الملل والنحل جلد الثاني ::: 141 ـ 150
(141)
    والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة ( بالكسر ) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمّى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عندما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه ». (1)
    وقد نقل ذكاء الملك نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمحدث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرك هو الله سبحانه و إرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه. (2)
    ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف ، فعندئذ لا معنى لأن يختص التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقة.
    إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي أوّلاً ، وصريح الذكر الحكيم ثانياً ، والفطرة السليمة الإنسانية ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محله.

8. نظرية إمام الحرمين
    « الاعتراف بتأثير قدرة العبد في طول قدرة الله ».
    إنّ الأشاعرة ، وإن أصرّوا على نظريتهم في أفعال العباد طوال قرون ، ولم يتجاوزوا ما رسمه لهم شيخهم في هذه المسألة إلاّ شيئاً يسيراً ، كما عرفته عند
1 ـ القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : 182.
2 ـ سير الحكمة في أُوروبا : 2/24 ـ 25.


(142)
    البحث عن نظرية الباقلاني ، غير أنّه وجد فيهم من أدرك خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ، ومضاعفاتها السيئة ، وتخبّط القوم تخبّطاً واضحاً في المسألة ، فنقض كلّ ما أبرموه وأجهر بالحقيقة ، ونخص بالذكر هنا شخصيات جليلة يعدّون من مشاهير العلم ورجال الفكر :
    أ. إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، وهو من أعلام القرن الخامس. فقد صرح ـ كما يظهر من العبارة التالية ـ بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأن قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه و إقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات ، وكلّ مسبب يستمد من سببه المقدم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه ، وإليك نصّ عبارته :
    إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (1)
    قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبب ـ على أصلهـ بالفعل والقدرة ( قدرة الإنسا من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميين ،
1 ـ الملل والنحل : 1/98 ـ 99.

(143)
    كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (1)
    هذا هو ما علّق به الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدل ، بل المراد هو تفاعل الأجسام الطبائع ، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحس والعلم.
    وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزهر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدّات وممهّدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عندما صرح بأنّ لعالم الكون مدبّرات يدبّرونه بإذنه سبحانه ، قال : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً. (2)
    إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما « ما به الوجود » لا « ما منه الوجود » ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني : إفاضة الوجود والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.
    وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين ـ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين ـ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن العقل في ذاك المجال.
1 ـ المصدر نفسه.
2 ـ النازعات : 5.


(144)
9. نظرية الشعراني
    ب : إنّ الشيخ الشعراني ـ و هو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ـ أحد من وقف على أنّ العقيدة بالكسب لا تفارق الجبر قدر شعرة ، فلأجل ذلك يقول : « اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدق مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يزيل أشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة ( قدرة العبد ) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.
    وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون : إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكشف لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثّل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :
    
إذا لم يكن إلاّالأسنة مركباً فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

    ثمّ قال : ملخّص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك; فلابدّ أنّه مضطر على الاختيار. (1)
    هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب. ولكن الاجالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول. أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

10. نظرية مفتي الديار المصرية
    « الإنسان يقدر فعله ويصدرها بقدرته المتكسبة ».
    ج. الشيخ محمد عبده ( 1266 ـ 1323هـ ) قد خالف الرأي العام عند الأشاعرة ، وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله ، ولم يبال في ذلك بأحد من معاصريه ، ولا بأحد من رجال الأزهر الذين كانوا يرددون في ألسنتهم قول القائل :
    
ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملة

    أقول : إنّ الشيخ الأزهري« عبده » كان يعيش في عصر رفعت فيه المادية الغربية عقيرتها ضد الإلهيين عامة والإسلاميين خاصة ، وشنّت حملة شعواء على عقائدهم. وكانت أرض مصر أوّل نقطة من الأراضي الإسلامية عانت من بث سموم المادية القادمة من الغرب مع احتلال
1 ـ اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : للشعراني : 139 ـ 141.

(145)
    الفرنسيين لها بقيادة نابليون.
    كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري ، وكان إنكار العلية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه آية الإلحاد والكفر ، وقد شن الماديون على هذه العقيدة أُمور ملأوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :
    1. أنّ الإلهيين لا يعترفون بناموس العلية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم ـ بأساليبه التجريبية المختلفة يثبت ذلك بوضوح.
    2. أنّ الإلهيين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العلوية التي يعبر عنها بالملك والجن والروح.
    3. أنّ الإلهيين ـ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ـ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيّره إلى حال.
    إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف عند حد.
    وقد وقف الشيخ على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري بنفسه


(146)
    اللوم والذم ، بل الأمر الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.
    نعم ، قد أثر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما :
    1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ).
    2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسد آبادي ( 1254 ـ 1316هـ ).
    فعلى ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303هـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إلى بيروت ـ :
    « يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعدّ إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.
    كما يشهد ذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس ... وعلى ذلك قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرّفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.
    أمّا البحث في ما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته ، و بين ما تشهد به البداهة من عمل المختار في ما وقع عليه الاختيار ، فهو من طلب سر القدر الذي نهينا عن الخوض فيه ، و الاشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه. وقد خاض فيه الغالون من كلّ ملة ، خصوصاًمن المسيحيين والمسلمين ، ثمّ لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفاً حيث ابتدأوا ، وغاية ما فعلوه أن فرّقوا وشتّتوا ، فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله


(147)
    واستقلاله المطلق ، وهو غرور ظاهر (1) ، ومنهم من قال بالجبر وصرح به. ومنهم من قالبه و تبرّأ من اسمه. (2) وهو هدم للشريعة ، ومحو للتكاليف ، وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهوعماد الإيمان.
    ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك باللهـ و هو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به في مالا يقدر العبد عليه ...
    جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :
    الأوّل : أنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.
    والثاني : أنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده ، وأن لا شيء سوى الله يمكنه أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.
    وقد كلّفه سبحانه أن يرفع هّمته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ( رحمه الله ) ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (3)
    ثمّ إنّ الركب بعد لم يقف ، وإنّ هناك لفيفاً من المفكّرين أدركوا مرارة القول بالجبر ، وأنّ القول بالكسب لا يسمن ولا يغني من جوع ، فرجعوا إلى القول بالأمر بين الأمرين ، وإن لم يصرحوا باسمه ، ونأتي في المقام بنصّ عالمين كبيرين من شيوخ الأزهر وعلمائه :
1 ـ يريد المعتزلة.
2 ـ يريد الأشاعرة.
3 ـ رسالة التوحيد : 59 ـ 62 بتلخيص.


(148)
11. الزرقاني وأفعال العباد
    د. وممّن اعترف بالحق ، الشيخ عبد العظيم الزرقاني قال :
    ولنقف برهة بجانب هذا المثال ، مثال خلق الأفعال ، ليتضح الحال ، ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ، ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ، ويضمّهم لواء الإسلام.
    في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وأنّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وأنّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، مثل قوله عزّوجلّ : اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء*هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ* وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ* وَإِليهِ يَرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ* مَنْ يشأ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشأ يَجْعَلْهُ عَلى صِراط مُسْتَقيم*وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ *ولَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً واحِدة* وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلُّهُمْ جَميعاً* وَلَوْ أَنّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيء قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله* إِنّا جَعَلنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِمْ وَقْرا *وَجَعَلنا مِنْ بَيْنِ أَيدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ* سَواءٌ عَلَيهِمْ أَ أَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ*كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ* فَمَنْ يرِد الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء* وَما رَمَيْتَ إِذ رَمَيْتَ وَلكِنّ الله رَمى
    وكذلك يقول النبي :
    « إن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل » .
    ويقول : « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ».
    و يقول : « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك » إلى غير ذلك.


(149)
    هذه النصوص وأمثالها ، إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد الأُمور كلّها إلى الله معتقداً أنّه الواحد الأحد ، لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه ، وهي أفعال التكليف من عباده ، وكأنّ نسبة الأفعال إلى العباد هي الأُخرى محض فضل من الله ، على حدّ ما قال ابن عطاء الله : من فضله وكرمه عليك ، أن خلق العمل ونسبه إليك.
    ويظاهر هذه الأدلّة النقلية أدلّة أُخرى عقلية ، ناطقة بوحدانية الله في كلّ شيء وبأنّ العبد لا يعقل أن يكون خالقاً لما اختاره من أفعاله ، لأنّه لو كان خالقاً لها لكان عالماً بتفاصيلها ، ولكنّه يشعر من نفسه بأنّه تصدر عنه أشياء كثيرة جداً من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها ، كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها. وإذاً فليس العبد هو الخالق لهاأَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ؟
    بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم ، وتعلن رضوان الله وحبه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم من ذلك قوله سبحانه : مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها* أَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيئاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُُمْ وَلا يَرضَى لِعِبادِهِ الكُفْرِ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرضَهُ لَكُمْ* وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لي عَمَلي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَريئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَريءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ* قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُون*قُلْ يا قَومِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّي عامِلٌ فَسَوفَ تَعَلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّار إِنّه لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ *وَمَاكانَ رَبُّكَ لِيُهِلكَ القُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِم الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَّبِئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *وَتِلْكَ الجَنّة الّتي أُورِثْتُمُوها بِماكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
    وكذلك نقرأ في السنة النبوية : « اعملوا فكلُّ مُيَسَّر لما خلق له. بادروا


(150)
    بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، يا عباس بن عبد المطلب ، اعمل لا أُغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد ، اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً ، إلى غير ذلك.
    وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم ، معتقداً أنّهم لا يستحقّون ثوابها إن أحسنوا ، وعقابها إن أساءوا. ويظاهر هذه الأدلّة النقليّة أدلّة عقليّة أيضاً شاهدة بعدالة الله وحكمته ، لأنّ العبد لو لم يكن موجداً لما اختار من أعماله ، لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة. وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.
غيري جنى وأنا المعذّب فيكم فكأنّني سبابة المتندم
    أهل السنة بهرتهم النصوص الأُولى والأدلّة العقلية التي بجانبها ، فرجّحوها وقالوا :
    إنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية ، إنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا و ما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد ـ و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.
    وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب ، جمعاً بين الأدلّة. ثمّ إذا قيل لهم : ما هذا الكسب؟ اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده ، أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمّم؟ولكلّ وجهة نظر ، يطول شرحها وتوجيهها.
    أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان العقل ، فرجّحوها وقالوا :
    إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟
    قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتى أعمال عباده
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس