الملل والنحل جلد الثاني ::: 131 ـ 140
(131)
    إنّ الغزالي من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، وقد اختار في تفسير الكسب نظرية صاحب المنهج ، وقام بتوضيحه بكلام مبسوط نذكره باختصار ، قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد والحيوانات والملائكة والجن والشياطين ، و زعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا بقدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاد ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :
    إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.
    والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد المتعلقتين على شيء واحد غير محال ، كما نبينّه.
    ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتها وقوع الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد. (1)
    فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثاني ، فاستعير لها
1 ـ وأوضح التفتازاني تلكما الجهتين في مقاصده وقال : لما بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد. وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبر عنه عندنا بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع ... شرح المقاصد : 127.

(132)
    النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى. (1)
    ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلّق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد و حصول المقدور بها .
    وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ، والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذاً لابدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب جديدوحاصله يتلخّص في كلمتين :
    1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.
    2. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى نعبر عنها بالكسب ـ فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً ـ .
    ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه لا يتحمّل مسؤولية ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلّم الإنسان إلى نزول المطر إلى الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث رد على المجبرة بوجدان الفرق بين
1 ـ وإليك نصّ عبارة الغزالي : لما كانت القدرة ( قدرة العبد ) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولما لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً. الاقتصاد في الاعتقاد : 92.
2 ـ الاقتصاد : 92 ـ 93.


(133)
    الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّفي ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.
    وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصور خلعها عن التأثير مع فرضها قدرة كاملة وبصورة علة تامة.
    والمنشأ لهذه الاشتباهات والتناقضات هو العجز عن تفسير الأصل المسلّم من أنّه لا خالق إلاّ الله تعالى ، حيث إنّ الأشاعرة فسّروه بحصر الخلق والإيجاد والتأثير في ذاته سبحانه ، ونفي أيّ تأثير ظلي أو إيجاد حرفي لغيره. فصوّروه سبحانه وتعالى ، الفاعل المباشر لكلّ ماجلّ ودقّ في عالم المجرّدات والماديات ، فصارت ذاته قائمة مقام العلل الطبيعية والأسباب المادية ، فعند ذلك وقعوا في ورطة الجبر ومشكلة إضطرار العبد.
    ولكن الحقّ في تفسير الأصل المذكور هو غير ذلك ، وحاصله : إنّ قصر الخالقية المستقلة بالله سبحانه ، لا ينافي قيام غيره بأمر الخلق والإيجاد بإذنه سبحانه وإقداره ، وقد شهدت الدلائل العقلية بصحّة هذا التفسير ، كما نطقت الآيات في الذكر الحكيم بتأثير جملة من العلل الطبيعية في معاليلها ، لكن بإذن منه سبحانه وإقدار له ، فليس للتوحيد في الخالقية معنى غير ذلك ، وسيوافيك تفسيره.

4. نظرية التفتازاني في تفسير الكسب
    « توجه قدرة العبد على الفعل عند صدوره من الله ».
    إنّ المحقّق التفتازاني جنح في تفسيره إلى ما نقلناه عن الغزالي ، ولخّص كلامه على ما عرفت في التعليقة.
    ولكنّه في « العقائد النسفية » قام بتفسير الكسب بوجه واضح. وهو أنّ


(134)
    صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (1)
    ومراده من الصرف هو توجه القدرة إلى الفعل وإن لم تكن مؤثرة في المقدور ، فمجرّد التوجيه من غير دخل في وجود الفعل ، كسب.
    ويرد عليه ما أوردناه على الغزالي من أنّ القدرة غير المؤثرة لا تورث المسؤولية ولا تصحح العقاب والثواب ، إلاّ أن يكون الجزاء على نفس العزم والإرادة ، لا على الفعل وهو كما ترى.
    ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حدّ أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيره حيث قال : « وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ... ».

5. نظرية تخصيص ما دلّ على حصر الخلق بالله
    إنّ هناك نظرية خامسة في حلّ مشكلة الجبر نقلها شارح العقيدة الطحاوية عن صاحب كتاب « المسايرة » (2) وحاصلها : إنّ ما دلّ على حصر الخلق بالله يخصص بما سوى العزم ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه ، وهو خالقه ، إلاّ العزم على الطاعة والعصيان ، فالخالق له هو العبد.
    وقال في ذلك المجال ما هذا نصّه : فإن قيل : لا شكّ أنّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة
1 ـ شرح العقائد النسفية : 117.
2 ـ تأليف الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى م 861هـ ) ولكتابه هذا شروح.


(135)
    والرعدة الضرورية ، والقدرة ليست خاصيتها إلاّ التأثير ، فوجب تخصيص عمومات النصوص بما سوى أفعالالعباد الاختيارية ، فيكونون مستقلين بإيجاد أفعالهم بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى إيّاها كما هو رأي المعتزلة والفلاسفة. وإلاّ كان جبراً محضاً فيبطل الأمر والنهي.
    قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي. ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرف الله تعالى العبد العاقل أفعال الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه. وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكل إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال : جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محل قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمماً بلا تردد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى و نحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم ، وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى و متأثرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (1)
1 ـ شروح العقيدة الطحاوية : 122 ـ 126 نقلاً عن « المسايرة » لاحظ شرحها 98.

(136)
    يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية و الأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم ، فالكل ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.
    نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرّقون بين الخالق على وجه الاستقلال والخالق على الوجه التبعي لما صعب عليهم المقام.

6. نظرية ابن الخطيب في تفسير الكسب
    « قدرة الله مانعة عن قدرة العبد ».
    وإليك نصّ عبارته : إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم ، والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها. (1)
    فالقدرة الحادثة تتعلّق ولا تؤثر ، وهي ـ أي القدرة الحادثة ـ تصلح للتأثير لولا المانع ، وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (2)
1 ـ العبارة لا تخلو من حزازة ، والصحيح أن يقال : لعموم تعلّق القدرة القديمة به ، أي بالفعل.
2 ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 187 نقلاً عن « الفلسفة والأخلاق » للسان الدين بن الخطيب قال : يرى لسان الدين بن الخطيب أنّ الكسب فعل يخلقه الله تعالى في العبد كما يخلق القدرة والإرادة والعلم ، فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محلّه الذي قام به ، ثمّ نقل العبارة التي نقلناها في المتن. ولا يخفى أنّه لو كان الكسب أيضاً فعلاً مخلوقاً لله سبحانه ، تكون المحاولة المذكورة فاشلة ، إذ عندئذ يكون الخلق والكسب كلاهما من جانبه سبحانه ، فلاحظ.



(137)
    وحاصل هذه النظرية أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لولا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة. ولولا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى لإلقاء المسؤولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسؤولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.
    ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لولا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.
    وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو صحّ فرض كونه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما يتصوّر من أنّ القدرة في الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، وأنّها عاطلة وباطلة خلقت عبثاً وسدى ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلّف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد ـ بإذنه سبحانه ـ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.
    وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه ، حتى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : وَللّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرضِ وَكانَ اللّهُ عَليماً حَكيماً (1) ، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ
1 ـ الفتح : 4.

(138)
هُوَ . (1)
    ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد ، فلأجل ذلك يتصور تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.
    ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلبزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامّتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحرية هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحف به من الخصوصيات قائمة بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة منها ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (2) ، وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله. (3)
    فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.
    وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حولها ، وعليه « فالفعل فعل الله وهو فعلنا ». (4)
1 ـ المدثر : 31.
2 ـ الأنفال : 17.
3 ـ الإنسان : 30.
4 ـ شرح المنظومة للسبزواري : ص 175 اقتباس من قوله فيها :
لكن كما الوجود منسوب لنا والفعل فعل الله وهو فعلن ـ ا


(139)
حصيلة البحث
    هذه هي النظريات المطروحة حول قدرة العبد على الكسب ، وقدعرفت أنّ في الجميع إبهاماً وإجمالاً ، ولا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تحل بها عقدة الجبر. وقد بلغت نظرية الكسب من الإبهام إلى حدّ عدّت من إحدى المبهمات الثلاثة التي لم يقف أحد على حقيقتها. وفي ذلك يقول الشاعر :
    
مما يقال ولا حقيقة عنده الكسب عند الأشعري والحال معقولة تدنو إلى الأفهام عند البهشمي وطفرة النظام (1)

    فعد الشاعر نظرية الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية « الحال » عند المعتزلة و« الطفرة » عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :
    قال : إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طرفين :
    أحدهما : بأن يتبيّن فساده بالدلالة.
    والثاني : بأن يتبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا تبيّن أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن ... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوفرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّ في واحد من هذه الطوائف ، على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة ، من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه ألبتة.
    وممّا يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنهـ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه. فلمّا لم شيء من اللغات ما يفيده هذه الفائدة ،
1 ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 185.

(140)
    دلّ على أنّه غير معقول. (1)
    قال الشيخ المفيد :
    ثلاثة أشياء لا تعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :
    1. اتحاد النصرانية.
    2. كسب النجارية.
    3. أحوال البهشمية.
    وقال الشيخ : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى ـ في واحد منها ـ معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ خلاف ما حكما به هو الصواب وهيهات. (2)

7. مالبرانس الفرنسي ونظرية الكسب ( 1631 ـ 1715م )
    ثمّ إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي« مالبرانس » يتحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف و من المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب ، وحاصل ما قال :
    إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتى لكأنّها يخيل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.
    فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتفاقية ، أو نظرية الظروف
1 ـ شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 364 ـ 366.
2 ـ حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة « تراثنا » العدد3 ، من السنة الرابعة ، ص 118.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس