الملل والنحل جلد الثاني ::: 121 ـ 130
(121)
    متوسطة ، بإذنه سبحانه وإرادته ومشيئته ، و هذا هو المراد من التوحيد في الخالقية; فالخالق المستقل في خلقه ، واحد. وخالقية غيره بإذنه وإقداره. وهذا المقدار من الاستناد يكفي في رفع حاجة الممكن من دون حاجة إلى أن يكون هناك استناد مباشر.
    وباختصار : إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار ، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله ، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص ، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ : إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد« والفعل فعل الله وهو فعل العبد ».

الحجج الأُخرى للأشاعرة
    احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها :
    الأوّل : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال ، ه وهذا معنى قوله سبحانه : أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير (1) ، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله ، بشهادةأنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها ، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى ، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة ، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم ، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع ، كالإحراق الصادر من النار من غير علم ، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد ، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد ، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد ،
1 ـ الملك : 14.
2 ـ الأربعون للرازي : 231 ـ 232 ، وشرح التجريد للقوشجي : 447 .


(122)
    والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به يستلزم العلم. ثمّ إنّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل ، يوجده بالعلم التفصيلي ، ولو كان قاصداً بالإجمال يوجده كذلك. فالفاعل للأكل والتكلّم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل ، فيستلزم علم الفاعل به كذلك ـ و في الوقت نفسهـ لا يقصد مضغ كلّ حبة ، أو التكلّم بكلّ حرف وكلمة إلاّ إجمالاً ، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.
    كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة ، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل ، فيلزمه العلم به تفصيلاً ، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل ، تابعين لأصل القصد وكيفيته.
    الثاني : لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه ، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال ، أو لا يقع واحد منهما ، وهو أيضاً محال ، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين ، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون ، أو يقع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى و قدرة العبد. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين ، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه ، لا في المقام; أعني : إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام ، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى ، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير ، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة. (2)
    والأولى أن يقال : إنّ قدرة الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير ، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة ، وليست صالحة للتأثير ، لأنّ من
1 ـ الأربعون للرازي : 232.
2 ـ كشف المراد : 16; شرح التجريد للقوشجي : 447.


(123)
    شرائط القدرة الفعلية ، أن لا تكون ممنوعة من ناحية بالغة كاملة ، فتعلّق قدرته وإرادته بتحريك الجسم تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحدى القدرتين مطلقة ، والأُخرى مشروطة.
    الثالث : إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات ، وعلى جميع مقدورات العباد ـ و على هذا ـ ففعل العبد : إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعني : قدرة الله وقدرة العبد ـ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى ، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين ، ولا يلزم منه محال ، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، ومفاضة منه ، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب ، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.
    وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات ، ومنها أفعال العباد ، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة ، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد ، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين :
    1. إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام ، فإنّه قال : لا يقدر على القبيح.
    2. إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال ، محققة بقدرة الله تعالى ، وموجودة بحوله وقوته ، لأنّ كلّ ما سواه ممكن ، ولا غنى للممكن عن الواجب ، لا في الذات ولا في الفعل ، لكن تحقّق الشيء بقدرته يتصور على وجهين :
    أ : أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، كما هو الحال في
1 ـ الأربعون للرازي : 232.

(124)
    الصادر الأوّل من العقول والنفوس والأنوار الملكوتية.
    ب : أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد ، قائمة بقدرته ، وموجدة بحوله وقوته ، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له ، و أقدر عبده بهاعلى الفعل ، فيكون الفعل فعل الله من جهة ، وفعل العبد من جهة أُخرى.
    وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
    فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.
    والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمنعى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ ) (1) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلقالأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وجعل لكلّ سبب شرحاً ». (2)
    ثمّ إنّ للأشاعرة في مسألة « خلق الأفعال » حججاً وأدلّة ، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي و شرّاح التجريد ، فراجع.
1 ـ المدثر : 31.
2 ـ الكافي : 1/183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث7.


(125)
نظرية الكسب ومشكلة الجبر
    ولما كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مستلزماً للجبر ، حاول الأشعري أن يعالجه بإضافة « الكسب » إلى « الخلق » قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وملاك الطاعة والعصيان ، والثواب والعقاب هو « الكسب » دون الخلق ، فكلّ فعل صادر عن كلّ إنسان مريد ، يشتمل على جهتين« جهة الخلق » و « جهة الكسب » فالخلق والإيجاد منه سبحانه ، والكسب والاكتساب من الإنسان.
    والظاهر أنّ بعض المتكلّمين سبق الأشعري في القول بالكسب.
    قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلق بنا. وقال : إنّما نحن كالظروف لها حتى أنّ ماخلق فينا ، كان ، وإن لم يخلق لم يكن.
    وقال ضرار بن عمرو (1) : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب ، وزاد عليه الإحالة. (2)
    أقول : إنّ نظرية الكسب التي انتشرت عن جانب الإمام الأشعري مأخوذة عن ذلك المتكلّم المجبر ، ونقلها العلاّمة الحلي في « كشف المراد » عن
1 ـ ضرار : من رجال منتصف القرن الثالث وهو ضرار بن عمرو العيني قال القاضي في طبقاته : ص 13 : كان يختلف إلى واصل ، ثمّ صار مجبراً وعنه نشأ هذا المذهب.
2 ـ شرح الأُصول الخمسة : 363 ، وقد نقل الشيخ مقالة ضرار في كتابه مقالات الإسلاميين : 313 وقال : والذي فارق ( ضرار بن عمرو ) المعتزلة قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وإن فعلاً واحداً لفاعلين ، أحدهما خلقه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وإنّ الله عزّوجلّ فاعل لأفعال العباد في الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة ... .


(126)
    النجار و حفص الفرد أيضاً. (1) وأخذ عنهم الأشعري على الرغم من ادّعائه أنّه يخالف المجبره ولا يوافقهم. غير أنّ الذي يجب التركيز عليه أمران :
    الأوّل : ما هو الداعي لإضافة الكسب إلى أفعال العباد؟
    الثاني : ما هو المقصود من كون الإنسان كاسباً والله سبحانه خالقاً؟
    أمّا الأوّل : فلأنّ الأشعري من أهل التنزيه ، وهو يناضل أهل التشبيه والتجسيم كما يخالف المجبرة. ولمّا كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه لا غير ، مستلزماً لوقوع الشيخ الأشعري و من لفّ لفّه في مشكلة عويصة ـ إذ لقائل أن يقول : إذا كان الخالق هو الله سبحانه فلابدّ أن يكون هو المسؤول لا غير ، وحينئذ يبطل الأمر والنهي والوعد والوعيد ، وكلّ ما جاءت به الشرائع السماوية ـ لجأ الأشعري وأضرابه لأجل الخروج عن ذلك المضيق إلى نظرية « ضرار » معتقدين بأنّهم يقدرون بها على حل العقدة ، وقالوا : إنّ الله سبحانه هو الخالق ، والإنسان هو الكاسب ، فلو كان هناك مسؤولية متوجّهة إلى الإنسان فهي لأجل كسبه وقيامه بهذا العمل.
    هذا هو الحافز والداعي لتبنّي نظرية الكسب لا غير.
    وأمّا الثاني : ـ أعني : ما هي حقيقة تلك النظرية ـ فقد اختلفت كلمات الأشاعرة في توضيح تلك النظرية اختلافاً عجيباً ، فنحن ننقل ما ذكروه باختصار :

1. نظرية الكسب والشيخ الأشعري
    قبل أن نقوم بنقل ما ذكره تلاميذه نأتي بنص عبارة الشيخ في « اللمع » ، يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية : لماّ كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً ، لأنّ حقيقة الكسب هي أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة. (2)
1 ـ كشف المراد : 189 الفصل الثالث من الإلهيات ، ط لبنان.
2 ـ اللمع : 76.


(127)
    وحاصله أنّ صدور الفعل من الإنسان في ظل قوة محدثة هو الكسب.
    يلاحظ عليه : أنّ ظاهر العبارة هو صدور الفعل بسبب قوة محدثة من الله في العبد ، وعليه يكون الفعل مقدوراً للعبد ومخلوقاً له ، ومعه : كيف يمكن أن يكون في عرضه مقدوراً لله ومخلوقاً له؟!
    وبعبارة ثانية : إمّا أن يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير في تحقّق الفعل أو لا؟فعلى الأوّل يكون الفعل مخلوقاً للعبد ، لا لله سبحانه ، وهو ينافي الأصل المسلّم عند الأشعري ومن قبله من الحنابلة ، من أنّ الخلق بتمام معنى الكلمة راجع إليه سبحانه ، ولا تصحّ نسبته إلى غيره ، وعلى الثاني : يكون الفعل مقدوراً مخلوقاً لله سبحانه ، من دون أن يكون لقدرة العبد دور في الفعل والإيجاد. وعندئذ يعود الإشكال وهو : إذا كان الفعل مخلوقاً لله كيف يكون المسؤول هو العبد؟!
    وباختصار : إنّ العبارة المذكورة عبارة مجملة ، وهي على فرض القول بتأثير قوة العبد في عرض قدرة الله سبحانه أو طولها ، يستلزم إمّا اجتماع القدرتين على مقدور واحد ـ إذا كانت القدرتان في عرض واحد ـ أو كون الفعل مقدوراً للقدرة الثانية ، أعني : قدرة العبد ـ إذا كانت القدرتان طوليتين ـ و على فرض عدم تأثير قدرة العبد ، و كون الفعل متحقّقاً بقدرته سبحانه عند حدوث القدرة في العبد ، يعود الإشكال بعينه ، ولا تكون للكسب واقعية أبداً.
    والظاهر من المحقّق التفتازاني ترجيح الشق الأوّل في تفسير كلام الأشعري ، حيث قال في شرح العقائد النسفية : فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلاّكونه موجداً لأفعاله بالقصد الإرادة ، وقد سبق أنّ الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها ، ومعلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين ، قلنا : لا كلام في قوّة هذا الكلام ومتانته ، إلاّ أنّه لما ثبت بالبرهان أنّ الخالق هو الله تعالى ( هذا من جانب ) و ( من جانب آخر ) ثبت بالضرورة أنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال ، كحركة اليد ، دون البعض كحركة الارتعاش ، احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى


(128)
    القول بأنّ الله تعالى خالق ، والعبد كاسب. (1)
    ولا يخفى أنّ القول بتأثير قدرة العبد لا يجتمع مع ما ثبت بالبرهان عندهم من أنّ الخالق هو الله تعالى ، فعلى مذهبه يقع التعارض بين ما ثبت بالبرهان ومااختاره من الأصل.
    ثمّ الظاهر من الفاضل القوشجي هو اختيار الشق الثالث. أي عدم تأثير قدرة العبد في الفعل حيث قال : والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته و إرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً لهو. (2)
    وعلى ما ذكره ذلك الفاضل لا يكون هنا للعبد دور إلاّ كون الفعل صادراً من الله وموجداً بإيجاده ، غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع صفة من صفات العبد ، وهما صيرورته ذا قدرة غير مؤثرة بل معطلة ، عن إيجاد الله تعالى الفعل في الخارج.
    أنشدك بوجدانك الحر ، هل يصحّ تعذيب العبد ، بحديث المقارنة ، ألا بعد ذلك من أظهر ألوان الظلم ، المنزة سبحانه عنه؟!
    قال القاضي عبد الجبار : : إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وإنّه أظهر أنّما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه ، و يوهم أنّه مصيب فيه ، وأنّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر ، ومشى ذلك في ملوك بني أُمية.
    وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان ( رحمه الله ) ، ثمّ نشأ بعدهم يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف ما لايطاق. (3)
    وقال الدكتور« مدكور » في تصديره للجزء الثامن لكتاب المغني للقاضي عبد الجبار : إنّ هناك صلة وثيقة بين الحياة السياسية ونشأة الفرق والآراء الكلامية ، ولكن الوشاية والدس هما الّلذان قضيا على غيلان ـ فيما يظهر ـ أكثر
1 ـ شرح العقائد النسفية : 115.
2 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 445.
3 ـ المغني : 8/4.


(129)
    من قوله بالاختيار ، بدليل أنّ عمر بن عبد العزيز سبق له أن جادله ولم يوقع عليه عقاباً ، ولعلّ من هذا أيضاً ما قيل عن معبد الجهني ، وجهم بن صفوان ، وأغلب الظن أنّهما قتلا لأسباب سياسية لا صلة لها باللدين. (1)
    قال الراغب في محاضراته : خطب معاوية يوماً فقال : إنّ الله تعالى يقول : وَمامِنْ شَيء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال : إنّا لا نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينامن خزائنه ، فأغلقت بابك دونه يا معاوية. (2)

2. نظرية الباقلاني في تفسير الكسب
    « تأثير قدرة الإنسان في ترتّب العناوين على أفعاله ».
    قد قام القاضي الباقلاني (3) من أئمّة الأشاعرة بتفسير نظرية صاحب المنهج بشكل آخر ، وقال ما هذا حاصله : الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث.
    ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلّى و صام وقعد و قام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
    فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهات من جهة الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو
1 ـ المغني : 8/هـ ، المقدّمة.
2 ـ الكشكول لبهاء الدين العاملي : 429 ، ط عام 1321هـ ـ الحجرية.
3 ـ القاضي أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى عام 403 هـ ) من مشاهير أئمّة الأشاعرة في بغداد ، وله تأليفات ، وقد طبع منها : 1. التمهيد ، 2. الإنصاف في أسباب الخلاف ، 3. إعجاز القرآن.


(130)
    وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.
    قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرّفنا أيّ شيء هي ، ومثّلناها كيف هي. (1)
    وحاصل كلامه الذي قمنا بتلخيصه : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً سبحانه.
    فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.
    يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية ، وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.
    وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية ، فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب والعقاب.
    وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود ، فحينئذيكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل; أو لا تكون له تلك الواقعية ، بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتى يثابه أو يعاقب.

3. نظرية الغزالي في تفسير الكسب
    « صدور الفعل من الله عند حدوث القدرة في العبد ».
1 ـ الملل والنحل : 1/97 ـ 98.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس