الملل والنحل جلد الثاني ::: 171 ـ 180
(171)
    فطري ، كما هو الحقّ ، أو هو أمر تجريبي ، كما عليه بعض المناهج الفلسفية.
    وإنّما المهم في كلامه هو الأمر الثالث ، وهو لزوم مقارنة الاستطاعة مع الفعل واستحالة تقدّمها عليه ، وإليك توضيح برهانه.
    إنّ القدرة المتقدّمة على الفعل لا تخلو عن حالات ثلاث :
    1. أن تكون القدرة المتقدمة عليه منعدمة عند حدوث الفعل ، فيلزم عندئذ حدوث الفعل بلا قدرة ، وهو محال.
    2. أن تكون القدرة المتقدمة باقية ، وكان البقاء نفسها ، فيلزم عندئذ محذوران :
    أ. بما أنّ البقاء نفس القدرة وذاتها ، يلزم امتناع تطرق العدم إليها وهو خلف ، وإليه يشير بقوله : « وأن لا توجد إلاّ باقية ».
    ب. بما أنّ البقاء نفسها وذاتها ، وقد افترضنا أيضاً حدوثها يلزم أن تتصف بالبقاء في الوقت الذي تتصف بالحدوث ، وهو نظير اجتماع الضدين.
    3. أن لا يكون البقاء نفسها ، بل تبقى ببقاء يعرض لها ، وبما أنّ البقاء صفة يلزم قيام الصفة بالصفة ، ولو جاز لجاز أن تقوم القدرة بالقدرة والعلم بالعلم.
    أقول : إنّ القائل بالتقدّم يقول بالشقّ الثالث ، بتوضيح أنّ البقاء ليس نفس القدرة ولا ذاتها (1). بل هو أمر منتزع من استمرار وجود الشيء في الآنين والآنات وليس البقاء أمراً مغايراًلوجود القدرة بحيث يكون في القدرة ـ إذا بقيت بعد الحدوث ـ أمران :
    أحدهما : أصل القدرة ، والآخر بقاؤها ، وإنّما الموجود في الخارج شيء واحد وهو القدرة ، وينتزع منه باعتبارين أمران : الحدوث والبقاء.
    وإن شئت قلت : أصل القدرة ومفهومها الحدوث والبقاء وإن كانت
1 ـ المراد من الذاتي هنا ذاتي باب الإيساغوجي ، أي أن يكون البقاء جنساً أو فصلاً للقدرة ، لوضوح أنّ ما يفهم من القدرةوالاستطاعة غير ما يفهم من البقاء والدوام.

(172)
    مفاهيم مختلفة لكن ليس في الخارج بإزائها أُمور ثلاثة ، بل الموجود في الخارج شيء واحد وهو الاستطاعة ، لكن باعتبار أنّها تعطي للإنسان مقدرة تسمى قدرة واستطاعة ، وباعتبار سبق العدم عليها ينتزع منها الحدوث ، وباعتبار استمرار وجودها ينتزع منها البقاء ، فلا يلزم ـ لو قلنا ببقاء القدرة بعد حدوثها ـ أن يكون للقدرة عرض ووصف باسم البقاء يغايرها في العين والتحقّق.
    وبعبارة ثالثة : إنّ الأعراض على قسمين : قسم يعتبر في صحّة حمله على الموضوع ، اتصافه بصفة خارجية مصححة لحمل العرض على الموضوع ، كحمل الأبيض على الجسم ، حيث يعتبر فيها اتصاف الجسم بشيء كالبياض ، وهذا ما يسمى ب ـ « المحمول بالضميمة ».
    وقسم لا يعتبر في صحّة حمله على الشيء وجود حيثية خارجية في جانب الموضوع ، لكن الموضوع يكون على نحو يصحّ معه انتزاع ذلك لمفهوم العرضي منه ، كانتزاع الإمكان من الإنسان ، فلا يعتبر في حمله عليه تحقّق وصف وجودي ، بل يكفي واقعية وجوده لحمله عليه. وهذا ما يسمّى ب ـ « الخارج المحمول » وانتزاع البقاء من القدرة الحادثة من هذا القبيل فلها طوران من الوجود :
    أ. وجود حادث غير مستمر ومنقطع.
    ب. وجودحادث مستمر.
    فينتزع من الأوّل ، الزوال والانقضاء ، ومن الثاني البقاء والاستمرار ، فليس لهما وراء نحو وجود القدرة والاستطاعة ، مطابق خارجي.
    والنتيجة هي : أنّ بقاء القدرة في الآن الثاني ليس متوقفاً على انضمام وصف إليه باسم البقاء عارض للقدرة حتى يلزم منه بقاء الوصف بالوصف والعرض بالعرض.
    وما ذكره من أنّ دليل امتناع قيام الوصف يستلزم جواز قيام القدرة بالقدرة موهون جداً ، فإنّ عدم الصحّة في تلك الموارد إنّما هو لأجل أنّ قيام القدرة بالقدرة يستلزم اجتماع المثلين ، وهو محال ، سواء أقلنا بجواز قيام العرض بالعرض أم لا ، فإنّ القدرتين وصفان متماثلان ، والمتماثلان لا يجتمعان.


(173)
    إلى هنا تمّ ما يرومه الشيخ الأشعري في كتاب« اللمع ».
    فهلمّ معنا ندرس ما ذكره تلاميذ مدرسته تأييداً لمؤسسها ، لقد ذهب المحقّق التفتازاني في شرح المقاصد ، ونظام الدين القوشجي في شرح التجريد ، إلى ما ذهب إليه مؤسس المنهج ، واستدلاّ على لزوم مقارنة القدرة مع الفعل بوجوه نشير إليها :
    1.إنّ القدرة عرض ، والعرض لا يبقى في زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلة ، وهو محال (1). (2)
    ولا يخفى أنّ هذا البرهان إن صحّ فهو غير ما ذكره الشيخ الأشعري في « اللمع » ، والعجب أنّ الدكتور عبد الرحمن بدوي قد فسر عبارة « اللمع » بما جاء في « شرح المقاصد » (3) ، وهو غير صحيح.
    أقول : الظاهر أنّ المستدل لم يصل إلى كنه القول بعدم بقاء الأعراض ، فزعم أنّ المقصود من تجدّد الأمثال في الأعراض وتصرمها وعدم بقائها في آنين ، هو أنّ العرض في الآن الثاني ، غيره في الآن الأوّل ماهية ووجوداً وتشخيصاً ، بحيث يرد على الثلج والقطن بياضات مفصولة وألوان متجزئة ، حسب تصرّم الآنات وتقضّيها ، ولكنّه فاسد ، فإنّ المراد أنّ البياض الموجود في الآن الأوّل ، ليس أمراً ثابتاً وجامداً لا يتطرق إليه التغيّر والتبّدل ، بل هو مع حفظ وحدته وتشخصه واقع في إطار التغيّر والتبدّل ، ومثل ذلك يعني أنّ الشيء الواحد مع حفظ وحدته الشخصية ، له وجود سيال في عمود الزمان ، فالعرض باق في عين تغيّره ، ومحفوظ في عين تبدّله ، فلا يضرّالتغيّر بوحدته ولا الحركة بتشخّصه.
1 ـ شرح المقاصد : 1/240 ، وقد عبر بنفس تلك العبارة الفاضل القوشجي. لاحظ شرح التجريد المطبوع قديماً : 362.
2 ـ المسألة مبنية على كون القدرة عرضاً ، وامتناع بقاء الأعراض ، وكلاهما أمران نظريان يحتاجان إلى البرهنة ، وقد افترضهما المستدل أمرين ثابتين. لاحظ نقد المحصل للمحقّق الطوسي : 165.
3 ـ مذاهب الإسلاميين : 563.


(174)
    وبعبارة أُخرى : إنّ هناك منهجين : منهج الكون والفساد ، ومنهج الحركة والتكامل.
    فالأوّل يهدف إلى انقطاع صلة الموجود في الآن الثاني عن الموجود في الآن الأوّل ، ويتخيّل أنّ تبدّل النار إلى الرماد والماء إلى البخار ، من هذا القبيل ، فيبطل كون ويحصل كون آخر ، أو يفسد وجود ويصلح وجود ثان.
    والثاني يهدف إلى حفظ الصلة والرابطة بين الموجودين في جميع الآنات من غير فرق بين تبدّل الأكوان وتجدّد الأعراض ، ويعني من تجدد الأمثال في الأعراض ـ بل سريان الحركة في جميع عوالم الموجود المادي ـ أنّ الأشياء بجوهرها وأعراضها مع حفظ وحدتها وتشخّصها تنحو نحو التغيّر والتبدّل مرّة ، وإلى الكمال مرّة ثانية ، وليس الموجود في الآن الثاني منقطع الرابطة والصلة عن الموجود في الآن الأوّل.
    وإن شئت قلت : إنّ للسواد باشتداده ، والبياض عند اكتماله فرداً شخصياً زمانياً مستمراً متصلاً بين المبدأ والمنتهى ، محتفظاً بوحدته الشخصية ، ومثله سائر الحركات في الأعراض ، وعلى ذلك فمع القول بتبادل الأعراض وتجدّد أمثالها ، يظهر أنّ للمتجدّدات والمتصرّمات المتلاحقة ، نحو وحدة ونحو بقاء ، فلا يعدّ اللاحق مغايراً للسابق ، بل صورة بقاء له ، وكيفية وجود لما حدث أوّلاً.
    وعلى ذلك فالقدرة وإن كانت كيفية نفسانية قائمة بالنفس ، لكن تغيّرها وتبدّلها وحركتها وتكاملها ، لا يوجب أن يكون الموجود منها في الآن الثاني مغايراً من جميع الجهات للموجود في الآن الأوّل. بل التغيّر والتبدّل والحركة والتكامل تتحقّق مع حفظ الوحدة الشخصية بين ما دثر وما بقي.
    وإن شئت فلاحظ وجود الحركة في المقولات العرضية ، فإنّ في حركة التفاحة في كيفها وكمّها لوناً سيّالاً بعرضها العريض ، وكمّاًسيّالاً كذلك ، فمجموع ما يتوارد عليها من الألوان والكمّيات شيء واحد سيّال متفاوت الدرجات ، باق في عين التغيّر ومحفوظ في عين التبدّل.
    2. إنّ الفعل حال عدمه ممتنع لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا


(175)
    شيء من الممتنع بمقدور. (1)
    والجواب عنه واضح; فإن أُريد من كون الفعل ممتنعاً حال العدم امتناعاً بالذات فهو باطل ، إذ الممكنات في حال العدم ممكنات بالذات ، كما أنّ الممتنعات بالذات كذلك. ولا يلزم من كون الشيء معدوماً كونه ممتنعاً بالذات ، وإلاّ يلزم أن لا يصحّ الإيجاد والتكوين; وإن أُريد أنّه ممتنع بالغير فنمنع عدم كونه مقدوراً بل الممتنعات بالغير مقدورات أيضاً ، بحجّة أنّه كلما تعلقت بها إرادة الفاعل ومشيئته تتحقّق في الخارج.
    وقد استدلّ أصحاب منهج الشيخ الأشعري ببرهان ثالث وهو من الوهن بمكان لا يصحّ أن يذكر أو يسطر. (2)
حصيلة البحث ضمن أُمور
    1. البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها معه ، لا يرجع إلى محصل ، وهو بحث قليل الفائدة أو عديمها ، ويشبه أن يكون البحث لفظياً ، فهو يريد من القدرة أحد الأمرين :
    الأوّل : صحّة الفعل والترك ، وإن شئت قلت : كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل ، فلا شكّ أنّ القدرة بهذا المعنى مقدمة على الفعل فطرةً ووجداناً ، فإنّ القاعد قادر على القيام حال القعود بهذا المعنى ، والساكت قادر على التكلم في زمن سكوته لكن بالمعنى المزبور.
    الثاني : ما يكون الفعل معه ضروري الوجود ( أي اجتماع جميع ما يتوقّف وجود الفعل عليه ) فالقدرة بهذا المعنى ( لو صحّ إطلاق القدرة عليه ، ولن يصحّ ) مقارنة مع الفعل غير منفكة عنه ، وهذا مفاد القاعدة التالية : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » وعلى ذلك (3) فلو أُريد المعنى الأوّل فهذا
1 ـ المقاصد : 1/259 ، شرح التجريد للقوشجي : 362.
2 ـ لاحظ المواقف : 6/88 قول الماتن : القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، وإلاّفلنفرض وجوده فيه الخ.
3 ـ وقد صرّح الأشعري بأنّ مراده من القدرة المعنى الثاني في « اللمع » عند الاستدلال ببعض الآيات القرآنية على مذهبه حيث قال : وهذا بيان أنّ ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل وأنّها إذا كانت كان لامحالة ، فهذا صريح في أنّ القدرة إذا تحقّقت تحقّق الفعل لا محالة. اللمع : 155.


(176)
    متقدّم ، ولو أُريد المعنى الثاني فهو مقارن زماناً متقدّم رتبة. وسيوافيك ما يفيدك عن الإمام الرازي ، في هذا المجال.
    2. إنّ الشيخ الأشعري مع تركيزه على مقارنة القدرة مع الفعل يعترف بتقدّمها في واجب الوجود على الفعل ، وإلاّ فلو قلنا هناك بالمقارنة يلزم إمّاحدوث قدرته سبحانه مقارناً لحدوث الأفعال ، أو قدم فعله سبحانه ، وكلاهما باطلان. وعندئذ يسأل صاحب المنهج : كيف فرّق بين القدرتين مع أنّ الملاك واحد؟ وكيف اعترف بالتقدّم في الخالق ونفى إمكانه في المخلوق ، مع أنّ ما أقام من البرهان ، أو أقامه أشياعه من البراهين على الامتناع ، جار في الواجب سبحانه حرفاً بحرف.
    ثمّ إنّ أتباع الشيخ تصدّوا للدفاع عن هذا النقد الصارم بوجوه موهونة جدّاً وقالوا :
    أ. نمنع الملازمة وإنّما تتم هذه الملازمة لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين ، فلا يلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله ، كون الأولى كذلك أيضاً.
    ب. إنّ قدرة الله تعالى قديمة ، ولها تعلّقات حادثة ، مقارنة للأفعال الصادرة ، والكلام في تعلّق القدرة ، والأزلي إنّما هو نفس القدرة ، وكونها سابقة قديمة لا ينافي كون تعلّقها مقارناً حادثاً ، فلا يلزم من كون تعلّق القدرة القديمة مع الفعل ، قدم الحادث أو حدوث القديم. (1)
    ولا يخفى أنّ كلاً من هذين الجوابين غير مجد.
    أمّا الأوّل : فلأنّ كون قدرة الواجب قديمةوغير حادثة لا يكون فارقاً في المسألة ، فإنّ البراهين التي أُقيمت من جانب الأشاعرة على امتناع تقدّم
1 ـ المقاصد : 2/241 ، وشرح التجريد للقوشجي : 362.

(177)
    القدرة على الفعل ، مشتركة بين كلتا القدرتين.
    وإن شئت فلاحظ البرهان الثاني الذي نقلناه عن المقاصد وشرح التجريد. وقالوا : « إنّ الفعل حال عدمه ممتنع ، لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا شيء من الممتنع بمقدور » فلو كان الشيء في حال العدم ممتنعاً فهو موصوف بالامتناع ، تجاه القدرة الواجبة أو القدرة الممكنة معاً ، من غير فرق بينهما.
    نعم ، ما نقلناه عن « لمع » الأشعري من البرهان على الامتناع ربما لا يجري فيه سبحانه ، لأنّ صلب البرهان هنا كون القدرة عرضاً قائماً بالنفس وقدرته سبحانه ليست عرضاً ولا جوهراً ، اللّهمّ إلاّ أن تكون القدرة الواجبة عنده عرضاً قائماً بذاته ، كما هو غير بعيد من قوله بالصفات القديمة الزائدة على الذات.
    أمّا الثاني : فمحصله أنّ نفس القدرة القديمة ، والحادث أعمالها ، ولكن لو صحّ ذلك لصحّ في الإنسان وغيره ، بأن يقال أصل القدرة متقدمة والأعمال متأخّرة.
    3. إنّ من الأُصول المسلّمة عند الأشعري; حصر الخالقية على الإطلاق في الله سبحانه وأنّه لا خالق ولا مؤثر لا بالذات ولا بالطبع إلاّ هو ، والأسباب والعلل كلّها علامات وإشارات إلى تعلّق إرادته سبحانه ، بإيجاد الشيء بعدها ، وعلى هذا الأصل أنكر مسألة العلية والمعلولية ، والسببية والمسببية في عوالم الوجود ، وحصرها في ذاته تعالى ، و قد تواتر عن الأشاعرة قولهم : « جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك » و على هذا الأصل قام سبحانه مكان جميع العلل المجردة والمادية.
    وقال شاعرهم نافياً لأصل العلية بأي معنى فسرت في غيره سبحانه :
    
ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة
    أقول : لو صحّ هذا الأصل ( ولن يصحّ أبداً لمخالفته لصريح الآيات ، وصرورة العقل والفطرة ) لكان البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنته معها ، فضولاً في الكلام وإضاعة للوقت ، فإنّه يسلم أنّ القدرة فيه سبحانه


(178)
    متقدمة على الفعل ، وأمّا في غيره فليس هناك تأثير وسببية ، ولا اقتدار ، بل الفواعل كلّها تكون كآلات النجار والحدّاد ، بل أنزل من ذلك ، لأنّها مؤثرات غير اختيارية عندنا ، وليس العباد عندهم حتى بمنزلتها.
    ولما كان القول بهذا الأصل ساقطاً عند العقل والعقلاء ، ومضاداً للفطرة السليمة ، حاول الأشعري تصحيحه بإضافة نظرية الكسب على خالقية الرب ، قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وأنّ الأفعال واقعة بقدرة الله وكسب العبد ، بمعنى أنّ الله أجرى عادته بأنّ العبد إذاعقد العزم على الطاعة مثلاً ، يخلق سبحانه فعل الطاعة ، وربما يمثلون لتفهيمه بمن يحمل شيئاً ثقيلاً على كاهله ويذهب به ويجعل شخص آخر يده تحت ذلك الحمل من غير أن يكون شيء من وزره وثقله على يده.
    ولا يخفى أنّ إضافة الكسب لا تحلّ المشكل ، إذ على هذا الأصل أيضاً يكون الخالق والقادر هو الله سبحانه ، وليس لعبد شأن في الفعل ، وإنّما شأن العبد ينحصر في عقد العزم على الطاعة أو المعصية ، فعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يبحث هل القدرة على العزم مقترنة به أو متقدمة عليه؟ ومثل هذا لا يليق بهذا البحث المبسوط ، ولا يشكّ أحد في تقدّم القدرة على العزم على نفسه.
    ونعم ما قال علاّمة الشيعة في « نهج الحق » : إنّ القدرة حسب مذهب الأشاعرة غير مؤثرة ألبتة ، لأنّ المؤثر في الموجودات هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول لأنّه خلاف مذهبهم. (1)
    والعجب من الفضل بن روزبهان الأشعري ، حيث إنّه مع تصريحه بأنّ قدرة العبد غير مؤثرة في الفعل ، أجاب عن الإشكال بأنّه لا يلزم من عدم كون القدرة مؤثرة فيه ، الاستغناء عنها في جميع الوجوه كاتصاف الفعل باختيار ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولاً.
    يلاحظ عليه : أنّه لو كانت القدرة غير مؤثرة في فعل الإنسان يكون
1 ـ دلائل الصدق : 1/324.

(179 )
    البحث عن تقدّم القدرة أو تقارنها لغواً ، وإن كانت لقدرة العبد عند خلق الأفعال من جانبه سبحانه فوائد وثمرات أُخرى فهي لا تمت إلى المقام بصلة.
    4. الحقّ أن يقال : إنّ المسألة بديهية للغاية ، وما أُثير حولها من الشبهات ـ خصوصاً ما ذكره في « اللمع » ـ أشبه بالشبهات السوفسطائية ، إذ كلّ إنسان يحس من فطرته أنّه قادر على القيام قبل أن يقوم ، فالخلط حصل بين القدرة بمعنى الاستعداد لصدور الفعل ، والقدرة بمعنى ما لا ينفكّ عنه الفعل ويقترن به ، وكفى في ثبوت المسألة ، الفطرة الإنسانية أوّلاً ، وتقدّم قدرته سبحانه على فعله ثانياً.
    وبذلك يظهر أنّ ما أقامه المعتزلة من البراهين على تقدّمها على الفعل تنبيهات على المسألة ، ولنعم ما قال المحقّق اللاهيجي : إنّ الدعوى ضرورية ، وهذه الوجوه تنبيهات عليها ، كيف والقطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام ، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان. (1)
    5. ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الحافز أو الحوافز التي دعت الشيخ الأشعري إلى اختيار ذلك المذهب ، فإنّ القول بتقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها له ، لا يمس كرامة الدين والشريعة ولا النصوص الواردة فيها ، فما هو الداعي إلى اختيار القول بالتقارن ، بل التركيز عليه؟
    ويحتمل أن يكون الداعي هو قوله : « إنّ أفعال العبد مخلوقة لله سبحانه لا للعباد ، لا أصالة ولا تبعاً ». والمناسب لتلك العقيدة حينئذ رفض القدرة المتقدمة للعبد على الفعل ، والاكتفاء بالمقارن لأجل تحقّق عنوان الطاعة والعصيان بالعزم عليهما.
    وإلى ما ذكرنا أشار القاضي عبد الجبار فقال : ولعلّهم بنوا ذلك للّهعلى أنّ أحدنا لا يجوز أن يكون محدثاً لتصرّفه ، وأنّهم لما أثبتوا أنّ الله تعالى محدث على الحقيقة ، قالوا : إنّ قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له. (2)
1 ـ الشوارق : 441.
2 ـ شرح الأُصول الخمسة : 396.


(180)
    وكأنّ الشيخ يتصوّر أنّ القدرة المتقدّمة للفعل تزاحم قدرة الله عليه ، فلأجل ذلك وجد في نفسه حافزاً نفسياً إلى البرهنة على بطلان التقدّم وإثبات التقارن.
    وما ذكرنا من الوجه يلائم عقيدة الشيخ في خلق الأعمال ، ولكن القول ببطلان التقدّم و لزوم التقارن لا يختص بالشيخ ، بل اختاره عدّة من المعتزلة ، والمتقدّمين على الشيخ عصراً ، يقول شارح المواقف : قد وافق الشيخ ـ في أنّ القدرة حادثة مع الفعل ـ كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وابن عيسى الورّاق وغيرهم. (1)

القدرة صالحة للضدين
    ثمّ إنّ هناك مسألة تتفرّع على المسألة الأُولى ، وهي أنّ القدرة صالحة للضدين ، وهذا ما يعطيه مفهوم القدرة ، فالقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، فلو فرضنا صلاحية القدرة لأحد الضدين فقط ، لم يكن الآخر مقدوراً ، فلا يصدق على الفاعل كونه قادراً ولا على عمله أعمال القدرة ، وقد خالف في ذلك الأشاعرة فالقدرة الواحدة عندهم لا تتعلّق بالضدّين ، بل لا يتعلّق إلاّ بمقدور واحد ، سواء أكان المقدور الآخر ضداً أم لا.
    و بما ذكرنا من التحقيق في المسألة الأُولى ، وأنّ النزاع هناك في أمر واضح يتضح حال هذه المسألة ، فإنّه لو أُريد من القدرة قابلية الفاعل واستعداده لأن يفعل فلا شكّ أنّها تتعلّق بالضدّين ، كما تتعلّق بالمتماثلين والمتخالفين ، وإن أُريد القوة الموجبة للفعل بحيث تجعل الفعل واجب التحقّق ، والفاعل واجب الفاعلية فلا شكّ أنّها لا تتعلّق إلاّ بمقدور واحد.
    وإن شئت قلت : القدرة بمعنى العلّة الناقصة لصدور الفعل متقدمة على الفعل صالحة للتعلّق بالضدين ، وأمّا إذا كانت بمعنى العلّة التامّة غير المنفكة
1 ـ شرح المواقف : 6/92.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس