الفكري بعد تحوله
عن مذهب المعتزلة ، فالصورة الأُولى صورة غير ناضجة ، وربما أعان عليها حنقه على
الاعتزال وخصومته معهم ، والصورة الثانية صورة ناضجة أبدتها فاكرته بعد ملاءمة
الظروف ورجوع الهدوء إلى ذهنه وفكره.
ثمّ إنّ بين الباحثين الغربيين من يرجّح
العكس ، وأنّ الصورة العقلية عنده بعد الرجوع عن الاعتزال ، يعطيها كتاب « اللمع » ،
لكنّه لما رحل من البصرة إلى بغداد في أُخريات حياته ووقع تحت نفوذ الحنابلة
ألّف كتاب « الإبانة » ، وأثبت الوجه واليدين لله سبحانه. والله أعلم.
5. رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام
قد أثبت في ذلك الكتاب استحسان الخوض في المسائل
الكلامية واستدلّ بالآيات ، وبذلك قضى على فكرة أهل الحديث الذين يحرّمون الخوض
في المباحث العقلية ، ويستندون في عقائدهم بظواهر الكتاب والسنّة ، وقد طبع للمرة
الثالثة في حيدر آباد الدكن ـ الهند ـ ، عام 1400هـ ـ 1979م ، وطبع أيضاً في ذيل
كتاب « اللمع » الآنف ذكره ، وهو بكتابه هذا خالف السنّة المتبعة بين أهل الحديث ،
كما أثارهم على نفسه ، وبما أنّ تلك الرسالة ـ على اختصارها ـ لا تخلو من نكات
وتعرب عن مبلغ وروده بالكتاب وكيفية استنباطه منه ، نأتي بنصّ الرسالة هنا
تماماً. قال بعد التسمية والحمد والتسليم :
أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا
الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، ومالوا إلى التخفيف
والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن أُصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أنّ
الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة
وصفات الباري عزّوجلّ بدعة وضلالة ، وقالوا : لو كان هدى ورشاداً لتكلّم فيه
النبي ( صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم ) وخلفاؤه
وأصحابه! قالوا : ولأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يمت حتى تكلم في كلّ ما يحتاج إليه من
أُمور الدين ، و بيّنه بياناً شافياً ، ولم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين
إليه حاجة من أُمور دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزّوجلّ ويباعدهم عن سخطه;
فلمّا لم يرووا عنه
(52)
الكلام في شيء
ممّا ذكرناه ، علمنا أنّ الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة ، لأنّه لو كان خيراً
لما فات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولتكلَّموا فيه ، قالوا : ولأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين : إمّا أن يكونوا
علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل جهلوه; فإن كانوا علموه ولم يتكلّموا فيه
وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه ، كما وسعهم السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم
ترك الخوض فيه ، ولأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم
يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله ، لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى
كلا الوجهين الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة; فهذه جملة ما احتجّوا به في
ترك النظر في الأُصول.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :
الجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها قلب السؤال عليهم بأن يقال : النبي
( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل أيضاً إنّه
من بحث عن ذلك وتكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً ، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة
ضُلاّلاً إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وضلّلتم من لم يضلّله النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
الجواب الثاني أن يقال لهم : إنّ
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يجهل
شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض ، والحركة والسكون ، والجزء
والطفرة ، وإن لم يتكلم في كلّ واحد من ذلك معيناً ، وكذلك الفقهاء والعلماء من
الصحابة ، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة ، أُصولها موجودة في القرآن
والسنة جملة غير منفصلة.
فأمّا الحركة والسكون والكلام فيهما
فأصلهما موجود في القرآن ، و هما يدلاّن على التوحيد ، وكذلك الاجتماع والافتراق ،
قال الله تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات عليه وسلامه في قصة أُفول الكوكب
الشمس والقمر (1) وتحريكها من مكان إلى مكان ، ما دلّ على أنّ
ربّه عزّوجلّ لا يجوز
1 ـ الأنعام : 75 ـ 79.
(53)
عليه شيء من ذلك ،
وأنّ من جاز عليه الأُفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.
وأمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ
أيضاً من الكتاب ، قال الله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله
لَفَسَدَتا(1) ، وهذا الكلام موجز منبه على
الحجة بأنّه واحد لا شريك له ، وكلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية ، وقوله عزّوجلّ : مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله
إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعَضُهُمْ عَلى
بَعْض(2) إلى قوله عزّوجلّ :
أَمْ جَعَلُوا للّهِ
شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ . (3) وكلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد
الله إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها ، وكذلك سائر الكلام في تفصيل
فروع التوحيد والعدل إنّما هو مأخوذ من القرآن ، فكذلك الكلام في جواز البعث
واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب و من قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من
جواز ذلك فقالوا : أَ إِذا مِتْنا وَكُنّا
تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعيدٌ(4)
وقولهم : هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ(5) ، وقولهم :
مَنْ يُحيي العِظامَ
وَهِيَ رَميمٌ(6) وقوله
تعالى : أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ(7) ، وفي نحو هذاالكلام منهم
إنّما وردبالحجاج في جواز البعث
بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول ، وعلم نبيه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ولقّنه الحجاج عليهم في
إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين : منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل وأنكرت
الثاني ، وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتج على المقِر منها بالخلق
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ المؤمنون : 91.
3 ـ الرعد : 16.
4 ـ ق : 3.
5 ـ المؤمنون : 36.
6 ـ يس : 78.
7 ـ المؤمنون : 35.
(54)
الأوّل بقوله :
قُلْ يُحييها الّذى
أَنشَأَها أَوّلَ مَرّة(1) ،
وبقوله : وَهُوَ الَّذي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ
عليهِ(2) وبقوله : كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(3) ، فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير
مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً ، فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم ،
وأمّا الباري جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه فليس خلقُ شيء بأهون عليه من الآخر ، وقد
قيل : إنّ الهاء في « عليه » إنّما هي كناية للخلق بقدرته ، إنّ البعث والإعادة
أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه ، لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون
بالولادة والتريبة وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان ، وغير ذلك من الآيات
الموجعة المؤلمة ، وإعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء ، فهي أهون
عليه من ابتدائه ، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرّة بالخلق.
وأمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل
والثاني ، وقالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا : وجدنا الحياة
رطبة حارة ، والموت بارداً يابساً ، وهو من طبع التراب ، فكيف يجوز أن يجمع بين
الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقاً سوياً ، والضدان لا يجتمعان ، فأنكروا
البعث من هذه الجهة.
ولعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ
واحد ، ولا في جهة واحدة ، ولا في الموجود في المحل ، ولكنّه يصحّ وجودهما في
محلين على سبيل المجاورة ، فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : الّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ
ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(4) ، فردّهم الله عزّ وجلّ في ذلك إلى ما يعرفونه و يشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها
من الشجر الأخضر على برده ورطوبته ، فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز
النشأة الآخرة ، لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة ،
فجعلها خلقاً سوياً وقال : كَما1 ـ يس : 79.
2 ـ الروم : 27.
3 ـ الأعراف : 29.
4 ـ يس : 80.
(55)
بَدَأْنا
أَوّل خَلْق نُعيدُهُ. (1) وأمّا ما يتكلّم به
المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً (2) و ردّهم على الدهرية أنّه لا
حركة إلاّوقبلها حركة ، ولا يوم
إلاّ وقبلها يوم ، والكلام على من قال : ما من جزء إلاّ وله نصف لا إلى غاية ، فقد
وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين قال : « لا عدوى ولا طيرة » فقال أعرابي : فما
بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب؟ فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « فمن أعدى الأوّل؟ » فسكت
الأعرابي لمّا أفحمه بالحجة المعقولة.
وكذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة
إلاّوقبلها حركة : لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة ، لأنّ ما لا نهاية له
لا حدث له ، وكذلك لما قال الرجل : يا نبي الله! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود
وعرض بنفيه ، فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : هل لك من إبل؟ فقال : نعم! قال : فما ألوانها ، قال : حمر ، فقال رسول الله
( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « هل فيها من
أورق؟ »قال : نعم! إنّ فيها أورق ، قال : « فأنّى ذلك؟ » قال : لعلّ عرقاً نزعه ،
فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ولعل
ولدك نزعه عرق ». فهذا ما علم الله نبيه من ردّ الشيء إلى شكله ونظيره ، وهو أصل
لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير.
وبذلك نحتج على من قال : إنّ الله تعالى و
تقدّس يشبه المخلوقات ، وهو جسم ، بأن نقول له : لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان
لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته ، أو يشبهه من بعض جهاته; فإن كان يشبهه
من كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته ، وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب
أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه ، لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها
له ، ويستحيل أن يكون المحدث قديماً والقديم محدثاً ، وقد
1 ـ الأنبياء : 104.
2 ـ بياض في الأصل.
(56)
قال تعالى
وتقّدس : لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيءٌ(1) و قال تعالى و
تقدّس : ولَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواًأَحَدٌ . (2) وأمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية وأنّ الجزء
لا ينقسم فقوله عزّوجلّ اسمه : وَكُلُّ شَيء أَحْصَيْناهُ في إِمام
مُبينٌ(3) و محال إحصاء ما لا نهاية له ،
ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم (4) ، لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين ، وقد أخبر أنّ العدد
وقع عليهما.
وأمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن
يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره وتنتفي عنه كراهيته ، فقوله تعالى :
أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ* ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(5) ، فلميستطيعوا أن
يقولوا بحجة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد ، فلا يكون مع كراهيته له ، فنبّههم
أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.
وأمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في
النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وذلك تعليم الله عزّوجلّ إيّاه حين لقي الحبر
السمين ، فقال له : نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أنّ الله
تعالى يبغض الحبر السمين؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك ، فقال : « ما أنزل الله على
بشر من شيء » ، فقال الله تعالى : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى
نُوراً ) (6). فناقضه
عن قرب ، لأنّ التوراة شيء ، وموسى بشر ، وقد كان الحبر مقرّاً بأنّ الله
تعالى أنزل التوراة على
موسى.
وكذلك ناقض الذين زعموا أنّ الله تعالى
عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار ، فقال تعالى :
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ(7) فناقضهم بذلك وحاجهم.
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ الإخلاص : 4.
3 ـ يس : 12.
4 ـ بياض في الأصل.
5 ـ الواقعة : 58 ـ 59.
6 ـ الأنعام : 91.
7 ـ آل عمران : 183.
(57)
وأمّا أصلنا في
استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى إِنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ لا يَسْمَعُونَ(1) فإنّها لمّا نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعرى ـ و كان
جدلاً خصماً ـ فقال : خصمت محمداً وربّ الكعبة ، فجاء إلى رسول الله
( صلَّى الله عليه
وآله وسلَّم ) ، فقال : يا محمد!
ألست تزعم أنّ عيسى وعزيراً والملائكة عبدوا؟ فسكت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا سكوت عي ولا منقطع ، تعجباً من
جهله ، لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها ، لأنّه
قال : َما
تَعبدونولم يقل وكلّ ما تعبدون من دون الله ، وإنّما
أراد ابن الزبعري مغالطة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ليوهم قومه أنّه قد حاجّه ، فأنزل الله
عزّوجلّ : إِنَّ الَّذينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسنىيعنى من المعبودين
أُولئِكَ عَنْهَا
مُبعدُونَ ) (2) ، فقرأ
النبي ( صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم ) ذلك ، فضجّوا
عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم وغلطهم ، فقالوا : ءَآلهتنا خيرٌ أمْ هُو
يعنون عيسى ، فأنزل الله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذاً قومك منه
يصدّون إلى قوله خصمون(3) ، وكلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره
أصل ، وحجة لنا في الكلام فيما
نذكره من تفصيل ، وإن لم تكن مسألة معينة في الكتاب والسنّة ، لأنّ ما حدث
تعيينها من المسائل العقليات في أيّام النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.
والجواب الثالث : إنّ هذه المسائل التي
سألوا عنها قد علمها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولم يجهل منها شيئاً مفصلاً ، غير أنّها لم تحدث في أيام معينة فيتكلم فيها ، أو لا يتكلّم فيها ، وإن كانت أُصولها موجودة
في القرآن والسنّة ، وما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد
تكلّموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجّوا ، كمسائل العول والجدات من
مسائل الفرائض ، وغير ذلك من الأحكام ، وكالحرام والبائن والبتة وحبلك
1 ـ الأنبياء : 98 ـ 100.
2 ـ الأنبياء : 101.
3 ـ الزخرف : 57 ـ 58.
(58)
على غاربك.
وكالمسائل في الحدود والطلاق ممّا يكثر ذكرها ، ممّا قد حدثت في أيامهم ، ولم يجئ
في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها ، و ما بقي الخلاف إلى الآن.
وهذه المسائل ـ و إن لم يكن في كلّ واحدة
منها نصّ عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّهم ردّوها وقاسوها على ما فيه نصّ من كتاب الله تعالى والسنّة
واجتهادهم ، فهذه أحكام حوادث الفروع ، ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا
تستدرك أحكامها إلاّ من جهة السمع والرسل ، فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في
تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتفق عليها
بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك ، لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن
تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع ، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات
أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه ، ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات
بالعقليات ، فلو حدث في أيّام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه
الألفاظ لتكلّم فيه وبيّنه ، كما بيّن سائر ما حدث في أيامه من تعيين المسائل ،
وتكلّم فيها.
ثمّ يقال : النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يصح عنه حديث في أنّ القرآن
غير مخلوق أو هو مخلوق ، فلم قلتم : إنّه غير مخلوق؟
فإن قالوا : قد قاله بعض الصحابة وبعض
التابعين.
قيل لهم : يلزم الصحابي والتابعي مثل ما
يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
فإن قال قائل : فأنا أتوقّف في ذلك فلا
أقول : مخلوق ولا غير مخلوق.
قيل له : فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع
ضال ، لأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل : إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئاً ،
ولا قال : ضلّلوا وكفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.
وخبرونا ، لو قال قائل : إن علم الله
مخلوق ، أكنتم تتوقّفون فيه أم لا؟
(59)
فإن قالوا : لا.
قيل لهم : لم يقل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولا أصحابه في ذلك شيئاً; وكذلك
لو قال قائل : هذا ربّكم شبعان أو ريان ، أو مكتس أو عريان ، أو مقرور أو صفراوي
أو مرطوب ، أو جسم أو عرض ، أو يشم الريح أو لا يشمّها ، أو هل له أنف وقلب وكبد
وطحال ، وهل يحج في كلّ سنة ، وهل يركب الخيل أو لا يركبها ، وهل يغتمّ أم لا؟ونحو
ذلك من المسائل ، لكان ينبغي أن تسكت عنه ، لأنّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يتكلّم في شيء من ذلك ولا
أصحابه ، أو كنت لا تسكت ، فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاًمن ذلك لا يجوز على الله
عزّوجلّ ، وتقدس كذا وكذا بحجّة كذا وكذا.
فإن قال قائل : أسكت عنه ولا أُجيبه بشيء ،
أو أهجره ، أو أقوم عنه ، أو لا أسلم عليه ، أو لا أعوده إذا مرض ، أو لا أشهد
جنازته إذا مات.
قيل له : فيلزمك أن تكون في جميع هذه
الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً ، لأنّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقل : من سأل عن شيء من ذلك
فاسكتوا عنه ، ولا قال : لا تسلّموا عليه ، ولا : قوموا عنه ، ولا قال شيئاً من ذلك ،
فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك ، ولم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن ، و لِمَ
كفرتموه ، ولم يرد عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حديث صحيح في نفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.
فإن قالوا : إنّ أحمد بن حنبل رضي الله
عنه ، قال بنفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.
قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل
تكلّم فيه؟
فإن قالوا : لأنّ العباس العنبري ووكيعاً
وعبد الرحمن بن مهدي وفلاناً وفلاناً قالوا إنّه غير مخلوق ، ومن قال بأنّه
مخلوق فهو كافر.
قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أُولئك عمّا سكت
عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟
فإن قالوا : لأنّ عمرو بن دينار وسفيان بن
عيينة وجعفر بن محمد رضي الله عنهم و فلاناً وفلاناً قالوا : ليس بخالق ولا
مخلوق.
(60)
قيل لهم : ولِمَ
لم يسكت أولئك عن هذه المقالة ، ولم يقلها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟
فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة
منهم كان ذلك مكابرة. فإنّه يقال لهم : فلم لم يسكتوا عن ذلك ، ولم يتكلّم فيه
النبي ( صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم ). ولا قال :
كفروا قائله.
وإن قالوا : لابدّللعلماء من الكلام في
الحادثة ليعلم الجاهل حكمها.
قيل لهم : هذا الذي أردناه منكم ، فلم
منعتم الكلام ، فأنتم إن شئتم تكلّمتم ، حتى إذا انقطعتم قلتم : نهينا عن الكلام;
وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجة ولا بيان ، وهذه شهوة وتحكّم.
ثمّ يقال لهم : فالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يتكلّم في النذور والوصايا ،
ولا في العتق ، ولا في حساب المناسخات ، ولا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك
والثوري والشافعي وأبو حنيفة ، فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلاّلاً إذ فعلوا ما لم
يفعله النبي ( صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم ) ،
وقالوا ما لم يقله نصاً بعينه ، وصّنفوا ما لم يصنّفه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقالوا بتكفير القائلين بخلق
القرآن ولم يقله النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). وفيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.
أنجز والحمد لله ، وصلّى الله على سيّدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
وجه تسمية علم الكلام ، بالكلام
قال في المواقف : إنّما سمّي كلاماً إمّا لأنّه بازاء
المنطق للفلاسفة ، أو لأنّ أبوابه عنونت أوّلاً بالكلام في كذا ، أو
لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه ، أو
لأنّه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم. (1) قد ذكر التفتازاني في « شرح العقائد
النسفية » في وجه تسمية علم العقائد بعلم الكلام وجوهاً ستة ، وكلّها مرجوحة ،
وإليك نصّه :
1 ـ المواقف : 8 ـ 9.