الملل والنحل جلد الثاني ::: 51 ـ 60
(51)
    الفكري بعد تحوله عن مذهب المعتزلة ، فالصورة الأُولى صورة غير ناضجة ، وربما أعان عليها حنقه على الاعتزال وخصومته معهم ، والصورة الثانية صورة ناضجة أبدتها فاكرته بعد ملاءمة الظروف ورجوع الهدوء إلى ذهنه وفكره.
    ثمّ إنّ بين الباحثين الغربيين من يرجّح العكس ، وأنّ الصورة العقلية عنده بعد الرجوع عن الاعتزال ، يعطيها كتاب « اللمع » ، لكنّه لما رحل من البصرة إلى بغداد في أُخريات حياته ووقع تحت نفوذ الحنابلة ألّف كتاب « الإبانة » ، وأثبت الوجه واليدين لله سبحانه. والله أعلم.

5. رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام
     قد أثبت في ذلك الكتاب استحسان الخوض في المسائل الكلامية واستدلّ بالآيات ، وبذلك قضى على فكرة أهل الحديث الذين يحرّمون الخوض في المباحث العقلية ، ويستندون في عقائدهم بظواهر الكتاب والسنّة ، وقد طبع للمرة الثالثة في حيدر آباد الدكن ـ الهند ـ ، عام 1400هـ ـ 1979م ، وطبع أيضاً في ذيل كتاب « اللمع » الآنف ذكره ، وهو بكتابه هذا خالف السنّة المتبعة بين أهل الحديث ، كما أثارهم على نفسه ، وبما أنّ تلك الرسالة ـ على اختصارها ـ لا تخلو من نكات وتعرب عن مبلغ وروده بالكتاب وكيفية استنباطه منه ، نأتي بنصّ الرسالة هنا تماماً. قال بعد التسمية والحمد والتسليم :
    أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، ومالوا إلى التخفيف والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن أُصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أنّ الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عزّوجلّ بدعة وضلالة ، وقالوا : لو كان هدى ورشاداً لتكلّم فيه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وخلفاؤه وأصحابه! قالوا : ولأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يمت حتى تكلم في كلّ ما يحتاج إليه من أُمور الدين ، و بيّنه بياناً شافياً ، ولم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه حاجة من أُمور دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزّوجلّ ويباعدهم عن سخطه; فلمّا لم يرووا عنه


(52)
    الكلام في شيء ممّا ذكرناه ، علمنا أنّ الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة ، لأنّه لو كان خيراً لما فات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولتكلَّموا فيه ، قالوا : ولأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين : إمّا أن يكونوا علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل جهلوه; فإن كانوا علموه ولم يتكلّموا فيه وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه ، كما وسعهم السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه ، ولأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله ، لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة; فهذه جملة ما احتجّوا به في ترك النظر في الأُصول.
    قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : الجواب عنه من ثلاثة أوجه :
    أحدها قلب السؤال عليهم بأن يقال : النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل أيضاً إنّه من بحث عن ذلك وتكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً ، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضُلاّلاً إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وضلّلتم من لم يضلّله النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    الجواب الثاني أن يقال لهم : إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يجهل شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض ، والحركة والسكون ، والجزء والطفرة ، وإن لم يتكلم في كلّ واحد من ذلك معيناً ، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة ، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة ، أُصولها موجودة في القرآن والسنة جملة غير منفصلة.
    فأمّا الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن ، و هما يدلاّن على التوحيد ، وكذلك الاجتماع والافتراق ، قال الله تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات عليه وسلامه في قصة أُفول الكوكب الشمس والقمر (1) وتحريكها من مكان إلى مكان ، ما دلّ على أنّ ربّه عزّوجلّ لا يجوز
1 ـ الأنعام : 75 ـ 79.

(53)
    عليه شيء من ذلك ، وأنّ من جاز عليه الأُفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.
    وأمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ أيضاً من الكتاب ، قال الله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا (1) ، وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنّه واحد لا شريك له ، وكلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية ، وقوله عزّوجلّ : مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعَضُهُمْ عَلى بَعْض (2) إلى قوله عزّوجلّ : أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ . (3)
    وكلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد الله إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها ، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنّما هو مأخوذ من القرآن ، فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب و من قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا : أَ إِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعيدٌ (4) وقولهم : هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (5) ، وقولهم : مَنْ يُحيي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ (6) وقوله تعالى : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (7) ، وفي نحو هذاالكلام منهم إنّما وردبالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول ، وعلم نبيه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ولقّنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين : منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل وأنكرت الثاني ، وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتج على المقِر منها بالخلق
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ المؤمنون : 91.
3 ـ الرعد : 16.
4 ـ ق : 3.
5 ـ المؤمنون : 36.
6 ـ يس : 78.
7 ـ المؤمنون : 35.


(54)
    الأوّل بقوله : قُلْ يُحييها الّذى أَنشَأَها أَوّلَ مَرّة (1) ، وبقوله : وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليهِ (2) وبقوله : كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (3) ، فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً ، فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم ، وأمّا الباري جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه فليس خلقُ شيء بأهون عليه من الآخر ، وقد قيل : إنّ الهاء في « عليه » إنّما هي كناية للخلق بقدرته ، إنّ البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه ، لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون بالولادة والتريبة وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان ، وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة ، وإعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء ، فهي أهون عليه من ابتدائه ، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرّة بالخلق.
    وأمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل والثاني ، وقالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا : وجدنا الحياة رطبة حارة ، والموت بارداً يابساً ، وهو من طبع التراب ، فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقاً سوياً ، والضدان لا يجتمعان ، فأنكروا البعث من هذه الجهة.
    ولعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ واحد ، ولا في جهة واحدة ، ولا في الموجود في المحل ، ولكنّه يصحّ وجودهما في محلين على سبيل المجاورة ، فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : الّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (4) ، فردّهم الله عزّ وجلّ في ذلك إلى ما يعرفونه و يشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على برده ورطوبته ، فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة ، لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة ، فجعلها خلقاً سوياً وقال : كَما
1 ـ يس : 79.
2 ـ الروم : 27.
3 ـ الأعراف : 29.
4 ـ يس : 80.


(55)
بَدَأْنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ. (1)
    وأمّا ما يتكلّم به المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً (2) و ردّهم على الدهرية أنّه لا حركة إلاّوقبلها حركة ، ولا يوم إلاّ وقبلها يوم ، والكلام على من قال : ما من جزء إلاّ وله نصف لا إلى غاية ، فقد وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين قال : « لا عدوى ولا طيرة » فقال أعرابي : فما بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب؟ فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « فمن أعدى الأوّل؟ » فسكت الأعرابي لمّا أفحمه بالحجة المعقولة.
    وكذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة إلاّوقبلها حركة : لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة ، لأنّ ما لا نهاية له لا حدث له ، وكذلك لما قال الرجل : يا نبي الله! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود وعرض بنفيه ، فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : هل لك من إبل؟ فقال : نعم! قال : فما ألوانها ، قال : حمر ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « هل فيها من أورق؟ »قال : نعم! إنّ فيها أورق ، قال : « فأنّى ذلك؟ » قال : لعلّ عرقاً نزعه ، فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ولعل ولدك نزعه عرق ». فهذا ما علم الله نبيه من ردّ الشيء إلى شكله ونظيره ، وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير.
    وبذلك نحتج على من قال : إنّ الله تعالى و تقدّس يشبه المخلوقات ، وهو جسم ، بأن نقول له : لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته ، أو يشبهه من بعض جهاته; فإن كان يشبهه من كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته ، وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه ، لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها له ، ويستحيل أن يكون المحدث قديماً والقديم محدثاً ، وقد
1 ـ الأنبياء : 104.
2 ـ بياض في الأصل.


(56)
    قال تعالى وتقّدس : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ (1) و قال تعالى و تقدّس : ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواًأَحَدٌ . (2)
    وأمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية وأنّ الجزء لا ينقسم فقوله عزّوجلّ اسمه : وَكُلُّ شَيء أَحْصَيْناهُ في إِمام مُبينٌ (3) و محال إحصاء ما لا نهاية له ، ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم (4) ، لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين ، وقد أخبر أنّ العدد وقع عليهما.
    وأمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره وتنتفي عنه كراهيته ، فقوله تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (5) ، فلميستطيعوا أن يقولوا بحجة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد ، فلا يكون مع كراهيته له ، فنبّههم أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.
    وأمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وذلك تعليم الله عزّوجلّ إيّاه حين لقي الحبر السمين ، فقال له : نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك ، فقال : « ما أنزل الله على بشر من شيء » ، فقال الله تعالى : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً ) (6). فناقضه عن قرب ، لأنّ التوراة شيء ، وموسى بشر ، وقد كان الحبر مقرّاً بأنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى.
    وكذلك ناقض الذين زعموا أنّ الله تعالى عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار ، فقال تعالى : قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ (7) فناقضهم بذلك وحاجهم.
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ الإخلاص : 4.
3 ـ يس : 12.
4 ـ بياض في الأصل.
5 ـ الواقعة : 58 ـ 59.
6 ـ الأنعام : 91.
7 ـ آل عمران : 183.


(57)
    وأمّا أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى إِنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ لا يَسْمَعُونَ (1) فإنّها لمّا نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعرى ـ و كان جدلاً خصماً ـ فقال : خصمت محمداً وربّ الكعبة ، فجاء إلى رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فقال : يا محمد! ألست تزعم أنّ عيسى وعزيراً والملائكة عبدوا؟ فسكت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا سكوت عي ولا منقطع ، تعجباً من جهله ، لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها ، لأنّه قال : َما تَعبدونولم يقل وكلّ ما تعبدون من دون الله ، وإنّما أراد ابن الزبعري مغالطة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ليوهم قومه أنّه قد حاجّه ، فأنزل الله عزّوجلّ : إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسنىيعنى من المعبودين أُولئِكَ عَنْهَا مُبعدُونَ ) (2) ، فقرأ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ذلك ، فضجّوا عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم وغلطهم ، فقالوا : ءَآلهتنا خيرٌ أمْ هُو يعنون عيسى ، فأنزل الله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذاً قومك منه يصدّون إلى قوله خصمون (3) ، وكلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل ، وحجة لنا في الكلام فيما نذكره من تفصيل ، وإن لم تكن مسألة معينة في الكتاب والسنّة ، لأنّ ما حدث تعيينها من المسائل العقليات في أيّام النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.
    والجواب الثالث : إنّ هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولم يجهل منها شيئاً مفصلاً ، غير أنّها لم تحدث في أيام معينة فيتكلم فيها ، أو لا يتكلّم فيها ، وإن كانت أُصولها موجودة في القرآن والسنّة ، وما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلّموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجّوا ، كمسائل العول والجدات من مسائل الفرائض ، وغير ذلك من الأحكام ، وكالحرام والبائن والبتة وحبلك
1 ـ الأنبياء : 98 ـ 100.
2 ـ الأنبياء : 101.
3 ـ الزخرف : 57 ـ 58.


(58)
    على غاربك. وكالمسائل في الحدود والطلاق ممّا يكثر ذكرها ، ممّا قد حدثت في أيامهم ، ولم يجئ في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها ، و ما بقي الخلاف إلى الآن.
    وهذه المسائل ـ و إن لم يكن في كلّ واحدة منها نصّ عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّهم ردّوها وقاسوها على ما فيه نصّ من كتاب الله تعالى والسنّة واجتهادهم ، فهذه أحكام حوادث الفروع ، ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تستدرك أحكامها إلاّ من جهة السمع والرسل ، فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك ، لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع ، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه ، ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات ، فلو حدث في أيّام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه الألفاظ لتكلّم فيه وبيّنه ، كما بيّن سائر ما حدث في أيامه من تعيين المسائل ، وتكلّم فيها.
    ثمّ يقال : النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يصح عنه حديث في أنّ القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق ، فلم قلتم : إنّه غير مخلوق؟
    فإن قالوا : قد قاله بعض الصحابة وبعض التابعين.
    قيل لهم : يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    فإن قال قائل : فأنا أتوقّف في ذلك فلا أقول : مخلوق ولا غير مخلوق.
    قيل له : فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع ضال ، لأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل : إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئاً ، ولا قال : ضلّلوا وكفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.
    وخبرونا ، لو قال قائل : إن علم الله مخلوق ، أكنتم تتوقّفون فيه أم لا؟


(59)
    فإن قالوا : لا.
    قيل لهم : لم يقل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولا أصحابه في ذلك شيئاً; وكذلك لو قال قائل : هذا ربّكم شبعان أو ريان ، أو مكتس أو عريان ، أو مقرور أو صفراوي أو مرطوب ، أو جسم أو عرض ، أو يشم الريح أو لا يشمّها ، أو هل له أنف وقلب وكبد وطحال ، وهل يحج في كلّ سنة ، وهل يركب الخيل أو لا يركبها ، وهل يغتمّ أم لا؟ونحو ذلك من المسائل ، لكان ينبغي أن تسكت عنه ، لأنّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يتكلّم في شيء من ذلك ولا أصحابه ، أو كنت لا تسكت ، فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاًمن ذلك لا يجوز على الله عزّوجلّ ، وتقدس كذا وكذا بحجّة كذا وكذا.
    فإن قال قائل : أسكت عنه ولا أُجيبه بشيء ، أو أهجره ، أو أقوم عنه ، أو لا أسلم عليه ، أو لا أعوده إذا مرض ، أو لا أشهد جنازته إذا مات.
    قيل له : فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً ، لأنّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل : من سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه ، ولا قال : لا تسلّموا عليه ، ولا : قوموا عنه ، ولا قال شيئاً من ذلك ، فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك ، ولم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن ، و لِمَ كفرتموه ، ولم يرد عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حديث صحيح في نفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.
    فإن قالوا : إنّ أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، قال بنفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.
    قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلّم فيه؟
    فإن قالوا : لأنّ العباس العنبري ووكيعاً وعبد الرحمن بن مهدي وفلاناً وفلاناً قالوا إنّه غير مخلوق ، ومن قال بأنّه مخلوق فهو كافر.
    قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أُولئك عمّا سكت عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟
    فإن قالوا : لأنّ عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة وجعفر بن محمد رضي الله عنهم و فلاناً وفلاناً قالوا : ليس بخالق ولا مخلوق.


(60)
    قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أولئك عن هذه المقالة ، ولم يقلها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟
    فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة. فإنّه يقال لهم : فلم لم يسكتوا عن ذلك ، ولم يتكلّم فيه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). ولا قال : كفروا قائله.
    وإن قالوا : لابدّللعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها.
    قيل لهم : هذا الذي أردناه منكم ، فلم منعتم الكلام ، فأنتم إن شئتم تكلّمتم ، حتى إذا انقطعتم قلتم : نهينا عن الكلام; وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجة ولا بيان ، وهذه شهوة وتحكّم.
    ثمّ يقال لهم : فالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يتكلّم في النذور والوصايا ، ولا في العتق ، ولا في حساب المناسخات ، ولا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة ، فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلاّلاً إذ فعلوا ما لم يفعله النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقالوا ما لم يقله نصاً بعينه ، وصّنفوا ما لم يصنّفه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن ولم يقله النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). وفيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.
    أنجز والحمد لله ، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وجه تسمية علم الكلام ، بالكلام
     قال في المواقف : إنّما سمّي كلاماً إمّا لأنّه بازاء المنطق للفلاسفة ، أو لأنّ أبوابه عنونت أوّلاً بالكلام في كذا ، أو لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه ، أو لأنّه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم. (1)
    قد ذكر التفتازاني في « شرح العقائد النسفية » في وجه تسمية علم العقائد بعلم الكلام وجوهاً ستة ، وكلّها مرجوحة ، وإليك نصّه :
1 ـ المواقف : 8 ـ 9.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس