الملل والنحل جلد الثاني ::: 161 ـ 170
(161)
    والقمر ، من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية ، ويكون صلتهما بالشمس والقمر كصلتهما بغيرهما. وعلى ذلك فليس في صفحة الكون إلاّ علّة واحدة ومؤثر فارد يؤثر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء ، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق الأسباب والمسببات. فهو سبحانه بنفسه ، قائم مقام جميع العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.
    هذا ما يتبنّاه الأشعري وأتباعه ناسبين إيّاه إلى أهل السنّة والجماعة عامّة ، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يقيمون للعلل الطبيعية والأبحاث العلمية وزناً. فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه ، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه. ومثله سائر الظواهر الطبيعية من نمو الأشجار ، وتفتح الأزهار ، وغناء الطيور ، وجريان السيول ، وحركة الرياح ، وهطول الأمطار ، وغير ذلك. فالكلّ مخلوق له سبحانه بلا واسطةوبلا تسبيب من الأسباب.
    ولكن هذا المعنى محجوج بنفس القرآن الكريم ، مضافاً إلى أنّ الأدلة العقلية والعلمية لا توافقه أبداً ، ونكتفي بالقليل من الكثير من الآيات الكافية لإبطال هذه النظرية.
    إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية ، وتسند الآثار إلى موضوعاتها ـ و في الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه ـ حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحقّقة من تلقاء نفسها.
    قال سبحانه : وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُمْ. (1)
    وقال عزّ من قائل : أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَسُوقُ الماءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بهِِ زَرعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ . (2)
    فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع ، إذ إنّ الباء في « به » في الموردين بمعنى السببية ، وأوضح منهما قوله سبحانه : وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ
1 ـ البقرة : 22.
2 ـ السجدة : 27.


(162)
وَغَيْرُ صِنْوان يُسقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها على بَعْض في الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ (1). فإنّ جملة يسقى بماء واحد كاشفة عن دور الماء وتأثيره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يتفضّل بعض الثمار على بعض.
    ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على أنّه كيف يبيّن المقدّمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء ، من قبل أن يعرفها العلم الحديث ، ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها ، يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين :
    1. اللّهُ الّذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. (2)
    فقوله سبحانه : فتثير سحاباً صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر ، والإمعان في مجموع جمل الآية يهدينا إلى نظرية القرآن في تأثير العلل الطبيعية بإذن الله تعالى. فقد جاء في هذه الآية الأُمور التالية ناسباً بعض الأُمور إلى الظواهر الطبيعية ، وبعضها الآخر إلى الله سبحانه :
    1. تأثير الرياح في نزول المطر.
    2.تأثير الرياح في تحريك السحب.
    3. الله سبحانه يبسط السحاب في السماء.
    4. تجمع السحب بعد هذه الأُمور على شكلّ قطع متراكمة مقدمة لنزول المطر من خلالها.
    فالناظر في هذه الآية ، والآية الثانية يذعن بأنّ نزول المطر من السماء إلى
1 ـ الرعد : 4.
2 ـ الروم : 48.


(163 )
    الأرض رهن بأسباب وعلل ومؤثرات بإذن الله سبحانه ، فلهذه العلل دور في حدوث الظاهرة ( المطر ) كما أنّه له سبحانه و تعالى دوراً وراء هذه الأسباب وهي جنوده والأسباب التي خلقها وأعطى لها السببية ، مظاهر قدرته ومجالي إرادته.
    2.أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزجي سَحاباً ثُمَّ يُؤلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَترى الوَدْقَ يَخرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأَبْصارِ. (1)
    فالآية الأُولى تسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول : فتثير سحاباوهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول : أنّ الله يزجي سحابا وما هذا إلاّ لأنّ الرياح جند من جنوده ، وسبب من أسبابه التي تعلقّت مشيئته على إنزال الفيض عن طريقها ، وفعلها فعله ، والكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.
    وليست الآيات الدالة على توسيط الأسباب والعلل في تكون الأشياء وتحقّقها منحصرة بما ذكرناه. بل هناك آيات كثيرة نأتي بالنزر اليسير من الكثير المتوفر.
    3. وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج . (2)
    فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها ، ثمّ تصرح بأنّ الأرض تنبت من كلّ زوج بهيج.
    وبعبارة أُخرى : الآية تصرح بوجود الرابطة الطبيعية بين نزول الماء على الأرض واهتزازها وربوتهاوانتفاخها ، ولولا تلك الرابطة لما صحّ جعل الاهتزاز والربوة جزاءً لنزول الماء. وحمل قوله تعالى « وأنبتت » على المجاز ، وجعل الأرض ظرفاً للإنبات فقط قائلاً بأنّ الله هو المنبت بلا توسيط الأسباب ، تأويل بلا وجه ولا يساعده ظاهر اللفظ ، بل هو ظاهر في أنّ الإنبات فعل للأرض
1 ـ النور : 43.
2 ـ الحج : 5.


(164)
    بضميمة عوامل وأسباب شتى ، والكل يعمل لا استقلالاً بل بإذنه ومشيئته سبحانه.
    4. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيل اللّهِ كَمَثَلِ حَبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مائة حَبّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَليمٌ . (1)
    فالآية تسند إلى الحب ، إنبات سبع سنابل ، و حمله على المجاز ـ بتصور أنّ الحبّ ظرف ، ومحل لفعله سبحانه ـ تأويل لأجل رأي مسبق من غير دليل.
    فالله سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحبة ، ولكنّهـ في الوقت نفسهـ يسند نفس ذلك الفعل إلى ذاته و يقول : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا بهِِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَومٌ يَعْدِلُونَ. (2)
    ويقول سبحانه : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كَريم . (3)
    ولا تعارض ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات ، إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنّه منشىء الكون وموجده ومسبب الأسباب ومكوّنها ، كما هو فعل السبب لصلة بينه و بين آثاره. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه.
    5. خَلَقَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَها وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ (4).أي جعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال لئلا تضطرب بكم. فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب إلى نفسه ، حيث قال : وَأَلقى وإلى سببه حيث قال : رواسي أن تميد والكل يهدف إلى أمر واحد ، وهو الذي ورد في الآية التالية ويقول : هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ
1 ـ البقرة : 261.
2 ـ النمل : 60.
3 ـ لقمان : 10.
4 ـ لقمان : 10.


(165)
دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلال مُبين ) (1) ، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات جميعه مخلوق لله ، والأسباب جنوده ، والآثار آثار للسبب والمسبب ( بالكسر ) ، كلّ على جهة خاصة.
    فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بقانون السببية بين الأشياء وآثارها ، وإنهاء كلّ الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصحّ عندئذ حصرُ الخالقية والعلّية المطلقة ، الأعم من الأصلي والتبعي في الله سبحانه ، وتصوير غيره من الأسباب أُموراً عاطلة غير مفيدة لشيء يتوقّع منها.
    إلى هنا تبيّن عدم صحّة ما عليه الأشاعرة وأهل الحديث من حصر الخالقية في الله بالمعنى الذي يتبنّونه.
    نعم هناك معنى آخر لحصر الخالقية في الله سبحانه و نفيه عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه ، وهذا هو الذي يثبته العقل ، ويصرح به القرآن ، وتؤيّده الأبحاث العلمية في جميع الحضارات ، وهذا هو الذي نبيّنه في المعنى الثاني لحصر الخالقية.
    الثاني (2) : إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بتقديرة وقضائه ، وتسبيبه ومشيئته ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه يعملون بأمره ، وإليك توضيح ذلك :
    لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها ، وبحرها وبرها ، وعناصرها ومعادنها ، والسحب والرعد والبرق والصواعق ، والماء والنجم والشجر ، والحيوان والإنسان ، إلى غير ذلك من الأشياء الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر
1 ـ لقمان : 11.
2 ـ تقدّم المعنى الأوّل في ص 160.


(166)
    إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها ، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه ، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات ، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض ، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.
    ومن جانب آخر ، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به ، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة ، وبلا مباشرة الإنسان ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه ، وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ، وينمو ويفهم.
    ومن جانب ثالث : إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام ، وينهاه نهي تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية ، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان ، فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة;!
    فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه : قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منه أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه ، فعّال بأفعاله ، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه ، وتقدير منه ، وهو القائل سبحانه : الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى ) (2) وقال تعالى : وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.
    فعلى هذا ، فالأشياء في جواهرها وذواتها ، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات ، تنتهي إليه أيضاً ، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض ، ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء
1 ـ الرعد : 16.
2 ـ طه : 50.
3 ـ الأعلى : 3.


(167)
    هذا النظام ومعه وبعده ، لا خالق ولا مدبر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو ، كما لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
اختلاف الأشياء في قبول الوجود
    يقول صدر المتألّهين : « إنّ الأشياء في قبول الوجود من المبدأ متفاوتة ، فبعضها لا يقبل الوجود إلاّ بعد وجود الآخر ، كالعرض الذي لا يمكن وجوده إلاّ بعد وجود الجوهر ، فقدرته على غاية الكمال ، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام ، بعضها صادرة عنه بلا سبب ، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة ، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلاّ بعد سبق أُمور هي أسباب وجوده ، وهو مسبب الأسباب من غير سبب ، وليس ذلك لنقصان في القدرة ، بل لنقصان في القابلية ، وعدم قبوله الوجود إلاّ في طريق الأسباب ، وإذا أردت التمثيل وتبيين نسبة أفعالنا إلى الله سبحانه فعليك بالكتاب النفسي ، والتأمّل في الأفعال الصادرة عن قواها ، فقد خلقها الله تعالى مثالاً ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، واتل قوله تعالى : وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (1) وقول رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّ فعل كلّ حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، هو فعل النفس أيضاً ، إذ الإبصار مثلاً فعل الباصرة. لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها ، وكذلك السماع مثل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة ، أو انفعال السمع بها ، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني ، وفي الوقت نفسه هما فعل النفس بلا شكّ لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة ، وذلك لا بمعنى أنّ النفس تستخدم القوى كما يستخدم كاتب أو نقاش ، فإنّ مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بناءً ، ومستخدم الكاتب لا يلزم كونه كاتباً ، مع أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد نفوسنا ، هي بعينها المدركة والبصيرة والسميعةوهكذا الا (2)مر في سائر القوى ».
1 ـ الذاريات : 21.
2 ـ الأسفار : 6/377 ـ 378.


(168)
    وإلى ذلك يشير في الحديث القدسي : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ، وبقوتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ». (1)
1 ـ البحار : 5/57.

(169)
(11)
الاستطاعة مع الفعل لا قبله

    الاستطاعة غير الإنسان أوّلاً ، ويستحيل تقدّمها على الفعل ثانياً ، فله هاهنا دعويان يصرح بهما في العبارة التالية :
    إن قال قائل : لم قلتم إنّ الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره؟
    قيل له : لأنّه يكون تارة مستطيعاً ، وتارة عاجزاً ، كما يكون تارة عالماً ، وتارة غير عالم ، وتارة متحركاً وتارة غير متحرك ، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره ، كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره ، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره ، لأنّه لو كان مستطيعاً بنفسه ، أو بمعنى يستحيل مفارقته له ، لم يوجد إلاّوهو مستطيع ، فلما وجد مرة مستطيعاً ، ومرة غير مستطيع ، صحّ وثبت أنّ استطاعته غيره.
    فإن قال قائل : فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره ، فلم زعمتم أنّه يستحيل تقدّمه للفعل؟
    قيل له : زعمنا ذلك من قبل أنّ الفعل لا يخلو أن يكون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها ، فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها ، فقد صحّ أنّها مع الفعل للفعل ، وإن كان حادثاً بعدها ـ و قد دلّت الدلالة على أنّها لا تبقى ـ وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة ، ولو جاز ذلك فجاز أن يحدث العجز بعدها ، فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة ، فجاز أن يفعل مئة سنة ، من حال حدوث


(170)
    القدرة ، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلّها ، بقدرة عدمت من مائة سنة ، وهذا فاسد ، وأيضاً لو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة ، ووقع الفعل بقدرة معدومة ، لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة ، وقد قلب الله النار برداً والقطع بحدّ سيف معدوم ، وقد قلب الله السيف قصباً ، والقطع (1) بجارحة معدومة وذلك معدوم ، فإذا استحال ذلك وجب أنّ الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها.
    فإن قالوا : ولم زعمتم أنّ القدرة لا تبقى؟
    قيل لهم : لأنّها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقى لنفسها أو لبقاء تقوم به ، فإن كانت تبقى لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وأن لا توجد إلاّ باقية ، وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها ، وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة ، فقد قامت الصفة بالصفة ، وذلك فاسد. ولو جاز أن تقوم الصفة بالصفة لجاز أن تقوم بالقدرة قدرة ، وبالحياة حياة ، وبالعلم علم ، وذلك فاسد. (2)
    أقول : إنّ الشيخ الأشعري قد تبنّى في العبارة المذكورة أُموراً ثلاثة : الأوّل والثاني منها ضروريان ، والثالث أمر نظري ، لم يأت عليه بدليل مقنع ، بل أجمل الكلام فيه إلى حد التعقيد.
    أمّا الأوّل : فلأنّ كون الاستطاعة مثل العلم غير الإنسان نفسه أمر بديهي لا يحتاج إلى البرهنة ، لأنّ كلّ إنسان يحس من بداية حياته أنّه تتجدد له القدرة والاستطاعة كسائر الكمالات النفسانية ، وأنّه ليس من أوّل يوم قادراً مستطيعاً على التكلم والمشي ، والكتابة والقراءة ، فلا يحتاج مثل هذاالأمر إلى التطويل.
    وأمّا الثاني : فإنّ الإنسان لا يقدر على الفعل بقدرة واستطاعة معدومة ، وهذا أيضاً أمر بديهي مرجعه إلى أنّ الممكن « ذاتاً كان أو فعلاً » لا يتحقق إلاّبعلة موجدة له ، من غير فرق بين القول بأنّ حاجة الممكن إلى العلّة أمر بديهي
1 ـ قال المعلّق على الكتاب : ولعلّ الأولى أن يقول : البطش.
2 ـ اللمع : 93 ـ 94.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس