الملل والنحل جلد الثاني ::: 281 ـ 290
(281)
    والضابط في ذلك أنّ مالا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوّليات ، وهكذا.
    فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.
    وباختصار : إنّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ، ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته. 3. لو كان الحسن والقبح عقليّين لما تغيّرا
    إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لمّا اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن. والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح. وذلك فيما إذا تضمّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك ، والصدق إهلاكه.
    وباختصار : لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما توقفت عليه عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله.
    وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « وارتكاب أقلّ القبيحين مع إمكان التخلّص ». (1)
    توضيحه : أنّ الكذب في الصورة الأُولى على قبحه ، وكذاالصدق على حسنه ، إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح منه ، فيحكم العقل بارتكاب أقل القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض ( أي التورية ).
    وباختصار : إنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق ، فيكون تركه أقبح من الكذب ، فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.
1 ـ كشف المراد : 187.

(282)
    أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال مبني على كون قبح الكذب وحسن الصدق ، كقبح الظلم وحسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران ، لا على القول بأنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام. منها ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض لحسن الإحسان وقبح الإساءة ، ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وحسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل. ومنها ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، جزاءً أو إيذاءً.
    ثمّ إنّ لنفاة الحسن والقبح العقليين دلائل واهية لا تليق أن تطرح على بساط البحث ، فلنضرب صفحاً عنها.
    إلى هنا تم استعراض أدلّة المنكرين للحسن والقبح العقليين ، فيناسب ـ تكميلاً للبحث ـ استعراض أدلّة المثبتين وهو يتوقف على تبيين ما هو الملاك عند العقل للحكم بأنّ الفعل الكذائي حسن أو قبيح ، ولنقدم البحث في ذلك ، ثمّ نتبعه بذكر براهين المثبتين.

ما هو الملاك لدرك العقل في هذا المجال؟
    إنّ الملاك لقضاء العقل هو أنّه يجد بعض الأفعال موافقاً للجانب الأعلى من الإنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، كما يجد بعضها الآخر غير موافق معه ، وإن شئت قلت : إنّه يدرك أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي المختار ، وبعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحسن الأوّل ولزوم الاتصاف به ، وقبح الثاني ولزوم تركه.
    توضيح ذلك : أنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، فقد قال المعلم الثاني : « إنّ النظرية هي التي بها يجوز الإنسان علم ما ليس من شأنه يعمله إنسان والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته ».
    قال الحكيم السبزواري في توضيحه : إنّ العقل النظري والعقل


(283)
    العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري ، شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل ، مثل : « الله موجود واحد » ، و« أنّ صفاته عين ذاته » ونحو ذلك ، والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و« الرضى والتسليم والصبر محمودة ». وهذا العقل هو المستعمل في علم الأخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أوكضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة. (1)
    ثمّ ، كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضرورية ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية ، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.
    مثلاً : إنّ كلّ القضايا النظرية يجب أن تنتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمى ب ـ « أُمّ القضايا »; مثلاً : لا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين ، قائمتين ، إلاّ إذاحصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما ، وإلاّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضاياالتي قد عرفت ، وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أنّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّلية وواضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.
    فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا ، مثل قولنا : « العدل حسن » و « الظلم
1 ـ تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة : 310.

(284)
    قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن وبالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العملية ، والعقل يدركها من ملاحظة القضية بنفسها ، وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانية ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضية التحسين والتقبيح في قسم من الأفعال ، قضية كلية لا تختص بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختص ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان ، بل تعم الموجود الحي المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضية عامة شاملة لكلّ من يمكن أن يتصف بهذه الأفعال ، كالعدل والظلم فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عن الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للإنسان خصوصية في ذلك القضاء.
    وبذلك يصبح المدعي للتحسين والتقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.
    والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ، ولم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية وبديهية ، أو نظرية وضرورية ، كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.
    فالمسائل المطروحة في الأخلاق ، التي يجب الاتصاف بها والتنزّه عنها ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبر عنهاب تدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.
    فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العملية إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية


(285)
    واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية ، حتى يحصل الجزم بها ، ويرتفع الإبهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين في غنى عن التوسع في طرح أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح ، ولا نذكر إلاّ النزر اليسير ، وإليك بعض أدلّتهم :

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليَّين
    الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً » (1) مفاده : إنّه لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان شرعاً يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.
    توضيحه : انّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب ، فلا إشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً ، وما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والشارع لا يرتكب القبيح ، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.
    وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه ، حتى نعتقد بمضمونه ، لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره ، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب ، لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار ، فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.
    وإن شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر ، كالصدق والكذب ، فلا يستقل بقبح صدور الكذب من الله سبحانه. فإذا أخبرنا عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.
    ثمّ إنّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله :
1 ـ كشف المراد : 186.

(286)
    إنّا لا نجعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكر ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كونه متعلّق النهي والذم. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ البحث تارة يقع في التسمية والمصطلح ، فيصحّ أن يقال : إنّ ما وقع متعلّق الأمر والمدح حسن ، وما وقع متعلّق النهي والذم قبيح. والعلم بذلك لا يتوقّف إلاّ على سماعهما من الشرع. وأُخرى يقع في الوقوف على الحسن أو القبح الواقعيين عند الشرع ، فهذا ممّا لا يمكن استكشافه من مجرّد سماع تعلّق الأمر والنهي بشيء ، إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره ونهيه.
    ولو قال إنّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي احتمال العابثية عن فعله وكلامه ، لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه ، فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه وقبحه على شيء ، وأن يكون العقل مستقلاً في دركه ، وهو حسن الصدق وقبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك ، على أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله ، فيثبت عندئذ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً ، وما تعلّق به النهي قبيح شرعاً. وهذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن ولا قبح بتاتاً.
    الثاني : ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله : « ولجاز التعاكس في الحسن والقبح ». (2)
    توضيحه : أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح يجوز له أن يحسّن ما قبّحه العقل أو يقبّح ما حسّنه.
    وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح
1 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 442.
2 ـ كشف المراد : 186.


(287)
    المسيء. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء » (1). والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله ، ولا يطرحه بما أنّه كلام جديد غفل عنه عامله.
    الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، ولكن يحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء الماديون والملحدون في الشرق والغرب يرفضون الشرائع والدين من أساسه ، ومع ذلك يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.
    ولأجل ذلك يغرون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة ، بدعاياتهم الخبيثة ، من قبيل دعم الصلح والسلام العالمي ، وحفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى والسجناء ونبذ التمييز العنصري ، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون ذلك ليصلوا من خلال هذه الدعايات الفارغة إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.
    والحاصل : انّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء أورد حسنها من الشرع أم لم يرد ، كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكلّ ، سواء أورد قبحها من الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ، ولا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي خالي الذهن من العقائد كلّها ، بين أن يصدق و يعطى ديناراً ، أو يكذب ويعطى ديناراً ، ولا ضرر عليه فيهما فإنّه يرجح الصدق على الكذب ، ولولا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرق بينهما ، ولما اختار الصدق دائماً.
    وهذا يعرب عن أنّ العقل له القدرة على الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم ، وقبح مخالفته ، وأنّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.
    الرابع : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى
1 ـ نهج البلاغة قسم الرسائل برقم : 53.

(288)
    شيء ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين ، وتجويز ذلك سدّ لباب معرفة الأنبياء ، فإنّ أي نبي أتى بالمعجزات عقيب الإدّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.
    وباختصار : لو جاز منه سبحانه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب ـ الذي يسمّيه العقل قبيحاً أو إخلالاً بالواجب ـ لارتفع الوثوق بنبوة مدّعيها وإن أظهر الإعجاز ، لتسويغ إظهار الإعجاز على يد الكاذب على الله سبحانه ، ولارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، لإمكان تطرّق الكذب عليه ، وذلك يفضي إلى الشكّ في صدق الأنبياء ، والاستدلال بالإعجاز على صدق مدّعي النبوة.
    وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز مايترتب على إنكار القاعدة وبذلك سدّوا باب معرفة النبوة.
    والعجب أنّ الفضل بن روزبهان حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله : عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلاً ، بل لعدم جريان عادة الله ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك ، فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء ، لأنّ العلم العادي حكم باستحالة هذا الإظهار. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه من أين وقف على تلك العادة ، وأنّ الله لا يجري الإعجاز على يد الكاذب؟
    وثانياً : أنّه لو كان التصديق متوقفاً على إحراز تلك العادة ، لزم أن يكون المكذّبون لنبوة نوح أو من قبله و من بعده ، معذورين في إنكارهم لنبوة الأنبياء ، إذ لم يثبت عندهم تلك العادة ، لأنّ العلم بتلك العادة يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.
    وباختصار : انّ تحصيل جريان عادة الله على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب يجب أن يستند إلى مصدر ، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة ، وإن كان هو السمع فالمفروض أنّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الادّعاء.
1 ـ دلائل الصدق : 1/369.

(289)
    وبعبارة أُخرى : لا سمع قبل ثبوت نبوة النبي.
    وحصيلة البحث : إنّ منكر الحسن والقبح ، منكر لما هو من البديهيات ، ولا يصحّ الكلام معه ، لأنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء ينازعون في نفس المقدّمات الضرورية ، وليت شعري ، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله سبحانه العبد عن الفعل ويخلق فيه اضطراراً ويعاقبه عليه ، فقل : لو لم يدركه العقل فأي شيء يدركه؟
    قيل : اجتمع النظّام والنجار للمناظرة ، فقال النجار : لم تدفع أن يكلّف الله عبادَهُ ما لا يطيقون؟ فسكت النظام ، فقيل له : لم سكت؟ قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح ، فبم ألزمه؟
التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز
    إنّ التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّّه يسلم وجود التحسين والتقبيح العقليين خارج إطار الوحي ، ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح :
    1. قال سبحانه : انَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (1)
    2. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ . (2)
    3. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ . (3)
    4. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء . (4)
1 ـ النحل : 90.
2 ـ الأعراف : 33.
3 ـ الأعراف : 157.
4 ـ الأعراف : 28.


(290)
    فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف ، قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاًمن صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات من الماء والتراب ، وليس عرفان الإنسان لها موقوفاً على تعلّق حكم الشرع ، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.
    أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته.
    يقول سبحانه : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسدينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار . (1)
    6. يقول سبحانه : أََفَنَجْعَلُ المُسْلِيمنَ كَالْمُجْرِمينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . (2)
    7. يقول سبحانه : هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلاّ الإِحسانُ . (3)
    فالتدبّر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية ، من دون حاجة إلى حجّة ظاهرية.

دور التحسين والتقبيح العقليّين
    إنّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين تحتل مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية إذ بها ينحل كثير من المشاكل في الكلام وغيره ، وإليك بيان بعضها :
1 ـ ص : 28.
2 ـ القلم : 35 ، 36.
3 ـ الرحمن : 60.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس