الملل والنحل جلد الثاني ::: 91 ـ 100
(91)
    إنّما يقول بها وجوداً لا مفهوماً ، إذ لا شكّ أنّ المفهوم من « الله » غير المفهوم من « العلم » و « القدرة » ومشتقاتهما.
    وعلى ذلك فبما أنّ العلم غيره سبحانه مفهوماً ، ولكن عينه مصداقاً ، لا يصحّ التعبير عن مقام العينية ب ـ « يا علم الله » بل يجب أن يقول : يا الله ، فالتعبير بصورة الإضافة « إضافة العلم إلى الله » دليل على أنّ الداعي يسير في عالم المفاهيم ، لا في عالم العين والخارج ، وإلاّ كان عليه أن يقول : يا الله.

استدلاله على المغايرة
    وممّا يدلّ على أنّ الله عالم بعلم ، أنّه سبحانه لا يخلو عن أحد صورتين : 1. أن يكون عالماً بنفسه ، 2. أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.
    1. فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً ، ويستحيل أن يكون العلم عالماً أو العالم علماً ، ومن المعلوم أنّ الله عالم; ومن قال : إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن يقول : إنّه عالم; فإذا بطل هذا الشقّ تعين الشقّ الثاني ، وهو أنّه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه. (1)
    لبّ البرهان هو : أنّ واقعية الصفة هي البينونة فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ، ينتزع من اتّصاف الأُولى بالثاني عنوان العالم والقادر ، فالعالم : من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذاته نفسهما ، فيجب أن يفترض ذات غير الوصف.
    يلاحظ عليه : أنّ القائل بالوحدة لا يقول بالوحدة المفهومية ، أي أنّ ما يفهم من لفظ « الجلالة » فهو نفس ما يفهم من لفظ « العالم » فإنّ ذلك باطل بالبداهة ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته ، وأنّوجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين ، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج مغايراً لمصداق العلم ، وأنّ ساحة الحقّ منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات ، بل لوجود البحث البسيط نعوت وأوصاف ، كلّها موجودة
1 ـ اللمع : 30.

(92)
    بوجود واحد ، فتلكالصفات الإلهية متكثّرة بالمعنى والمفهوم ، واحدة بالهوية والوجود.
    ولا يعني أصحاب نظرية الوحدة تعطيل الذات عن الصفات وخلوّها عن واقعيتها ، كما عليه القائل بالنيابة ، بل يعنون أنّ وجوداً اوحداً بوحدته وبساطته ، من دون تكثّر فيه ، هو نفس العلم والقدرة وسائر الكمالات ، وربّ وجود يكون من الكمال على حدّ يكون نفس الكشف والعلم ، ونفس القدرة والاستطاعة ، وهو في الكمال آكد من الوجود الذي يكون العلم والقدرة زائدين عليه.
    أضف إلى ذلك : أنّ الشيخ الأشعري لم يتأمّل في مقالة القائل بالوحدة ، ولأجله رمى القائل بها بأنّه لا يصحّ له إجراء الصفات على الله ، وليس له أن يقول : إنّه عالم. فإنّ الفرق بين القول بالعينية والزيادة ، كالفرق بين قولنا : زيد عدل وزيد عادل ، فالأُولى من القضيتين آكد في إثبات المبدأ من الآخر ، والقول بالعينية آكد من القول بالزيادة ، فلو استحقّ الإنسان الواقف على ذاته وماوراءها بعلم زائد ، أن يوصف بكونه عالماً ، كان الموجود الواقف على الذات والأشياء بعلم هو نفسه وذاته ، أولى بالاستحقاق بالتوصيف.
    وقد اغترّ الشيخ بظاهر لفظ « عالم » و« قادر » حيث إنّ المتبادر منه هو كون الذات شيئاً والوصف شيئاً آخر. فحكم بإجرائه عليه سبحانه بهذا النمط بلا تغيير ولا تحوير. ومعنى هذا هو أنّ المعارف العليا تقتنص من ظواهر الألفاظ وإن كانت الأدلّة العقلية الواضحة تخالفها وتردّها ، فإنّ الألفاظ العامة عاجزة عن تفسير ما هناك من المعارف والمعاني.

مضاعفات القول بالزيادة
    إذا كان في القول بعينية الصفات مع الذات نوع مخالفة لظاهر صيغة الفاعل ـ أعني : العالم والقادر ـ الظاهرة في الزيادة ، كان في القول بالزيادة مضاعفات كبيرة لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :
    1. تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. وربما يتمحّل في رفعه بأنّ


(93)
    المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غير ذاته ، ولكنّه كلام صوري ينتهي عند الدقة إلى ارتفاع النقيضين.
    والعجب أنّ الأشعري في موضع من كتابه « اللمع » ينفي غيرية الصفات للذات حتى لا يلزمه القول بتعدّد القدماء. لكنّه يفسر الغيرية بالصفات المفارقة ، ويقول : إنّ معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه ، فلمّا دلّت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه وقدرته ، استحال أن يكونا غيرين.
    وغير خفي على القارئ النبيه أنّ الزيادة المستلزمة لتعدّد القدماء كما تتحقّق في مفارقة الصفات كذلك تتحقّق في ملازمتها ، فالقول بعدم الوحدة يستلزم تعدّد القدماء ، وإن كانت الصفات لازمة.
    إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات قديمة مثله ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحد متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري. قال القاضي عبد الجبار :
    وعند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلي : القديم; إلاّ أنّه لماّ رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين. (1)
    2. إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى الغير. وهذا بخلاف القول بالزيادة ، إذ عليه : يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته. وكون هذه الصفات أزلية لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته ، مع أنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء.
    وأمّا الاستدلال على الزيادة بظواهر بعض الآيات ، كقوله سبحانه :
1 ـ الأُصول الخمسة : 183. وقد تقدّم ملخّصاً فلاحظ.

(94)
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ (1) ، وقوله سبحانه : وَماتَحْمِلُ منْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ ) (2)فضعيف جدّاً ، إذ لا دلالة لهما على الزيادة ولا على العينية ، وإنّما تدلّ على أنّ له سبحانه علماً.
    وأمّا الكيفية فتطلب من مجال آخر.
    وفي الختام نقول : إنّ « الصفاتية » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالأوصاف الزائدة. كما أنّ المعطّلة هم نفاتها ، حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.
    وقد عرفت الحقّ ، وليس في القول بالوحدة ( لا القول بالنيابة ) أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.
    وعلى أيّ تقدير ، فقد صارت زيادة الصفات مذهباً لأهل السنّة قاطبة ، وصدر في بغداد كتاب سمي « الاعتقاد القادري »و ذلك في 17 محرم سنة 409هـ و قرئ في الدواوين وكتب الفقهاء فيه : « إنّ هذا اعتقاد المسلمين ، ومن خالفهم فقد فسق وكفر » جاء في الكتاب : « وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، متكلم بكلام ، لا يوصف إلاّ بما وصفه به نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكلّ صفة وصف بها نفسه ، أووصفه بها رسول فهي صفة حقيقية لا مجازية ، وإنّ كلام الله غير مخلوق ، تكلّم به تكليماً فهو غير مخلوق بكلّ حال متلوّاً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً ، ومن قال : إنّه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر ، حلال الدم بعد الاستتابة منه ». (3)
    وربما تطلق« الصفاتية » على من يصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية ( مع التشبيه أو مع التنزيه ) في مقابل التفويض أو التأويل ، وهذا هو الذي نبحث عنه في البحث التالي.
1 ـ النساء : 166.
2 ـ فاطر : 11.
3 ـ المنتظم : 195 ـ 196; البداية والنهاية : 12/6 ـ 7 هامش تاريخ ابن الأثير : 7/299 ـ 302 .



(95)
(9)
رأيه في الصفات الخبرية

    قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتية وصفات خبرية.
    فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ، وكلّ ما يطلق عليه الصفات الكمالية « صفات ذاتية » ، و ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث ، كالعلو والوجه واليدين والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين « صفات خبرية » وقد اختلفت كلمات المتكلّمين في توصيفه سبحانه بالأخير على أقوال هي :

أ. الإثبات مع التشبيه والتكليف
    وهو إجراؤها على الله سبحانه بنفس المعاني المرتكزة في أذهان الناس من دون أي تصرّف فيها ، وهو قول المشبهة ، فقد زعموا أنّ لله سبحانه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان.
    قال الشهرستاني : أمّا مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض.
    وحكى الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا ، وأنّهم يزورونه ويزورهم.
    وحكى عن داود الجواربي أنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. و قال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح


(96)
    وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأُذنين ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء ، وحكى عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك ، وأنّ له فروة سوداء ، وله شعر قطط!!
    وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء ، والوجه واليدين والجنب ، والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : « خلق آدم على صورة الرحمن » وقوله : « حتى يضع الجبار قدمه في النار » وقوله : « قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن » وقوله : « خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً » وقوله : « وضع يده أوكفّه على كتفي » ، وقوله : « حتى وجدت برد أنامله على كتفي » إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاةوالسلام ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنّ التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه ( الله ) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته كأطيط الرحل الحديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبّهة عن النبي عليه الصلاة والسلام « لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ». (1)
    هذه عقيدة المشبّهة والمجسّمة في الصفات الخبرية ، وإليك دراسة سائر المذاهب.

ب : الإثبات بلا تشبيه ولا تكليف
    إنّ الشيخ الأشعري يجريها على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن مع التنزيه عن التشبيه والتجنّب عن التكييف ، قال في الإبانة :
1 ـ الملل والنحل : 1/105 ـ 106.

(97)
    وانّ الله استوى على عرشه » كما قال : الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتوى. (1)
    وأنّ له وجهاً بلا كيف كما قال : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ. (2)
    وأنّ له يدين بلا كيف كما قال : خَلَقْتُ بِيَدَي (3) ، وكما قال : بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. (4)
    وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال : تَجري بِأَعْيُنِنا (5). (6)
    وقال في الباب السابع من هذا الكتاب : إن قال : ما تقولون في الاستواء؟ قيل له : نقول : إنّ الله عزّوجلّ يستوي على عرشه كما قال : يليق به من غير طول الاستقرار كما قال : الرّحمن على العَرْشِ اسْتَوى .
    ثمّ قال بعد عرض عدّة من الآيات : كلّ ذلك يدلّ على أنّه ليس في خلقه ، ولا خلقه فيه ، وأنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استواء. (7)
    وقال في الباب الثامن : قال الله تبارك و تعالى : كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (8) و قال عزّوجلّ : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ9 ـ ، فأخبر أنّ له وجهاً لا يفنى ولا يلحقه الهلاك ، وقال عزّوجلّ : تَجري بِأَعْيُنِنا . وقال : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، فأخبر عزّ وجلّ أنّ له وجهاً وعيناً ولا يكيف ولا يحد. (10)
    وعلى ذلك فالأشعري من أهل الإثبات كالمشبّهة والمجسّمة ، لا من أهل التفويض ولا من أهل التأويل ، وسيوافيك بيانهما. والفرق بين المشبّهة وما
1 ـ طه : 5.
2 ـ الرحمن : 27.
3 ـ ص : 75.
4 ـ المائدة : 64.
5 ـ القمر : 14.
6 ـ الإبانة : 18.
7 ـ الإبانة : 92.
8 ـ القصص : 88.
9 ـ الرحمن : 27.
10 ـ الإبانة : 95.


(98)
    ذهب إليه الأشعري ، هو أنّ الطائفة الأُولى تجريها على الله سبحانه بحرفيّتها من دون أي تصرف فيها ، ولكن الأشعري ومن لفّ لفّه يثبتونهاعلى الله بنفس معانيها لكن متقيدة باللاّ كيفية واللاّ تشبيه ، حتى يخرجوا من التجسيم والتشبيه وينسلكوا في أهل التنزيه. وليس هذا المعنى مختصاً به ، بل هناك من يوافقه من المتقدمين والمتأخرين ، يطلق عليهم أهل الإثبات أو المثبتة ، في مقابل المفوِّضة والمؤوِّلة والنفاة بتاتاً ، وإليك نقل ما أُثر عن غيره في هذا المجال ممّا يوافقه :
    قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.
    وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فإنّه يعذر بالجهل; ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه ، فقال ب ـ ليس كمثله شيء .
    وقال ابن كثير : وأمّا قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ، وإنّما نسلك مذهب السلف الصالح : مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله ، فإنّ الله لا يشبهه شيء من خلقه ، وليس كمثله شيء. (1)

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد
    يجب على كلّ مؤمن الإيمان بما وصف الله به نفسه ، وليس أحد أعرف به منه أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله كما أنّه ليس لأحد أن يصرف كلامه سبحانه ، عمّا
1 ـ راجع فيما نقلناه عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير« علاقة الإثبات والتفويض » : 46 ـ 49.

(99)
    هو المتبادر من ظاهره ، إذ التأويل بلا اعتماد على نصّ قطعي يفقد النصوص هيبتها ، وإنّ المؤوّلة الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب والسنّة ـ بحجّة أنّ ظواهرهما لا توافق العقل ـ مردودون في منطق الشرع ، إذ لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة ما ظاهره خلاف العقل ، وإنّما يتصورّونه ظاهراً ثمّ يحملونه على خلافه ، ليس مفاد الآية والمتبادر منها عند التدبّر.
    هذا كلّه ممّا لا خلاف بين جمهور المسلمين فيه ، ولكن الذي يجب إلفات النظر إليه ، هو أنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة تتّسم بالدقة والرصانة والسلامة من التعقيد و الألغاز ، وهي تبدو جليَّة مطابقة للفطرة والعقل السليم للجماهير على كافة المستويات ، وتتصف بالصفاء والنقاء. فهذه سمة العقيدة الإسلامية ، وعلى ذلك فإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثورين من اليهودية والنصرانية ، أو بصورة التعقيد والألغاز ، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي ، فلا محيص لمن يعرض العقائد الإسلامية عن رعاية أمرين :
    1. التحرّز عن سمة التشبيه والتجسيم.
    2. الاجتناب عن الجمود على اللفظ وجعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء ، أو معاني معقّدة لا يفهم منها شيء ، بحجّة أنّ البحث عن الكيف ممنوع.
    إنّ إثبات الصفات له سبحانه لو انتهى إلى التكييف والتشبيه فهو كفر و زندقة ، لقوله سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ولا ينفع الفرار عنه بكلمة مبهمة ، أعني « الإمرار بلا كيف » كما هو المشاهد في كلمات أغلب المثبتين للصفات ، إذ هو أشبه بالإنكار بعد الإقرار ، ولا إنكار بعده.
    فالإصرار على الإثبات تبعاً للنصوص ، والتهجّم على النفاة ، والذهاب في هذا السبيل إلى حدّ التجسيم ، غواية وضلالة; والاعتماد في ذلك على كلمات السلف اعتمادعلى قول من ليس بمعصوم ولا حجّة ، والعقائد تعرض على القرآن والسنّة الصحيحة والعقل السليم الذي به عرف الله وثبت وجوده ، لا على قول السلف الذين لم يخلوا من طالح ، فحشد عبارات بعض السلف في مجال العقائد لا ينفع شيئاً.


(100)
    كما أنّ إثبات صفاته سبحانه ، على نحو ينتهي إلى اللغز والتعقيد ويتّسم بعدم المفهومية ، مردود بنص القرآن الكريم حيث ندب إلى التدبّر فيما أنزل إلى نبيّه ، قال عزّ من قائل : أَفَلا يَتَدَّبرون القُرآن (1). وقال سبحانه : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ . (2)
    ولكن مع الأسف إنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه بين الأشاعرة وغيرهم لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض إذا احترزوا عن البحث والتفصيل ، والكلّ مردود ، مرفوض.
    وهانحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل « نفاة الصفات » أفضى بالقوم إمّا إلى حدّ التشبيه ، أو إلى حدّ التعقيد. فمن كلمات الطائفة الأُولى :
    1. قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (3)
    2. وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بماوردت به السنّة من صفاته. (4)
    3. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه« الرد على الجهمية » : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (5)
    4. وقال المقدسي في كتابه« أقاويل الثقات في الصفات » : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية
1 ـ النساء : 82.
2 ـ ص : 29.
3 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
4 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
5 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس