة أو يتجنب شرهم.
    وعلى ما ذكره ذلك الباحث تكون الصورتان لمرحلتين مختلفتين في تطوّره
1 ـ مقدّمة اللمع للدكتور « حمودة غرابة » : 7 نقله عن الباحث الغربي « فنسنك » وغيره.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس