الملل والنحل جلد الثاني ::: 271 ـ 280
(271)
(15)
عموم إرادته لكلّ شيء

    إنّ من آرائه هو عموم إرادة الله سبحانه لكلّ شيء ، ويعد ذلك من المسائل الرئيسية في مذهبه ، وحاصله : أنّ كلّ ما في الكون من جواهر وأعراض حتى الإنسان وفعله ، مراد لله سبحانه ، تعلّقت إرادته بوجوده ، وليس شيء في صفحة الوجود خارجاً عن سلطان إرادته ، ولا يقع شيء من صغير وكبير إلاّ بإرادة منه سبحانه. ويقابل ذلك مذهب المعتزلة حيث جعلوا أفعال العباد خارجة عن حريم إرادته ، فإيمان العبد وكفره وعصيانه وإطاعته لم تتعلّق بها إرادته سبحانه ، وإنّما خلقه وفوض إليه إرادته. وإنّما اختلف المذهبان في عموم الإرادة وعدمه ، لأجل التحفّظ على عدله سبحانه والتخلّص عن الجبر وعدمهما ، فالأشعري ومن حذا حذوه لا يتحاشون عن الاعتقاد بالأصل أو الأُصول التي تساند الجبر وتستلزمه ، بناءً على ما أسّسه من كون الحسن ما حسّنه الشرع ، والقبح ما قبّحه الشارع ، وليس للعقل دور في تشخيص الحسن والقبح. وهذا بخلاف المعتزلة فإنّ للتحسين والتقبيح دوراً عظيماً في تكييف مذهبهم ، وعلى هذا الأساس ذهب الأشعري إلى عموم إرادته سبحانه لكلّ شيء من وجوده وفعله ، من غير فرق بين الإنسان وفعله ، سواء أوافق العدل أم خالفه ، استلزم الجبر أم لا.
    وزعمت المعتزلة أنّ القول بعموم الإرادة يستلزم الجبر في أفعال البشر ، وهو ينافي عدله سبحانه. ولا معنى لأن يريد سبحانه كفر العبد وهو يأمر بالإيمان به ، ويعذبه على ما أراده منه ، وسيوافيك الكلام في استلزام عموم


(272)
    إرادته الجبر وعدمه. وعلى كلّ تقدير فقد استدل الأشعري على مقالته بوجوه عقلية ونقلية ، نشير إلى أُمهاتها :
الأدلّة العقلية على عموم إرادته
    1. إنّ الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة لكلّ ما يجوز أن يراد على حقيقته. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه لم يبيّن وجه الملازمة بين كون الإرادة من صفات الذات وعموميتها لجميع المحدثات ، فكون الإرادة من صفات الذات لا يستلزم تعلّقها بكلّ ما يجوز أن يراد.
    اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى وجه آخر ، وهو كون الإرادة من صفاته الذاتية ، والذات علّة تامّة بلا واسطة لكلّ شيء ، فيستنتج عموم إرادته لكلّ شيء من عموم علّيّة ذاته لكلّ شيء كما سيذكره.
    2. دلّت الدلالة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء حادث ، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده. (2)
    3. قد دلّت الدلالة على أنّ كلّ المحدثات مخلوقات لله تعالى ، فلمّا استحال أن يفعل الباري تعالى مالا يريده ، استحال أن يقع من غيره ما لا يريده ، إذ كان ذلك أجمع أفعالاً لله تعالى. (3)
    ويلاحظ على الوجهين : أنّهما مبنيان على أصل غير مسلَّم عند المعتزلة وهو أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، وأنّه سبحانه علّة تامة لها ، وفاعل مباشري لكلّ شيء ، وقائم مقام جميع العلل والأسباب.
    4. إنّه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى مالا يريده ، لأنّه لو كان في سلطان الله تعالى مالا يريده لوجب أحد أمرين : إمّا إثبات سهو وغفلة ، أو
1 ـ اللمع : 47.
2 ـ نفس المصدر.
3 ـ نفس المصدر.


(273)
    إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده ، فلمّا لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه مالا يريده. (1)
    5. لو كان في العالم مالا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه ، ولو كان ما يكره كونه ، لكان يأبى كونه. وهذا يوجب أنّ المعاصي كانت ، شاء الله أم أبى. وهذه صفة الضعيف المقهور. وتعالى ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً. (2)
    يلاحظ على الوجهين : أنّ عدم تعلّق إرادته ليس بمعنى تعلّق إرادته بعدمه ، فلا يكون صدور الفعل عن الغير دليلاً على سهوه أو عجزه كما زعم ، كما لا يكون دليلاً على كونه مقهوراً ، إذ عدم كراهية وجود المعاصي لا يلازم كراهية عدمه ، حتى يستدلّ بوقوعها على المقهورية.
    وفي الختام ، إنّ القول بعموم إرادته سبحانه لكلّ ما لا يجوز أن يراد عند الأشاعرة ، يتفرع على أصل آخر ، وهو أنّه سبحانه خالق لكلّ شيء مباشرة ، وأنّه لا سبب ولا علّة في دار الوجود إلاّ هو ، وليس لغيره أي سببية وتأثير استقلالاً وتبعاً. فلازم ذلك القول إنكار النظام السببي والمسببي ، والاعتراف بعلة واحدة قائمة مقام جميع العلل الطبيعية والمجردة ، وهذا القول لا ينفك عن عموم إرادته لكلّ شيء ، فكان الأصل هو مسألة خلق الأعمال عندهم ، ويترتب عليها القول بعموم إرادته. ويشهد لذلك بعض ما مرّ من أدلّة الشيخ الأشعري كالدليل الثاني.
    قال الرازي في المحصل : « إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات خلافاً للمعتزلة.[وسبق] لنا أن بيّنا أنّه تعالى خالقها ، وقد تقدّم أنّ خالق الشيء مريد لوجوده ». (3)
    وقال القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف : إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون لنا ، أمّا أنّه مريد للكائنات فلأنّه خالق
1 ـ اللمع : 49.
2 ـ اللمع : 57 ـ 58.
3 ـ تلخيص المحصل : 334.


(274)
    الأشياء كلّها لما مرّ من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة. (1)
    ثمّ إنّ الأشاعرة زعمت أنّ في ذلك القول تعظيماً لقدرة الله تعالى وتقديساً لها عن شوائب النقصان والقصور في التأثير ، ولكن غفلوا عن أنّ تفسير إرادته عن طريق خلق الأعمال مباشرة وبلا واسطة ، وإنكار سلسلة العلل والمعاليل في دار الوجود ، يستلزم نسبة كلّ عيب وشين إلى الله سبحانه ، فكفر الكافر مراد لله سبحانه لأنّه خالقه ، وإن كان المسؤول هو الكافر المجبور المكتوف الأيدي.
    نعم ، تفسير عموم إرادته بهذا الوجه في جانب الإفراط ، كما أنّ قول المعتزلة بإخراج أفعال العباد عن حريم إرادته في جانب التفريط ، حيث زعموا أنّه سبحانه أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، ففوض إليهم الأمر ، فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على طبق مشيئتهم وقدرتهم متمسكين بالقول المعروف : « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ناسين القول الآخر : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » وقد ندّد أئمّة الإمامية بكلا الرأيين فقد سأل محمد بن عجلان الصادق ( عليه السَّلام ) فقال له : فوض الله الأمر إلى العباد؟ فقال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم ». قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال : « الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ». (2)
    وقال الإمام موسى الكاظم ( عليه السَّلام ) في ذم المفوضة :
    « مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزّوجلّ بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه ». (3)
    وعلى ضوء ذلك فيجب تفسير عموم إرادته على وجه يليق بساحته ، مع
    التحفّظ على الأُصول المسلّمة العقلية فنقول :
1 ـ شرح المواقف : 8/174.
2 ـ التوحيد للصدوق : 361 ، الحديث6.
3 ـ بحار الأنوار : 5/54 ، الحديث93 ، ط طهران.


(275)
التفسير الصحيح لعموم إرادته
    لا شكّ أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي عرّفناك به عند البحث عن « خلق الأعمال » هو كون ما في الوجود مخلوقاً لله سبحانه ، لكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب ، بل بمعنى انتهاء كلّ الأسباب والمسببات إليه سبحانه ، كانتهاء المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، وقيام الممكن بالذات ، بالواجب بالذات.
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ إرادته سبحانه من صفات ذاته ، وإن لم نحقّق كنهها ، لأنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، غير أنّ الإرادة في الإنسان طارئة حادثة ، وفيه سبحانه ليست كذلك.
    فإذا كانت إرادته نفس ذاته ، والذات هي العلّة العليا للكون فلا يكون هناك شيء خارج عن حريم إرادته ، فكما تعلّقت قدرته بكلّ شيء ، تعلّقت إرادته به ، ولا يكون في صفحة الوجود شيء خارج عن سلطان إرادته.
    ولكن وزان عمومية إرادته لكلّ شيء ، وزان عمومية قدرته لكلّ شيء ، فكما أنّ عمومية الثانية لا تسلتزم الجبر ، فهكذا عمومية الإرادة ، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل كلّ شيء عن فاعله على وجه الإلجاء والاضطرار ، بل تعلّقها به على قسمين : قسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله على نحو الاضطرار ، ولكن لا عن شعور ، كالحرارة بالنسبة إلى النار; أو عن شعور ، ولكن لا عن إرادة واختيار ، كحركة المرتعش. وقسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله عن اختيار.
    فمعنى تعلّق إرادته بفعل الإنسان هو تعلّق إرادته بكونه فاعلاً مختاراً يفعل ما يشاء في ظل مشيئته سبحانه ، فقد شاء أن يكون مختاراً ، وفي وسعه سبحانه سلب اختياره وإلجاؤه إلى أحد الطرفين من الفعل والترك.
    وباختصار : إنّه كما تعلقت إرادته بصدور فعل كلّ فاعل عنه ، كذلك تعلّقت إرادته بصدور فعله عن المبادئ الموجودة فيها.


(276)
    فالفواعل الطبيعية غير المختارة تعلّقت إرادته بصدور آثارها عنها بلا علم أو بلا اختيار ، وأمّّا غيرها فقد تعلّقت بصدور أفعاله ( الإنسان ) عن المبادئ الموجودة فيه ، ومن المبادىء كونه مختاراً في تعيين الفعل وترجيحه على الترك.
    وعموم الإرادة بهذا المعنى لا يستلزم الجبر بعد التأمل والإمعان. وأمّا النقل فيشهد على عمومية إرادته بعض الآيات ، وإليك قسماً منها :
    1. قال سبحانه : وَما تَشاءُونَ إِلاّ أنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمينَ . (1)
    وهو صريح في أن تعلّق مشيئة الإنسان بعد تعلّق مشيئة الله ، لا قبله ولا معه.
    2. وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله . (2)
    وهذا أصل عام في عالم الوجود وإنّما ذكر الإيمان من باب المثال.
    3. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقينَ. (3)
    فقطع الأشجار أو إبقاؤها على أُصولها من أفعال الإنسان كان مشمولاً لإذنه سبحانه ومتعلّقاً به.
    هذا إجمال ما أوضحناه في الأبحاث الكلامية ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مظانّها.
1 ـ التكوير : 29.
2 ـ يونس : 100.
3 ـ الحشر : 5.


(277)
(16)
التحسين والتقبيح العقليان

    قد عنون الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم « التعديل والتجوير » وهذه المسألة ، تعد الحجر الأساس لكلام الأشعري وعقيدة أهل الحديث والحنابلة. فالشيخ تبعاً لأبناء الحنابلة صوّر العقل أقلّ من أن يدرك ما هو الحسن وما هو القبيح ، وما هو الأصلح وما هو غيره ، قائلاً بأنّ تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية ، وتقيدها بقيد وشرط ، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل ، كما عليه الاجتناب عمّا هو القبيح عنده. فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية قالوا : لا حسن إلاّما حسّنه الشارع ، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه ، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسناً.
    أقول : الإنسان المتحرر عن كلّ عقيدة مسبقة ـ وعن كلّ عامل روحي يمنعه عن الاعتناق بحكم العقل في ذلك المجال ـ يصعب عليه الإذعان بصحّة عقوبة الطفل المعصوم ، وتصويره حسناً وعدلاً. ولا تجد إنساناً على أديم الأرض ينكر قبح الإساءة إلى المحسن. فعند ذلك يتوارد السؤال عن العلة التي دفعت الأشعري إلى هذه العقيدة ، ولم يكن ذلك إلاّ لمواجهة المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع ، وإخضاعهم الدين له ، حتى صاروا يؤوّلون بعض ما لا ينطبق من الشرع على أُصولهم العقلية. فصار ذلك الإفراط دافعاً للشيخ إلى التفريط والتورط في مغبة إعدام العقل ورفضه عن ساحة الإدراك على الإطلاق.


(278)
    ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من تفكير الأشعري في هذا الباب ننقل بعض عباراته من كتابه « اللمع » :
    يقول : فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟
    قيل له : لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ـ إلى أن قال ـ : ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان. وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين ، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (1)

دليل الأشعري على نفي التحسين والتقبيح العقليين
1. هو المالك القاهر
    استدلّ الأشعري على مقالته ، بقوله : والدليل على أنّ كلّ ما فعله ، فله فعله ، أنّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ولا زاجر ، ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم ، وحد له الحدود.
    فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا ، لأنّا تجاوزنا ما حُدَّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلمّا لم يكن البارئ[مملوكاً ]ولا تحت أمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه ، قيل له : أجل ، ولوحسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا : فجوّزوا عليه أن يكذب ، كما جوّزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به. (2)
    يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فإنّنا نسأل الشيخ الأشعري إنّه سبحانه إذا آلم طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب ، ورأى ذلك بأمّ عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحسن ، أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً منكراً؟ ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله ، مع
1 ـ اللمع : 116 ـ 117.
2 ـ نفس المصدر.


(279)
    كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل ، غير متجاوز عنه ، بحجّة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟
    وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، يقدر على كلّ أمر ممكن كما عرفت من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه ، نوع تدخل في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحقّ غير ذلك.
    توضيحه : إنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه ، وإنّ أيّ فعل يصدر منه تعالى وأيّ منه لا يصدر ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه بل هو ـ بالنظر إلى الله وصفاته التي منها الحكمة والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.
    وبعبارة أُخرى : إنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكلّ الكمال ، والغني عن كلّ شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقق الصارف عنه وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح ، ولا تهدف به إلى تحديد فعله


(280)
    من جانب العقل ، بل الله ، بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.
    وباختصار : إنّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً ، ومتحرّراً عن كلّ سلب وإيجاب ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعية وحقيقة يكشف عنها العقل ، كما يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرر من كلّ قيد وحدّ ، بحجّة حفظ شأن الله سبحانه وسعة قدرته ، أشبه بالمغالطة ، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعله عن كلّ قيد وشرط.
    وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليّين ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري. 2. لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف
    قالوا : « لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه و بين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكن التالي باطل بالوجدان ».
    وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « ويجوز التفاوت في العلم لتفاوت التصور ». (1)
    توضيحه : أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. وقد قرر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب ، فالأوّليات أبدَهُ من المشاهدات بمراتب ، والثانية أبده من التجريبيات ، والثالثة أبده من الحدسيات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريات.
1 ـ كشف المراد : 186 ـ 187 ، ط صيدا.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس