الملل والنحل جلد الثاني ::: 101 ـ 110
(101)
    واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها و قال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (1)
    5. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية الأعرافثمّ استوى على العرش :
    وقد كان السلف الأوّل ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (2)
    إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.
    وتصحيح ذلك بالجهل بالكيفية لا يفيد شيئاً ، فإنّ تلك اللفظة المجملة شيء تلتجئ إليه كلّ من المشبّهة والمجسمة ، ويقولون إنّ لله سبحانه جسماً لا كسائر الأجسام ، ولحماً لا كاللحوم ، ودماً لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات; وإنّمااستحيوا عن إثبات الفرج واللحية ، وإذ قال قائلهم : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. (3)
    ليت شعري إذا كانت تلك اللفظة المبهمة مفيدة في مجال التوحيد والتنزيه والتجنب عن التشبيه فليقولوا : إنّ الله جسم لا كالأجسام ، عرض لا كسائر
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 115.
2 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 115.
3 ـ الملل والنحل : 1/15.


(102)
    الأعراض ، آكل وشارب لا كالإنسان والحيوان ، فلماذا يستحيون عن حشد هذه الأوصاف مع انّها تفيدهم في التنزيه ، « البلكفة » وتكرار بلا كيف ولا تشبيه بعد كلّ صفة خبرية.
    وبعد هذا لا تتعجب ممّا ذكره الزمخشري في كشّافه عن هؤلاء القوم حيث يقول : ثمّ تعجب من المتسمّين بالإسلام ، المتسمّين بأهل السنّة والجماعة ، كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهباً ، ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة ( أي قولهم بلا كيف ) فإنّه من منصوبات أشياخهم ، والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
    ق ـ ـ د شبّهـ وه بخلق ـ ه وتخ ـ وّف ـ وا شنع الورى فتستّروا بالبلكفة (1)
    ثمّ إنّنا نرى أنّ هؤلاء مع تحرّزهم عن تأويل الآيات يؤوّلون الآيات التي لا تناسب التجسيم بل تضاده ، فما هو الهدف من هذا التأويل مع كونه على خلاف منهجهم ، وإليك الآيات التي يصر القوم على تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها ، وما ذلك إلاّ بأنّ الأخذ بظاهرها لا يجتمع مع جلوسه سبحانه على العرش ، وكونه في تلك الجهة ، و كونه جسماً متحيزاً في مكان خاص.
    1. قوله سبحانه : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . (2)
    2. قوله سبحانه : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كانُوا. (3)
    3. قوله سبحانه : وَهُوَ الَّذي في السّماء إِلهٌ وَفي الأَرْضِ إِلهٌ . (4)
    فلو لم يكن هدف القوم من الجمود على الظواهر هو التجسيم والجهة فما هو الداعي إلى تأويل هذه الآيات بأنّ المراد منها هو إحاطة علمه سبحانه بالناس ، لا إحاطة ذاته ووجوده ، أليس ذلك يدلّ على أنّ القوم يبطنون
1 ـ الكشاف : 1/576.
2 ـ الحديد : 4.
3 ـ المجادلة : 7.
4 ـ الزخرف : 84.


(103)
    العقيدة بجلوسه سبحانه في السماء على عرشه حقيقة ، ولما شاهدوا أنّ ذلك لا يجتمع مع إحاطة وجوده لجميع العوالم الإمكانية ، خرجوا عن منهجهم بتأويل هذه الآيات بحمل الإحاطة على الإحاطة العلمية لا الوجودية ، والعجب أنّهم من يقول بوجوده سبحانه في كلّ مكان بالقول بالطول والنفوذ في الأجسام ، وهم لا يفرّقون بين الإحاطة الجسمية المادية ولا الإحاطة القيّومية ، والآية ناظرة إلى الثانية لا الأُولى.
    هذا حال الطائفة الأُولى ، وأمّاالطائفة الأُخرى التي أفضى بهم القول بالإثبات إلى مهزلة الغموض والتعقيد ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :
    1. قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (1)
    2. قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (2)
    3. قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف وَرَدَ بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : ليس كمثله شيء . (3)
    4. قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف ـ رضي الله عنهم ـ متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. (4)
    5. يقول ابن تيمية ـ مثير هذه النظرية بعد متروكيتها ـ « إنّ لله يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 44.
2 ـ نفس المصدر : 58.
3 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 59.
4 ـ نفس المصدر : 59.


(104)
    الملائكة وإبليس ، وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى. (1)
    6. يقول الخطابي : وليس اليد عندنا الجارحة ، وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف ، فنحن نطلقهاعلى ما جاء ولا نكيّفها. (2)
    7. يقول الإلكائي : إنّ وكيعاً قال : إذا سُئلتم عن ضحك ربّنا فقولوا سمعنا بها. (3)
    هذه العبارة ونظائرها تصبغ صفات الله بصبغة التعقيد والإبهام ، ولا تهدي الإنسان إلى معرفة. فإنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرون منه فرار المزكوم من المسك. وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لناحتى تتّسم العقيدة بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام. وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خداعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.
    وباختصار : إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟
    إنّ ما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها
1 ـ مجموعة الفتاوى : 6/362.
2 ـ فتح الباري : 13/417.
3 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 97.


(105)
    على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامهابنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية. فاستعمالها في المعاني ، حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا ... فقولهم : « المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي »أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.
    أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه « البلكفة » أثر ولا عين ، وإنّما هو شيء اخترعته الفاكرة ، للتذرّع به في مقام الردّ على الخصم والنقص عليهم ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.
    وقد ذكرنا ما يفيد في المقام عند تحليل عقائد الحنابلة حول الصفات ، فراجع.

ج : التفويض
    إنّ هناك نظرية ثالثة حول الصفات الخبرية اختارها جمع من الأشاعرة وهي نظرية التفويض ، وحاصلها الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات التي وصف الله سبحانه نفسه بها إجمالاً ، وتفويض ما يراد منها إليه :
    1. يقول الغزالي : وأقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف هو ما يترجمه قوله ـ لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول اللهـ ثمّ إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله بأنّه حي قادر ، عالم متكلم مريد ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق ، إلاّ من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل كقدم القرآن وحدوثه ، ونفي الاستواء والنزول وغيره. (1)
    2. قال الشهرستاني : اعلَم أنّ جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله
1 ـ علاقة الإثبات : 162 نقلاً عن الرسالة الواعظية.

(106)
    تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام ... وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤوّلون ذلك ، إلاّ أنّهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية ، ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات ، والسلف يثبتون ، سمّي السلف صفاتية ، والمعتزلة معطّلة ( لتعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الصفات ) ـ إلى أن حكى عن بعض السلف ـ : عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك ، إلاّ أنّا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله سبحانه : الرّحمن على العرشِ استوى ، ومثل قوله : لما خَلَقْتُ بيدي ، ومثل قوله : وَجاءَ رَبُّك ، إلى غير ذلك ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه. (1)
    3. قال ابن الجوزي في « تلبيس إبليس » : واعلم أنّ عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا ، لأنّهم لا يخالطون الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم. (2)
    4. ويظهر ذلك من الرازي في أساس التقديس قال : إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها ، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها. (3)
    وهنا كلمات للقائلين بالتفويض يشبه بعضها بعضاً.
    إنّ التفويض هو شعار من لا يتعرض للأبحاث الخطيرة ، ولا يقتحم المعارك المدلهمة ، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لاإله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » (4) ، وعند ذاك يرى
1 ـ الملل والنحل : 1/92 ـ 93.
2 ـ تلبيس إبليس : 113 ، ط دار العلم.
3 ـ أساس التقديم : 223 كما في علاقة الإثبات : 102.
4 ـ صحيح البخاري : 1/7 ، كتاب الإيمان.


(107)
    أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي ـ عند الإفراط ـ إلى التشبيه والتجسيم المبغوض ، أو إلى التعقيد واللغز الذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.
    هذه حقيقة التفويض ، غير أنّ ابن تيمية شنّ على هذه الطائفة بما ليس في شأنهم وقال : إنّ هؤلاء المبتدعة هم الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف; من حيث ظنّوا أنّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث ، من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها ، واعتقدوا أنّهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : وَمِنهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ ) (1). (2)
    وكأنّه تأثّر بما ذكره محيي الدين ابن العربي حيث رد على أهل التفويض وقال : « قالوا نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى ، حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع به ، ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر. وهذا القول بهذا القسم متحكم أيضاً ، فإنّه ردّ على الله بأنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب. وقسم آخر قالوا : نؤمن بهذا اللفظ على حدّ علم الله فيه وعلم رسوله ، فهؤلاء قد قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً لأنّه خاطبنا بما لا نفهم ، والله يقول : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3). (4)
    غير أنّا نلفت نظر القارىء إلى أنّ ما عاب به ابن تيمية أهل التفويض مشترك بينهم و بين أهل الإثبات ، فقد عرفت أنّ إثبات الصفات الخبرية مع حفظ التنزيه تجعل الصفات ألفاظاً بلا معان واضحة ، لما سبق من أنّ الكيفية المادية هي المقوّمة لليد والوجه والرجل ، فإثبات مفاهيمها مع سلب كيفياتها أشبه شيء بإثبات شيء في عين سلبه ، فعندئذ تنقلب الآيات البينات الدالّة على
1 ـ البقرة : 78.
2 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 60.
3 ـ إبراهيم : 4.
4 ـ الفتوحات المكية : 4/928.


(108)
    أشرف المعاني وأجلّها ، لدى القوم ، إلى آيات غير مفهومة ولا معقولة.
    والعجب أنّ أحد المصرّين على الإثبات بصورة النمط الأشعري يحسبه عقيدة سلفية ، ويقول في كتابه : إنّ صفات الله يجب أن تكون لدى المسلم بديهيات ذهنية تتغلغل في قلبه ، فيتحرر من أي ضغط خارجي ، لما لها من انعكاسات تربوية هامة على النفس البشرية ـ إلى أن قال ـ : إنّ الجهل بالله أمر خطير ، وضرره على المسلمين كبير ، لأنّ ذلك يؤدي إلى أن يكون عرضة للزلاّت ، وأن يكون قلبه مورداً للشبهات ومستقراً للأوهام. (1)
    إنّ السمة التي يثبتها الكاتب لصفات الله ، هل هي موجودة في قولهم : إنّ لله يداً لا كالأيدي ، أو وجهاً لا كالوجوه ، أو أنّ هذا لا يزيد في صفاته تعالى إلاّ غموضاً وتعقيداً ، وتصبح العقيدة الإسلامية عند الواصف كالعقائد المتخذة من الكنائس التي يدّعي أصحابها أنّ الإيمان بها واجب ، وإن لم يعلم كنهها ، كما هو قولهم في التثليث ونظائره.
    قال حنبل بن إسحاق : سألت أحمد بن حنبل : ألم ترو عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا؟ قال أحمد : نؤمن بها و نصدق ولا نرد شيئاً عنها إذا كانت الأسانيد صحاحاً ـ إلى أن قال ـ : قلت : أنزوله بعلمه أو بماذا؟ قال : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد. (2)
    إنّ سؤال ابن إسحاق أوضح دليل على أنّ الإثبات على النمط الذي يتبنّاه أهل الحديث لا يجعل العقيدة الإسلامية واضحة مفهومة ، بل يجعلها مجهولة معقّدة. ولكن يجب الإيمان بها مهما كانت غير مفهومة ولا معقولة ، و لا تَنْسَ ما رمى به ابن تيمية أهل التفويض بأنّهم اعتقدوا أنّهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم ـ إلخ. ولا تنس أيضاً ما شن به ابن العربي على تلك الطائفة بقوله : إنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب ، إنّهم قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً بما لا نفهم.
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 15.
2 ـ شرح أُصول السنّة للألكائي كما في علاقة الإثبات والتفويض : 98.


(109)
    إنّ المنهجين يرتضعان من ثدي واحد ، لا فرق بينهما في المعنى واللب ، وإنّما يختلفان في التعبير ، فأهل التفويض يعترفون بجهلهم بمعاني هذه الصفات ، وللتوقي عن التورط في مغبة التشبيه أو التقوّل بغير العلم ، يفوضون معانيها إلى الله.
    وأمّا أهل الإثبات ، فلو أنّهم صدقوا في قولهم بلا تشبيه ولا تكييف ، فهم يعترفون بذلك مآلاً ، وإن كانوا يجحدون بها ابتداءً.
    وإذا أردت أن تقف على أنّ نظرية الإثبات على النمط الثاني تجعل المعاني السامية والمعارف العليا الواردة في الذكر الحكيم في عداد الألغاز والمبهمات و ... ، فانظر إلى ما يذكره عبدالقادر الجيلاني في « الغنية ».
    يقول الجيلاني : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنّه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والمماسّة ، كما قالت المجسّمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشاعرة ، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة; لأنّ الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة ، ولا نقل من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق ، وقد روي عن أُمّ سلمة زوج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في قوله سبحانه : الرّحمن على العَرْشِ استوى (1) قالت : الكيف غير معقول والاستواء غيرمجهول ، والإقرار به واجب والجحود كفر. (2)
    فعندئذ نسأل الجيلاني : إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا ذلك مراداً ، فما هو المراد من تلك الآية ، والتي تكررت في الذكر الحكيم سبع مرات؟ وهل فهم الشيخ منها أمراً معقولاً أو أوكل الجميع إلى الله سبحانه؟
    وكم للقوم من هذه الكلمات المفروغة في قوالب ، ومآلها إلى الجهل بمفاهيم الآيات ومضامين الذكر الحكيم ، وكأنّه سبحانه لم يخاطبهم بقوله :
1 ـ طه : 5.
2 ـ الغنية : 56.


(110)
أَفَلا يَتَدَبّرونَ القُرآنَ . (1)

التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير
    إنّ أهل الإثبات بعامّة فروعه يرمون المعتزلة بالتعطيل ، ويصفونهم ب ـ « المعطّلة » لتعطيلهم ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الأوصاف وجلائل النعوت ، غير أنّه يجب إلفات نظرهم إلى أنّ أهل التفويض من أهل الإثبات من المعطلة أيضاً ، لكن بملاك آخر ، وهو تعطيل العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول ، كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتابه هداية وتعليم وإرشاد ، قال تعالى : وَنَزَّلْنا عَلْيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء . (2)
    فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء ، فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه ، وكيف يكون المطلوب نفس الاعتقاد من دون فهم معناه.
    إنّ المنع عن التفكّر والتدبّر فيما نزل من الذكر الحكيم ، وما يحكم به العقل السليم محجوج بنص القرآن لا يقبل من أي إنسان ، والاستدلال عليه بقول الشاعر أخذ بنغمة الشاعر ، وترك لنص الباري :
    نهاية إقدام العقول محال وأكثر سعي العالمين ضلال
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال ـ وا (3)
    والعجب أنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة ، بحجة أنّ مبادئها ومقدّماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ، ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ، ويعد ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.
1 ـ النساء : 82.
2 ـ النحل : 89.
3 ـ منسوب إلى الرازي كما في شرح العقائد الطحاوية : 227.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس