الملل والنحل جلد الثاني ::: 61 ـ 70
(61)
    1. إنّ عنوان مباحث ذلك العلم كان قولهم : الكلام في كذا.
    2. لأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم ، كالمنطق للفلسفة.
    3. لأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تُتعلّم بالكلام.
    4. لأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين.
    5. لأنّه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً ، فيشتد افتقاره إلى الكلام.
    6. لأنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه. (1)
    إنّ واحداً من هذه الوجوه لا يقبله الذوق ، لأنّ جميعها أو أكثرها مشترك بين علم العقائد وغيره من العلوم ، فلماذا اختص ذاك العلم به ولم يطلق على سائر العلوم؟
    والظاهر أنّ تسميته به لأحد وجهين تاليين :
    1. إنّ أوّل خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عزّوجلّ ، وأنّه أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فتكلم الناس فيه ، فسمّي هذا النوع من العلم كلاماً واختص به. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ حدوث القرآن و قدمه لم يكن أوّل خلاف وقع في الدين ، بل سبقته عدة خلافات.
    منها : كون صيغة الخلافة هي التنصيص أو اختيار الأُمّة ، وبعبارة أُخرى : هل الخليفة بعد رسولالله أبو بكر أو عليّ؟
    ومنها : أنّ مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن فاسق ، أو لا مؤمن ولا كافر بل منزلة بين المنزلتين ، أو كافر؟ فقد أثار أمر التحكيم في ( صفّين ) هذه المسألة.
    طرحت هذه المسألة في الأوساط الإسلامية قبل أن يطرح قدم القرآن أو حدوثه.
1 ـ شرح العقائد النسفية : 15 ، طبع بغداد سنة 1326هـ .
2 ـ الوفيات : 1/677.


(62)
    ومنها : أنّ الإيمان إذعان وقول وعمل ، أو إذعان فقط ، أو إذعان بشرط الإظهار ، إلى غير ذلك من الوجوه.
    ومنها : مسألة الجبر والاختيار ، وسيادة القدر على حرية الإنسان بل على قدرة الرب فلا يغير ولا يبدل المقدر ، أو غير ذلك.
    فهذه المسائل متقدمة على البحث عن قدم القرآن وحدوثه.
    وإنّما طرحت هذه المسألة في أوائل الخلافة العباسية بين الأوساط.
    نعم ، ينسب القول بالحدوث إلى آخر الخلفاء من المروانيّين ، وأنّه أخذ حدوث القرآن عن الجعد بن درهم ، ولم يوجد القول بالقدم والحدوث في أواخر المروانيّين دوياً بين الناس.
    2. إنّ تسمية علم العقائد بالكلام لأجل أنّ ذاك العلم بالصورة العقلية كان مهنة للمعتزلة وحرفة لهم ، وبما أنّ هؤلاء كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا يدافعون عن عقيدتهم بأفصح العبارات وأبلغها وأوكدها ، فلذلك اشتهروا بأصحاب الكلام ، وسمِّي من لصق بذلك وتمهّر فيه متكلماً ، والله العالم.


(63)
الإمام الأشعري
آراؤه ونظرياته

    استعرض الشيخ الأشعري آراءه ونظرياته حول المبدأ والمعاد ، وأسمائه سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، وما يمت إلى ذلك بصلة في كتاب « اللمع » واستمد في إثباتها من الأدلّة العقلية بوفرة ، وعززها بالأدلّة النقلية ، ونحن ندرس أُصول ما استعرضه واحداً بعد واحد ، ونعتمد على كتبه الثلاثة ، وعلى « اللمع » بالأخص ، لمّا عرفت من تميزه على الآخرين ، وإليك عناوين بحوثه :
    1. استدلاله على وجوده سبحانه.
    2. البارئ لا يشبه المخلوقات.
    3. استدلاله على وحدانية الصانع.
    4. إعادة الخلق المعدوم جائز.
    5. الله سبحانه ليس بجسم.
    6. صفاته الذاتية.
    7. صفاته قديمة لا حادثة.
    8. صفاته زائدة على ذاته.
    9. رأيه في الصفات الخبرية.
    10. أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
    11. الاستطاعة مع الفعل لا قبله.

(64)
    12. رؤية الله بالأبصار في الآخرة.
    13. كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي.
    14. كلامه سبحانه غير مخلوق أو قديم.
    15. عمومية إرادته لكلّ شيء.
    16. إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن ( التعديل والتجوير ).


(65)
(1)
استدلاله على وجود الصانع سبحانه

    قال : الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ، ثمّ علقة ، ثم مضغة ، ثم لحماً ، ودماً ، وعظماً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال ، لأنّا نراهـ في حال كمال قوته وتمام عقلهـ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة ، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك ، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال ، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.
    ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل ، إلى الفتل ، إلى الثوب ، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان ، فلو دلّ ذلك على وجوده ، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة ، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال ، وقد قال الله تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (1). وقال سبحانه : وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (2) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع
1 ـ الواقعة : 58 ـ 59.
2 ـ الذاريات : 21.


(66)
    صنعهم ومدبر دبرهم. (1)
    يلاحظ على هذا الدليل :
    أوّلاً : أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت ، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة ، أو حاجة الحادث إلى السبب.
    وبعبارة أُخرى : معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل ، والاستدلال به ما أمكن.
    ثانياً : أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة ، فهو في حال العجز أولى.
    وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه ، في جمل في غاية الفصاحة فقال : « أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشغف الأستار ، نطفة دهاقاً ، وعلقة محاقاً ، وجنيناً وراضعاً ، ووليداً ويافعاً ، ثمّ منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً ». (2)
    ثالثاً : أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة ، من أجل إقناع عامة البشر ، مؤمناً كان أم كافراً ، ولا يكتفي بالتعبّد ، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً ، وللتعبّد مكاناً آخر ، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان ، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته ، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه ، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.
    ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء بأمر غير تام ، فاستدلّ على أنّ
1 ـ اللمع : 18.
2 ـ نهج البلاغة : 1/140 ، الخطبة 80 ، ط مصر.


(67)
    هناك ناقلاً ومدبراً غير الإنسان بقوله : « إن الإنسان لوجهد أن يزيل عن نفسه الكبر لم يمكنه ذلك » وجعل هذا دليلاً على أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر ، ولكن الملازمة غير ثابتة ، إذ لمشكّك أن يقول : إنّه قادر على نقل نفسه من الشباب إلى الهرم ، ولكنّه غير قادر على العكس ، ولا ملازمة بين القدرة على القضية الأُولى والقدرة على القضية الثانية ، فالإنسان الضعيف قادر على قذف الجسم الثقيل من السطح إلى الأرض ، وليس بقادر على رفعه منها إليه ، وقس على ذلك الأمثلة الأُخرى.


(68)
(2)
البارئ لا يشبه المخلوقات

    استدلّ على تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات بأنّه لو أشبهها لكان حكمه في الحدوث حكمها ، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها في جميع الجهات أو في بعضها; فلو أشبهها في جميع الجهات ، كان محدثاً مثلها من جميع الجهات ، وإن أشبهها في بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها ، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديماً و قد قال الله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء . (1)
    وقال تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفواً أَحَد (2). (3)
    ويلاحظ على هذا الدليل : أنّ صلب البرهان عبارة عن كون المشابهة من جميع الجهات أو بعضها يلازم كونه محدثاً ، وهذه الملازمة في مجال المشابهة في جميع الجهات أمر صحيح لا غبار عليه.
    ولكن المشابهة في بعض الجهات مع التحفّظ على قدمه سبحانه لا تستلزم حدوثه.
    فلو قالت المشبهة : بأنّ الله قديم ولكن له يد وجارحة مثل يد الإنسان وجوارحه ، فالمشابهة من بعض الجهات مع حفظ القدم لا ينتج كونه محدثاً.
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ الأخلاص : 4.
3 ـ اللمع : 20.


(69)
    والحاصل أنّ المشابهة من بعض الجهات ـ مع القول بكونه قديماً ـ لا يستلزم الحدوث.
    نعم لو اعتمد الشيخ على أنّ المشابهة للمخلوق في أيّة جهة من الجهات ، لا تنفك عن الحاجة ، والحاجة آية الإمكان صحّ الاستدلال ، لأنّ الممكن لا يكون واجب الوجود ، وما ليس بواجب فهو حادث ذاتاً أو زماناً ، و الكلّ محتاج إلى علة واجبة.
    وفي مورد المثال : لو كان لذاته مكان كسائر الأجسام لكان لها حيز ، فتكون محتاجة إلى الحيز ، الحاجة لا تجتمع مع وجوب الوجود وتتناسب مع الإمكان ، والموصوف به إمّا حادث ذاتي أو حادث زماني ، فالأشياء الممكنة المجردة ، لها الحدوث الذاتي ، والأشياء الممكنة الواقعة في إطار الزمان ، لها الحدوث الزماني.
    وباختصار : إنّ الاكتفاء بكون المشابهة مستلزمة للحدوث ، لا يوجب كون البرهان منتجاً ، وإنّما ينتج البرهان إذا كانت المشابهة منجرة إلى الحاجة المضادة لوجوب الوجود حتى ينتهي الأمر إلى إمكانه وحدوثه.


(70)
(3)
استدلاله على وحدانية الصانع

    استدلّ الشيخ الأشعري على وحدانية الصانع ببرهان التمانع ، وقال : إنّ الصانعَيْن المفترضين لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتّسق على أحكام ، ولابدّ أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما ، لأنّ أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً ، وأراد الآخر أن يميته ، لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً ، أو لا يتم مرادهما ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً ، لأنّه يستحيل أن يكون الجسم حياً وميتاً في حال واحدة.
    وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً.
    وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما ، والعاجز لا يكون إلهاً وقديماً ، فدلّ ما قلناه على أنّ صانع الأشياء واحد ، وقد قال الله تعالى : لَوْكانَ فِيهِما آلِهةٌ إِلاّالله لَفَسدَتا (1). (2)
    يلاحظ على ما أفاده :
    أوّلا : أنّ ما ذكره هو برهان التمانع الوارد في الكتب الكلامية ، ولكنّه لم يستقص جميع شقوقه ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الإلهين بما أنّهما عالمان ـ بما لا
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ اللمع : 20 ـ 21.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس