الملل والنحل جلد الثاني ::: 71 ـ 80
(71)
    نهاية لعلمهما ـ واقفان على المصالح والمفاسد ، وما يصحّ فعله ممّا لا يصحّ ، فيتّفقان على ما فيه المصلحة والحكمة.
    ومن المعلوم أنّه ليس إلاّ أمراً واحداً ، فحينئذ تتحد إرادتهما على إيجاد ما اتّفقا عليه ، فإنّ الاختلاف في الإرادة إمّا ناشئ من حبّ الذات ، فيقدّم ما فيه المنفعة الشخصية على غيره ، أو ناشئ من الجهل بالمصالح والمفاسد ، وكلا العاملين منفيان عن ساحة الإلهين المفروضين.
    ولأجل استيعاب جميع الشقوق تجب الإجابة عن هذا الشق أيضاً.
    وموجز الإجابة ( والتفصيل يطلب من الأسفار الكلامية ) أنّ تعدد الصانع في الخارج يدلّ على وجود تباين واختلاف بينهما في أمر من الأُمور ، فهما إمّا متباينان في جميع الذات ، ( كما هو الحال في الأجناس العالية ، فإنّ الجوهر يباين العرض بتمام الذات ) أو في بعضها كتباين نوع من نوع آخر ( مثل الإنسان بالنسبة إلى الفرس ) أو في الشخصيات والتعينات.
    وعلى كلّ تقدير يجب أن يكون هناك نوع من التباين والاختلاف ولو من جهة واحدة ، وفي مرحلة من مراحل الوجود; وإلاّ فلو تساويا من جميع الجهات ، لارتفع التعدد وصار المفروضان إلهاً واحداً وهو خلف.
    وعلى فرض وجود اختلاف بين الإلهين ، يجب أن يختلف شعورهما وإدراكهما ولو في مورد أو موردين ، إذ لا معنى لأن يتحد تشخيصهما وإدراكهما وعلمهما مع الاختلاف في الذات أو التعيّنات.
    وعندئذ ، لا يمكن أن نقول إنّهما يتفقان في جميع الموارد على شيء واحد وهو مقتضى الحكمة والمصلحة ، لأنّ المفروض أنّ كلّواحد يرى فعله موافقاً للحكمة والمصلحة ، ولا دليل على انحصار المصلحة والحكمة في جهة واحدة ، بل من الممكن أن يكون كلا الفعلين مقرونين بالصلاح ولكلّ منهما فلاح.
    هذا هو التقرير الصحيح للبرهان.
    وثانياً : أنّ قوله سبحانه : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله ليس ناظراً إلى


(72)
    وحدة الصانع والخالق ، بل الآية تركّز على وحدة التدبير في العالم ، وأنّ مدبّر العالم إله واحد لا غير. والبرهان القرآني على وحدة التدبير جاء ضمن آيتين تتكفّل كلّ واحدة منهما ببيان بعض شقوق البرهان. وإليك الآيتان مع توضيح البرهان :
    1. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ الله رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ. (1)
    2. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ (2) توضيح البرهان بجميع شقوقه
    إنّ تصوير تعدّد المدبّر للعالم يفترض على صور :
    1. أن يتفرد كلّ واحد من الآلهة المفترضة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّواحد ما يريده في الكون دون منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير لأنّ المدبّر متعدد ومختلف في الذات ، ونتيجة تعدّد التدبير طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود ، وإليه يشير قوله سبحانه : لَو كانَ فِيهِما آلهة إِلاّ الله لَفَسدتا ... .
    2. أن يدبر كلّ واحد قسماً من الكون الذي خلقه ، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به; وهذا الفرض يستلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون ، والحال أنّا نرى في الكون نوعاً واحداً من النظام شاملاً لكلّ جوانب الكون من الذرة إلى المجرة ، وإلى هذا القسم من البرهان يشير قوله سبحانه في الآية الأُخرىإِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ .
    3. أن يتفوّق أحد الآلهة المفترضة على البقية فيوحّد جهودهم وأعمالهم ،
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ الأنبياء : 91.


(73)
    ويصبغها بصبغة الانسجام والاتحاد ، وعندئذيكون ذلك الإله المتفوّق ، هو الإله الحقيقي دون البقية ، وإلى هذا الشق يشير قوله سبحانه : وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض.
    وباختصار ، أنّ ما ذكره الأشعري من البرهان على وحدانية الصانع ، غير مستوعب لجميع الشقوق ، وإنّ الآية التي استشهد بها ليست راجعة إلى وحدانية الصانع ، بل راجعة إلى وحدانية المدبّر.
    والفرق بين التوحيد في الخالقية والتوحيد في المدبّرية غير خفي على العارف بالمسائل الكلامية.


(74)
(4)
إعادة الخلق المعدوم جائز

    استدلّ الشيخ الأشعري على جواز إعادة الخلق المعدوم بالبيان التالي :
    إنّ الله سبحانه خلقه أوّلاً ، لا على مثال سبقه ، فإذا خلقه أوّلاً لم يعيه أن يخلقه خلقاً آخر.
    ثمّ استشهد بالآيات الواردة حول إمكان المعاد ، التي منها قوله سبحانه : وَضَرَبَ لَنا مَثلاً وَنَسيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيي العِظام وَهَي رَميمٌ* قُلْ يُحييها الّذي أَنْشَأها أوّل مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليمٌ . (1)
    يلاحظ على ما ذكره : أنّ هنا مسألتين يجب فصل كلّ منهما عن الأُخرى :
    الأُولى : إعادة الخلق الأوّل بعد فنائه بتلاشيه وتفرّق أجزائه ، وهذا ما أخبرت عنه الشرائع السماوية ، واستدلّ القرآن على إمكانه بطرق متعددة نشير إليها عن قريب ، ومثل هذا ليس إعادة للخلق الأوّل بعد انعدامه من جميع الجهات ، بل هو إحياء للمواد المبعثرة من الإنسان بإعادة الروح إليها. والحاكم بأنّ الإنسان المعاد هو الإنسان المبتدأ ، هو وحدة الروح المجردة المتعلّقة في كلّ زمن ببدن خاص ، والروح لا تفنى بفناء المادة ، ولا تنفك أجزاؤها.
1 ـ يس : 78 ـ 79.

(75)
    وقد استدلّ القرآن على إمكان هذا النوع من الإعادة بطرق مختلفة نأتي بأُصولها :
    1. الاستدلال بعموم القدرة ، مثل قوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِر عَلى أَنْ يُحْييَ الْمَوتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ . (1)
    2. قياس الإعادة على الابتداء ، كما في قوله سبحانه : كَما بَدَأنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ . (2)
    3. الاستدلال على إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض بالمطر والنبات ، كما في قوله سبحانه : وَيُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ . (3)
    4. الاستدلال بالوقوع على الإمكان ، فإنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل ( البقرة : 67 ـ 73 ) وحديث عزير ( البقرة : 259 ).
    5. الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنة وزيدت عليها تسع ، فإنّ النوم أخو الموت ، ولا سيّما الطويل منه. والقيام من هذا النوم يشبه تجدّد الحياة وتطوّرها.
    6. قياس قدرة الإعادة على قدرة إخراج النار من الشجر الأخضر ، كما في قوله سبحانه : قُلْ يُحْيِيها الَّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليم*الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِالأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون . (4)
    هذه هي البراهين المشرقة التي اعتمد عليها القرآن فيما يتبنّاه من إمكان المعاد ووقوعه ، وهذه المسألة لا تمتّ إلى المسألة التالية بصلة.
    الثانية : إعادة المعدوم من جميع الجهات ، بعينه لا بمثله ، وهذا هو الذي
1 ـ الأحقاف : 33.
2 ـ الأنبياء : 104.
3 ـ الروم : 19.
4 ـ يس : 79 ـ 80.


(76)
    ادّعى الشيخ الرئيس ابن سينا الضرورة على امتناعه ، وأقام البراهين عليه ، ونذكر منها ما يناسب وضع كتابنا.
    إنّ إعادة الشيء المعدوم من جميع الجهات نوع إيجاد له ، والمفروض أنّ هذا الإيجاد يغاير الإبداع الذي تعلّق بإيجاده قبل أن يكون معدوماً. ومع تعدّد الإيجاد وتعدّد أعمال القدرة كيف يكون المعاد نفس المبتدأ من جميع الجهات. نعم ، يكون المعاد مثل المبتدأ لا عينه ، ولأجل الإيضاح نأتي بمثال :
    إذا قام الإنسان بخلق صورة الفرس بالشمعة اللينة ، ثمّ محا الصورة التي أوجدها وأعادها ثانياً ، فلا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ الصورة الثانية عين الأُولى ، لأنّ الأُولى تعلّقت بها قدرة وأوجدت بإيجاد خاص ، والثانية تعلّقت بها قدرة أُخرى في زمان آخر ، وأُوجدت بإيجاد ثان ، والقدرتان مختلفتان ، والإيجادان متعدّدان ، فكيف يكون الموجدان واحداً بل لا مناص على القول باختلافهما. فإذا لم يصحّ إعادة المعدوم في المثال المذكور ( الذي كانت المادة فيه محفوظة والصورة فقط منعدمة ) فكيف يصحّ فيما كانت الصورة والمادة معدومتين غر باقيتين؟
    هذا هو الفرق البارز بين المسألتين ، ولم يشر الشيخ الأشعري إلى الفرق بينهما.


(77)
(5)
الله سبحانه ليس بجسم

    لقد أكّد الشيخ الأشعري على تنزيه الله سبحانه عن الجسم والجسمانيات في كتاب « اللمع » بشكل واضح ، وبذلك امتاز منهجه عن منهج كثير من أهل الحديث الذين لا يتورّعون عن إسناد أُمور إليه سبحانه تلازم تجسيمه وكونه ذا جهة. وقد أوضحنا حال هذه الطائفة عند البحث عن عقائد أهل الحديث والحنابلة في الجزء الأوّل.
    وأمّا البرهان الذي اعتمد عليه الشيخ فيرسمه في العبارة التالية :
    فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً؟
    قيل له : أنكرنا ذلك لأنّه لا يخلو أن يكون القائل بذلك أراد أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً ، أو يكون أراد تسميته جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً عميقاً ، فإن أراد الأوّل فهذا لا يجوز ، لأنّ المجتمع لا يكون شيئاً واحداً ، لأنّ أقلّ قليل الاجتماع لا يكون إلاّمن شيئين ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً. وقد بيّنا آنفاً أنّ الله عزّوجلّ شيء واحد ، فبطل أن يكون مجتمعاً. وإن أردتم الثاني فالأسماء ليست إلينا ، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى باسم لم يسمِّ به نفسه ، ولا سمّاه به رسوله ، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ توحيده سبحانه على مراتب نذكر منها ماله صلة بالمقام :
1 ـ اللمع : 24.

(78)
    1.توحيده سبحانه بمعنى أنّه واحد لا نظير له ولا مثيل. وهذا ما يعنى من قوله سبحانه : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد (1) ، وقوله سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) (2) ، وهذا القسم منالتوحيد يهدف إلى أنّ واجب الوجوب بالذات واحد لا يتثنى ولا يتكرر ، ليس له نظير ولا مثيل.
    2. توحيده سبحانه بمعنى بساطة ذاته وتنزهه عن أنواع التركيب والكثرة في مقام الذات. ولعل « الأحدية » التي يخبر عنها القرآن في الآيات الكريمة ، عبارة عن هذا النوع من التوحيد ، وهو بساطة الذات والتنزّه عن التركيب والكثرة. قال سبحانه : قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ . (3)
    وفي ضوء هذين التوحيدين نخرج بالنتيجتين التاليتين :
    أ. الله سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل.
    ب. الله سبحانه أحد ، بسيط ، لا جزء لذاته ولا تركيب.
    وهناك قسم ثالث من التوحيد ، وهو التوحيد في الخالقية ، وأنّه ليس في صفحة الوجود خالق إلاّ هو ، وخالقية الفواعل الأُخر بالاعتماد عليه والاستمداد من خالقيته سبحانه.
    إذا عرفت ذلك ، تعرف الخلط في كلام الشيخ الأشعري بوضوح ، لأنّ ما تقدّم منه في البحث السابق هو وحدة صانع العالم ، ولكن ما هو مقدمة برهانه هنا بساطة ذاته وعدم تركبه من شيء ، ولم يسبق ذلك في البحث السابق حتى يعتمد عليه في إثبات ما يتبنّاه من : « أنّه سبحانه ليس جسماً ، لأنّ الجسمانية تستلزم كون الشيء عريضاً طويلاً مجتمعاً عميقاً. وهو يلازم الكثرة ، والكثرة لا تجتمع مع الوحدة ».
    وعلى ذلك فلا يتم برهان الشيخ إلاّإذا برهن على بساطة الذات ووحدتها
1 ـ الاخلاص : 4.
2 ـ الشورى : 11.
3 ـ الاخلاص : 1.


(79)
    وعدم تكثّرها عقلاً ولا خارجاً ، وإلاّ لا يكون برهانه موضوعياً معتمداً على شيء أثبته من قبل.
    نعم ، في وسع الشيخ أن يبرهن على البساطة بأنّ الكثرة الخارجية أو الذهنية تستلزم احتياج الواجب إلى أجزائه ، والمحتاج لا يكون واجباً ، بل ممكناً.


(80)
(6)
صفاته الذاتية

    اتّفق الإلهيون على أنّه سبحانه : عالم ، قادر ، حي ، سميع ، بصير ، وهذه هي الصفات الذاتية حسب مصطلح المتكلّمين ، والصفات الثبوتية الكمالية حسب مصطلح متكلّمي الإمامية. وهي في مقابل صفات الفعل ، أعني : ما ينتزع لا من مقام الذات بل من مقام الفعل ككونه رازقاً ، محيياً ، مميتاً وغيرها. وإليك نصوص استدلاله في تلك المجالات :
أ. الله سبحانه عالم
    استدلّ الأشعري على كونه سبحانه عالماً : بأنّ الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة إلاّ من عالم. وذلك أنّه لا يجوز أن يحوك الديباج بالتصاوير ويصنع دقائق الصنعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه. (1)
    ما ذكره من البرهان قد ذكره قبله غيره ببيان رائق وتعبير بديع ، فإنّ إتقان الفعل واستحكامه آية علم الفاعل بشؤون الفعل و ما يقوّمه وما يفنيه.
ب. الله سبحانه حيّ قادر
    استدلّ على هذا بأنّه لا تجوز الصنائع إلاّمن حيّ قادر ، لأنّه لو جاز
1 ـ اللمع : 24.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس