الملل والنحل جلد الثاني ::: 111 ـ 120
(111)
    يقول : « وقد كان الأنبياء ( عليهم السَّلام ) أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتوهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيها حواسّهم ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.
    لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث آنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً. (1)
    إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية التي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة ، وكشف قوانينها وأنظمتها ، دعا إلى التعّقل والتفكّر في كلّ ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها . (2)
    وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعا إلى التدبّر فيها نظير : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء (3) ، وَلله المَثَلُ الأَعْلى (4) ، لَهُ الأَسماءُ الحُسْنى ) (5) ، المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكبّرُ ) (6) ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله (7) ، هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ
1 ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 97.
2 ـ محمد : 24.
3 ـ الشورى : 11.
4 ـ النحل : 60.
5 ـ طه : 8.
6 ـ الحشر : 23.
7 ـ البقرة : 115.


(112)
وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَليمٌ (1) ، وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم (2) ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ (3) ، يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ . (4)
    إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يصل إليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرف عليها العلوم الحسية وإن بلغ القمة.

د. التأويل
    إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها على الإطلاق في مورد الصفات الخبرية وغيرها بلا دليل وحجّة شرعية ليس بأقل خطراً من الجمود ، لو لم يكن أكثر ، إذ ينتهي ذلك القسم من التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة. (5)
    غير أنّا نخص البحث بتأويل الصفات الخبرية حيث يفسر اليد بالنعمة والقدرة ، والاستواء على العرش بالاستيلاء وإظهار القدرة.
    فنقول : إن كان التأويل لأجل أنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصريح ولذا يجب ترك النقل لأجل صريح العقل ، فلا شكّ أنّه مردود ، إذ الكتاب العزيز والسنة الصحيحة منزهان عمّا يخالف صريح العقل. ولا أظن أنّ مسلماً واعياً يتفوّه بذلك. وما ربما ينسب إلى بعض المؤولة من أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أُصول الكفر (6) ، أو أنّ التمسّك في أُصول العقائد بظواهرالكتاب والسنّة من غير بصيرة هو أصل الضلالة ، فقالوا بالتشبيه
1 ـ الحديد : 3.
2 ـ الحجر : 21.
3 ـ الحديد : 4.
4 ـ الرعد : 39 .
5 ـ قد أشبعنا الكلام في أقسام التأويل في مقدّمة الجزء الخامس من موسوعتنا القرآنية ـ مفاهيم القرآن ـ : ص 12 ـ 16.
6 ـ الصاوي على تفسير الجلالين : 3/10 ، كما في علاقة الإثبات والتفويض : 67.


(113)
    والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى : الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى (1) ، فهو من هفوات القلم و زلاّت الفكر ، بل الأخذ بظواهر الكتاب نفس الهداية والإعراض عنه واللجوء إلى غيره سبب الضلالة.
    غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكبرى الكلية ( لزوم الأخذ بالكتاب والسنّة الصحيحة ) لا نقاش لمسلم فيها; فيجب على الكلّ اتّباع الذكر الحكيم من دون أي تحوير وتحريف ، ومن دون أي تصرف وتأويل.
    إنّما الكلام في الصغرى ـ أي تشخيص الظاهر عن غيره ، وتعيين مرمى الآية ـ مثلاً : هل اليد في قوله سبحانه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (2) ظاهرة في الجارحة المخصوصة ، أو كناية عن الجود والبذل ( بسط اليد ) أوالبخل والتقتير ( غلّ اليد ). وهذا هو الذي يجب بذل الجهد في سبيل معرفته ، بدل السب والشتم ، أو التفسيق والتكفير.
    ولو أنّ قادة الطوائف الإسلامية وأصحاب الفكر منهم ، نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة وركّزوا البحث على تشخيص الظاهر عن غيره ، حسب المقاييس الصحيحة; لارتفع جدال الناس ونقاشهم حول الصفات ، الذي دام طوال مئات السنين.
    إنّ رؤساء الطوائف الإسلامية في هذه الأعصار ، لو ابتعدوا عن العصبية والحزبيةوالآراء التي ورثوها من أناس غيرمعصومين ، وأحسّوا بضرورة توحيد الكلمة ـ إثر كلمة التوحيد ـ و رصّ الصفوف وتكاتف الجهود ، لارتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.
    وبما أنّ المعتزلة هم المعنيون بالمؤولة تارة ، وبالمعطلة أُخرى ، نبحث عن هذا الموضوع ( تعيين ما هو الظاهر المتبادر عند الذكي والأعرابي الحافي من الصفات الخبرية ، الواردة في الذكر الحكيم ) في الفصل الذي نخصّصه لبيان
1 ـ شرح أُمّ البراهين : 82 كما في المصدر السابق.
2 ـ الإسراء : 29.


(114)
    عقائد هذه الطائفة ، عسى أن نتوفق لذلك بإذنه سبحانه. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ . (1)
1 ـ النساء : 66.

(115)
(10)
أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه

    قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ـ إلى أن قال ـ : كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة. (1)
    وقد ذكر في « الإبانة » في الباب الثاني : أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة ، كما قال : وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (2) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه : هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله (3). (4)
    وقال في « مقالات الإسلاميين » في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة : وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله ، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله ، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (5)
1 ـ وفيات الأعيان : 3/285; فهرست ابن النديم : 257.
2 ـ الصافات : 96.
3 ـ فاطر : 3.
4 ـ الإبانة : 20.
5 ـ مقالات الإسلاميين : 1/321.


(116)
    وقد استدلّ الشيخ بالأدلّة العقلية والنقلية فاكتفى من الأوّل بوجهين :
الدليل الأوّل
    ما ذكره في « اللمع » وحاصله :
    1.الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب; والكفر متصف بالقبح ، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.
    2. إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك ، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه ، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.
    3. كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد ، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.
    4. لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان ، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات ، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما ، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن ، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب ، وهو ليس كذلك ، فينتج : إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر ، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن ، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه. (1)
    وباختصار : إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية; والكفر قبيح باطل; ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً و متعباً ، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه ، هذا من جانب.
    ومن جانب آخر : إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب ، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير
1 ـ عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل ، وما ذكرناه في المتن ملخص مراده. راجع اللمع : 71 ـ 72.

(117)
    الحقيقة التي يتصورها المؤمن والكافر ، يستكشف أنّ الفاعل الحقيقي للإيمان والكفر ، هو الله سبحانه. إذ لو كان الفاعل هو شخص المؤمن والكافر ، وجب أن يتحقّق الإيمان والكفر على النحو الذي يريدانه ، لا على الحقيقة التي هما عليها من الأوصاف والخصوصيات.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام ، والكفر على خلافه ، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية ، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات; والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته ، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.
    ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد ، فالأمر على العكس. فالإيمان نور و ضياء للروح ، والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية ، ولا نطيل الكلام بذكرها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ. (1)
    ثانياً : لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل ، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء ، فما وقع لم يقصد ، وما قصد لم يقع.
    ثالثاً : أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية ، فالأُولى : كالبياض والسواد ، والحرارة والبرودة ، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك ، والثانية : كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء ، لا تحتاج إليه ، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه ، كما أنّه يوجد
1 ـ الروم : 30.

(118)
    ذات الصغير لا وصفه ، وإنّما الذهن يقوم بعمل الانتزاع عند المقايسة.
    فالجسم الذي هو بقدر ذراع ، أكبر من الجسم الذي على نصفه ، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما ، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين : إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه ، وهكذا في الجسم الصغير ، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة ، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.
    وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان ، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر ، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.
    وإن شئت قلت : إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً ، وهو ذاته لا شيئين : أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله : « إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن ، مع أنّه في الواقع باطل قبيح ، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما ، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع ».
    والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان ، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين ، بالكل عنده شرعيّان. الدليل الثاني
    إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار ، قائم في خلق حركة الاكتساب ، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها ، حدوثها ، فكذلك القصة في حركة الاكتساب ، وإن كان الذي يدلّ على خلقها ، حاجتها إلى مكان وزمان ، فكذلك قصة حركة الاكتساب ، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى ، يجب به القضاء على


(119)
    أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى ، وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار. (1)
    وحاصله : إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان ، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس ، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان ، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.
    وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين ، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان ، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته ، فيحكم باستنادها إلى الله ، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان ، وتأكيد انتسابها إلى الله.
    نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل ، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام ، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.
    إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله ، و ( الإيجي ) في مواقفه ، والتفتازاني في شرح مقاصده ، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي ... حرّروا المسألة بصورة واضحة ، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.
    أوّلاً : بحثوا عن المسألة تحت عنوان « أنّ الله قادر على كلّ المقدورات »
1 ـ اللمع : 74 ـ 75.

(120)
    أو « عموم قدرته لكلّ شيء » و أرادوا من « عموم القدرة » (1) أنّ كلّ موجود ، واقع بقدرته ابتداء ، وإن توقف تأثيره في البعض على شرط ، كتوقف إيجاده للعرض على إيجاده لمحله ، لامتناع قيامه بنفسه. (2)
    وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة ، لا القدرة الشأنية ، وإن لم يستعملها; فلو قيل : إنّ قدرته سبحانه عامة ، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.
    ثانياً : اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث ، و بين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.
    يقول الرازي : إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان ، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع ، وهما بخلاف المقدورية ، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات ، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى ، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض ، افتقر إلى المخصص. (3)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ، ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه ، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب ، ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه ، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب ، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات ، فكلّ وجود ، مسبب لما فوقه ، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة ، إلى السافلة ، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة ، فلكلّ حادث سبب ، ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه; وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة
1 ـ وقد يراد من « عموم قدرته تعالى » ، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال : بعدم قدرته عليه ، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل .
2 ـ هامش شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي.
3 ـ المحصل : 298; شرح المواقف : 8/60; شرح المقاصد : 2/137.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس