الملل والنحل جلد الثاني ::: 151 ـ 160
(151)
    الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلّق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.
    وإذا قيل لهم : إنّ مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله ، وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية.
    قالوا : لا نسلّم هذا ولا نقول به ، فإنّ الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره ، إنّما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنّة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته ، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم ، فإنّها لا تشبه أفعال الله بحال.
    هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلاً سائغاً فيما تؤوِّله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجّحتها ، ونجد أيضاً أنّ كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأُخرى أن تلزمها إيّاه في مقام الحجاج والجدال ، بل توجه رأيها توجيهاً ينأى بها عن الوقوع في المحظور. ثمّ نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيراً بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقادالسديد بوحدانية الله وحكمة الله ، ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.
    فكيف يرضى منصف إذاً بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى؟ وماذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة ، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أنّ الرحمن الرّحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.


(152)
    وقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله. ويؤمنون بقدره وأمره. ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في أمثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إياه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه « وما أُوتيتم من العلم إلاّقليلاً ».
    
لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم (1)

12. الشيخ شلتوت وأفعال العباد
    هـ . إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحقّ أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :
    وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعرفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان اللهـ و آيات بيّنات واضحات ـ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.
1 ـ مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني : 1/506 ـ 511 ، والشعر من قصيدة البوصيري في مدح النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

(153)
    وهذا فريق منهم يرى : أنّ العبد لا اختيار له في فعل ما ، وهو مجبور ظاهراً وباطناً ، فالهداية تلحقه بخلق الله ، والضلال يلحقه بخلق الله ، دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله ، لا ابتداءً ولا جزاءً. وهذا رأي يناقض صريح ما جاء في القرآن من نسبة الأعمال إلى العباد ، ومن التصريح بأنّ الجزاء ثواباً أو عقاباً إنّما يكون بالأعمال الصادرة من العباد ، وهي أكثر من أن تحصى ، وهو بعد ذلك يصادم الشعور والوجدان الذي يجده كلّ إنسان من نفسه حينما يفكّر وحينما يتجه ويعزم ، وحينما يفعل ، وهو مع كلّ هذا ، ينقض قاعدة التكليف ، وهي اختبار المكلّف ، وقاعدة العدالة ، وهي السّيئة بالسّيئة ، والحسنة بالحسنة.
    وهذا فريق آخر يرى : أنّ الله يخلق الضلال في العبد ابتداءً واستمراراً ، وليس للعبد قدرة على فعل ما ، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما ، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم ، انتحلوا للتخلص منها شيئاً سمّوه كسباً ، وصحّحوا به في نظرهم قاعدة التكليف ، وقاعدة العدالة ، ونسبة الأفعال ، وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة ، أي إنّ الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها ، كما يقولون ، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد ، وكلّف بالفعل ، وسئل عنه ، وجوزي عليه. ولا ريب أنّ تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة ، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة « كسب » على أنّه بهذا المعنى الذي يريدون ، لا يصحح قاعدة التكليف ، ولا قاعدة العدالة والمسؤولية ، لأنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ، ويجازى عليه ، والفعل كما يقارن القدرة ، يقارن السمع والبصر والعلم ، فأيّ مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟
    وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له ، وقد قال بعض العلماء : إنّ كسب الأشعري وطفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، ثلاثتها من محاولات الكلام.
    وهذا فريق ثالث يرى : أنّ العبد يفعل بإرادته وقدرته الّلتين منحهما الله ابتداءً واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه ، ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء


(154)
    فينسبه إلى العبد ، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد ، جزاءً على ضلاله ، فهناك في رأيهم زيغ من العبد باختياره ، ثمّ إزاغة من الله عقوبةً له على ذلك الزيغ ، هناك انصراف من العبد عن الحقّ ، ثمّ صرف من الله للعبد جزاء هذا الانصراف.
    والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه; وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كلّ ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شراً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.
    ومن هنا يتبيّن أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إيّاه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّره.


(155)
القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام
    وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسبّبات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعهـ شأن المحيط علمه بكلّ شيء ـ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو
    العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان و ما يكون. (1)
    ثمّ إنّ القول بالقدر السالب للاختيار من الإنسان والسائد على قدرته ومشيئته سبحانه ممّا جعل ذريعة للطعن على الشريعة ، وقد جاء الطعن لبعض المعتزلة في ما أنشأه و قال :
    
أيا علماءَ الدين ذِمِّيُّ دينكم إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم دعاني و سد الباب عني فهل إلى قضى بضلالي ثمّ قال أرض بالقضا فإن كنت بالمقضيّ يا قوم راضياً وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي؟ إذا شاء ربّي الكفر مني مشيئة وهل لي اختيار أن أخالف حكمه تحيّر ، دلّوه بأوضح حجة ولم يرض منّي فما وجه حيلتي؟ دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي فها أنا راض بالذي فيه شقوتي! فربي لا يرضى لشؤم بليتي وقد جرت دلّوني على كشف حيرتي فها أنا راض باتّباع المشيئة فبالله فاشفعوا بالبراهين حجّتي (2)
    وقد مال يميناً و شمالاً كلّ من فسر القضاء والقدر بسلب الاختيار حتى يجيبوا عن شبهة هذا المتظاهر بالذمية ، وقد أجاب عنه علاء الدين الباجي بنظمه و قال :
    
فكن راضياً نفس القضاء ولا تكن بمقضي كفر راضياً ذا خطيئة
    وحاصل هذا الجواب ، أنّ الواجب الرضا بالتقدير لا بالمقدر ، وكلّ تقدير يرضى به لكونه من قبيل الحقّ ، ثمّ المقدور وينقسم إلى ما يجب الرضى به كالإيمان ، وإلى ما يحرم الرضى به كالكفر ، إلى غير ذلك.
    وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ أي معنى للتفريق بين القدر و المقدر؟! فإنّ التقدير لو كان سالباً للاختيار فالرضى بالتقدير رضى بالمقدر أيضاً.
1 ـ تفسير القرآن الكريم ، للأُستاذ الشيخ شلتوت : 240 ـ 242.
2 ـ طبقات الشافعية : 10/352 ، والقائل أنشأ الشعر من جانب الذمّي لئلاّ يؤخذ به ، ويقتل بسيف القضاء.


(156)
    وقد كان الشيخ محمد عبده يعاني من القشريّين المتعبّدين بظواهر الكلم والجمل ، الذين عطّلوا عقولهم وفتحوا عيونهم على ظواهر الكتاب والسنّة فهؤلاء كانوا ألدّ الأعداء لرجال الإصلاح والنهضة العلمية في مصر ، وفيهم يقول الشيخ محمد عبده في أُخريات عمره :
    
ولست أُبالي أن يقال محمّد ولكنّ ديناً قد أردت صلاحه فيا رب إن قدرت رجعي سريعةً فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً أبل أم التظت عليه الم آتم أحاذر أن يقضي عليه العمائم إلى عالم الأرواح وانفض خاتم رشيداً يضيء النهج والليل قاتم
خاتمة المطاف
    إنّ شيخ الشيعة الحسن بن المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي ( 648 ـ 726هـ ) ردّ على القول بأنّ العبد لا تأثير له في أفعاله ، بأنّه يستلزم أشياء شنيعة ، ولما وقف ابن تيمية على كتابه ، ورأى إتقان الاستدلال ، رد عليه بأنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.
    ولكن هذا القول الذي حكاه هو ( العلاّمة الحلّي ) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (1)
1 ـ منهاج السنّة : 1/266.

(157)
    أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، وهو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بعدم تأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!
    والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض بلا مصدر صحيح ، وسيوافيك نبذ من جزافاته في الجزء الرابع من هذه الموسوعة ، عند البحث عن عقائد الوهابية.

نظرية الكسب بين مراحل التفسير والتطور والإنكار
    لقد وقفت على نصوص أعلام الأشاعرة حول نظرية الكسب ، وحتى نصّ الأشعري فيها. والتدبر فيما نقلناه يعرب عن أنّ هذه النظرية ـ لأجل إحاطة الإبهام بها ووجود الغموض فيها ـ مضت عليها مراحل ثلاث :
    1. مرحلة التبيين والتفسير.
    2. مرحلة التطور والتكامل.
    3. مرحلة الإنكار والإبطال.
    وهذه المراحل وإن لم تتكون حسب الترتيب الزمني ، ولكنّها تكونت طيلة قرون تنوف على عشرة.
    أمّا المرحلة الأُولى فقد تكونت بفكرة الغزالي أوّلاً ، والتفتازاني ثانياً. فقام الأوّل بتفسيرها ب ـ « صدور الفعل من الله عند إيجاد القدرة في العبد » ، كما أنّ الثاني فسرها ب ـ « توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله ».
    فهذان التفسيران لم يزيدا في بناء النظرية شيئاً إلاّ إلقاء الضوء عليها ، وتصويرها بشكل قابل للتصوّر.
    أمّا المرحلة الثانية ـ أعني : مرحلة التطوّر ـ فقد حصلت باعتراف القاضي الباقلاني بتأثير قدرة العبد في ترتب العناوين على الفعل ، من الطاعة والعصيان


(158)
    وغيرهما ، بعد ما لم يكن الأشعري ومن قبله أو بعده معترفين بأي تأثير لها في فعله.
    ولم يكن التطوير خاصاً به ، بل يشاركه فيه بنحو آخر ابن الهمام صاحب المسايرة ، حيث قام بتخصيص القاعدة بخروج العزم عنها ، وأنّه مخلوق لقدرة العبد وليس مخلوقاً لله سبحانه.
    ولا يقصر عنه في التطوير ، نظرية ابن الخطيب ، حيث اعترف بشأنية قدرة العبد وقابليته للتأثير لولا قدرة الله سبحانه العليا ، فلأجل ذلك صارت مغلوبة لقدرته.
    أمّا المرحلة الثالثة ـ أعني : مرحلة الإنكار والإبطال ـ فقد عرفتها من الفحل المقدام إمام الحرمين في القرن الخامس ، والمصلح المصري الشيخ محمد عبده ، والزرقاني ، والشيخ شلتوت ، ولعلّ هنا من جهر بالحقّ وأصحر به ولم نقف عليه.

القرآن وخلق الأفعال
    استدلّ الشيخ الأشعري على ما يتبنّاه من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بالأدلّة العقلية تارة ، والنقلية أُخرى.
    أمّا الأُولى فقد مضت مع ما علّقنا عليها من الملاحظات ، وأمّا الثانية فقد استدلّ عليها في كتاب « الإبانة » بآيتين :
    الأُولى : قوله سبحانه : أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَالله خَلَقَكُمْ وَماتَعْمَلُونَ. (1)
    الثانية : قوله سبحانه : هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ . (2)
1 ـ الصافات : 95 ـ 96.
2 ـ فاطر : 3.


(159)
    يلاحظ على الاستدلال بالآية الأُولى بأُمور :
    أوّلا : أنّ الاستدلال مبني على كون « ما » في قوله سبحانه وما تعملونمصدرية ، وأنّ معنى الآية : والله خلقكم وعملكم ، وليست بموصولة حتى يكون معنى الآية والله خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام ، كقوله سبحانه : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. (1)
    ولكن الظاهر من الآية هو الثاني لا الأوّل ، بقرينة قوله : أَتعبُدون ماتَنحِتُونوهي فيها موصولة بلا إشكال ، فتكون قرينة على المراد في الآية الثانية ، إذ ليس « ماتعملون »إلاّ ترجمة لقوله « ما تنحتون » ولا يصار إلى التفكيك إلاّ بدليل قاطع.
    وإنّما ذهب من ذهب إلى أنّ « ما » مصدرية ، وأنّ المراد « عملكم » لأجل رأي مسبق ومحاولة يطلب الدليل عليها ، ولولاها لما قال به.
    فعلى المختار يكون معنى الآية : أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها ، وبذلك يكون الربط بين الآيتين محفوظاً ، بخلافه على القول الآخر.
    إذ عليه تفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ، ويكون مفاد الآيتين : أتعبدون الأصنام التي تنحتون ، والله خلقكم وأعمالكم وأفعالكم ، وإن لم يكن للعمل صلة بعبادة ما ينحتوته.
    ثانياً : إنّ الخليل ( عليه السَّلام ) عندما أدلى بمفاد الآيتين كان في مقام الاحتجاج على عبدة الأصنام ، ولا يصحّ الاحتجاج إلاّ باتّخاذ« ما » موصولة كناية عن الأصنام المنحوتة ، فكأنّه قال : « إنّ العابد والمعبود مخلوقان لله ، فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟ » على أنّ العابد هو الذي عمل صورته وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها. ولكن لو كان مفاد الآية : « والله خلقكم وخلق عملكم » لم يصحّ الاحتجاج به على العبدة ولم ينطبق على المقام.
1 ـ الأنبياء : 56.

(160)
    ثالثاً : لو كانت مصدرية لتمّت الحجة صالح الخليل ولانقلبت عليه. إذا عندئذ ينفتح لهم باب العذر ، بحجّة أنّه لو كان هو الخالق لأعمالنا فلا جهة للتوبيخ والتنديد.
    كلّ هذه الوجوه توضح أنّ المراد : أنّ الله خلق الإنسان وخلق الأصنام التي يعملها الإنسان ، أي يصوّرها ويشكلها. وعندئذ لا صلة له بما يدّعيه الأشعري.
    أمّا الآية الثانية فلا شكّ أنّها صريحة في حصر الخالقية بالله سبحانه وكم لها من نظير في القرآن. قال سبحانه : قُلِ الله خالِقُ كُلُّ شَيء وَهُوَ الواحِدُ القَهّار ) (1)وقال عزّ من قائل : اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل (2) وقال تعالى : ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (3) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قصر الخالقية على الله. (4)
    غير أنّ الذي يهم القارئ الكريم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم من الآيات احتمالين لا يتعيّن أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخرى ، ودونك الاحتمالين :
    الأوّل : حصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه ، وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه ، وأمّا غيره فليس بمؤثر ولا خالق ، لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية ، وعلى ذلك فما ترى من الآثار للظواهر الطبيعية فكلّها مفاضة منه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فالنار بمعنى أنّه جرت سنّة الله سبحانه على أن يوجد الحرارة عند وجود النار مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة سببية ومسببية بينها و بين أثرها ، وكذلك الشمس مضيئة والقمر منير ، بمعنى أنّه جرت عادة الله سبحانه على إيجاد الضوء والنور مباشرة ، عقيب وجود الشمس
1 ـ الرعد : 16.
2 ـ الزمر : 62.
3 ـ غافر : 62.
4 ـ لاحظ : الأنعام101 ـ 102; الحشر : 24; الأعراف : 54.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس