الملل والنحل جلد الثاني ::: 321 ـ 330
(321)
    عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية ، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه و بين « أبي القاسم بن برهان » في مسألة أفعال العباد؟
    قال القاسم : هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي : إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك ، فتلا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (1) ومدّ بها صوته وكرر « هم لها عاملون »و قوله : لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (2) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال : والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت. (3)
    ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد ، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.
    ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع ، وأُصول المذهب ، وقوة مناظرته ، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً. (4)
    2. ما نقل عنه في كتاب البرهان قال : « إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات »وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة ، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة ، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.
    3. قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط ، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.
1 ـ المؤمنون : 63.
2 ـ التوبة : 42.
3 ـ سير أعلام النبلاء : 18/469و « أكلّه » : أعياه.
4 ـ نفس المصدر : 18/471.


(322)
    قال في « الرسالة النظامية » : ( نشرها محمد زاهد الكوثري عام 1367هـ ) اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة ، وامتنع على أهل الحقّ فحواها ، فرأى بعضهم تأويلها ، والتزم ذلك في القرآن ، وما يصحّ من السنن ، وذهب أئمّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراءالظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأياً ، وندين الله به عقداً ، أنّ اتّباع سلف الأُمّة حجّة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على ترك التعرض لمعانيها ، ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل ، كان ذلك قاطعاً بأنّه الوجه المتبع ، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزّه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرب ، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (1) ووَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (2) و تَجْري بِأَعْيُنِنا (3) وما صحّ من أخبار الرسول ، كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. (4)
قصص الخرافة
    إنّ من يصفه ابن عساكر (5) وغيره بأنّه إمام الأئمّة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً ، المقر بفضله السراة والحراة ، وعجماً وعرباً ، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده الخ ، إلى غير ذلك من كلمات
1 ـ ص : 75.
2 ـ الرحمن : 27.
3 ـ القمر : 14.
4 ـ سير أعلام النبلاء : 18/473 ـ 474.
5 ـ التبيين : 278.


(323)
    التبجيل وعظائم التكريم لا يصدر عنه ما يذكره الذهبي في ترجمته :
    1. قرأت بخط أبي جعفر أيضاً : سمعت أبا المعالي يقول : قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة ، وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام ، كلّ ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق « عليكم بدين العجائز » فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص ، لاإله إلاّ الله ، فالويل لابن الجويني. (1)
    2. قال الحافظ محمد بن طاهر : سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب ـ و كان يختلف إلى درس الأُستاذ أبي المعالي في الكلام ـ فقال : سمعت أبا المعالي اليوم يقول : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت يبلغ بي ما بلغ ، ما اشتغلت به. (2)
    ولو صحّ ذلك ، لما كان ينفعه مجرّد الندم ، بل لكان عليهـ وراء إبراز الندامة ـ أن يأمر بإحراق مسفوراته ، إلاّما كان منها مطابقاً للسنّة ، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول ، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر ، ولعلّ هذه النقول كلّها من موضوعات بعض الحنابلة الذين يروق لهم ترويج مذهبهم بعزوالشخصيات البارزة إلى الانسلاك في سلكهم يوم هلاكهم وموتهم ، يوم لا ينفعهم الندم والانسلاك.
    وكما لا يصحّ ذلك ، لا يصحّ ما نقل أيضاً :
    1. قال محمد بن طاهر : حضر المحدث أبو جعفر الهمداني مجلس وعظ أبي المعالي ، فقال : كان الله ولا عرش ، وهو الآن على ما كان عليه ، فقال أبو جعفر : أخبرنا يا أُستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها ، ما قال عارف قط يا الله إلاّ وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف
1 ـ سير أعلام النبلاء : 18/471.
2 ـ نفس المصدر : 18/474.


(324)
    ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا ، أو قال : فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال : يا حبيبي ما ثم إلاّالحَيْرة ، ولطم على رأسه ونزل ، وبقي وقت عجيب. وقال فيمابعد : حيرني الهمداني. (1)
    2. قال أبو جعفر الحافظ; سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله : الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى (2) فقال : كان الله ولا عرش. وجعل يتخبّط ، فقلت : هل عندك للضرورات من حيلة؟فقال : ما معنى هذه الإشارة؟ قلت : ما قال عارف قط يا رباه إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول يا حبيبي الحيرة والحيرة والدهشة الدهشة. (3)
    يعز على الأشاعرة أن يجهل إمام الحرمين ـ الذي يصفه ابن عساكر بأنّه « لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده » (4) ـ بجواب هذا السؤال ، حتى يتخذه السائل سنداً لحلوله سبحانه في العرشوكينونته فيه.
    وقد سئل الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) عنه و قيل له : ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟
    قال أبو عبد اللّهعليه السَّلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنّه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزّوجلّ ». (5)
1 ـ نفس المصدر : 18/474 ـ 475.
2 ـ طه : 5.
3 ـ سير أعلام النبلاء : 18/476 ـ 477.
4 ـ التبيين : 278.
5 ـ التوحيد للصدوق : 248.


(325)
    وفي الختام إنّ أبا المعالي أجاب دعوة ربّه في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 478 ودفن في داره ، ثمّ نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب والده ، وغلقت الأسواق ، ورثي بقصائد ، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولاً ، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه ، وكان الطلبة يطوفون بالبلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. (1)
    وممّا قيل في وفاته :
    
قلوب العالمين على المقالي أيثمر غصن أهل الفضل يوماً وأيام الورى شبه الليالي وقد مات الإمام أبو المعالي (2)

(4)
حجة الإسلام الإمام الغزالي ( 450 ـ 505هـ )

    الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي ، تلمذ لإمام الحرمين ثمّ ولاّه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد ، وخرج له أصحاب وصنف التصانيف مع التصوف والذكاء المفرط ، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة بالطابران ، قصبة بلاد طوس ، وله خمس وخمسون سنة.
    وقع للغزالي أُمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ، ومجاراة الخصوم ، ومناظرة الفحول ، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلاً عظيماً ، وطار اسمه في الآفاق وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين
1 ـ سير أعلام النبلاء : 18/476.
2 ـ تبيين كذب المفتري : 285.


(326)
    وأربعمائة فقدمها في تجمر [تجمهر] كبير وتلقّاه الناس ، ونفذت كلمته وعظمت حشمته ، حتى غلبت على حشمة الأُمراء والوزراء ، وضرب به المثل ، وشدت إليه الرحال.
    وأقبل على العبادة والسياحة ، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع ، وصنّف فيها كتباً ، ثمّ صار إلى القدس والاسكندرية ، ثمّ عاد إلى وطنه بطوس مقبلاً على التصنيف والعبادة وملازمة التلاوة ونشر العلم وعدم مخالطة الناس ، ثمّ إنّ الوزير فخر الدين نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور ، وألحّ كلّ الإلحاح فأجاب إلى ذلك وأقام عليه مدة ، ثمّ تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه ، وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين.
تصانيفه
    يذكر ابن قاضي شهبة تصانيفه ، وإليك بعضها :
    1.الوسيط ، وهو كالمختصر للنهاية ، والوسيط ملخص منه.
    2. الوجيز والخلاصة.
    3. كتاب الفتاوى مشتمل على مائة وتسعين مسألة.
    4. كتاب الإحياء وهو من أشهر تآليفه.
    5. المستصفى في أُصول الفقه.
    6. بداية الهداية في التصوف.
    7. إلجام العوام عن علم الكلام.
    8. الرد على الباطنية.
    9. مقاصد الفلاسفة.
    10. تهافت الفلاسفة.
    11. جواهر القرآن.
    12. شرح الأسماء الحسنى.
    13. مشكاة الأنوار.
    14. المنقذ من الضلال.


(327)
    15.
    الخلاصة.
    16. قواعد العقائد.
    إلى غير ذلك من التآليف. (1)
نماذج من آرائه
    والغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة في الفلسفة والكلام والتصوف وغير ذلك ، غير أنّه يقتفي أثر إمامه الأشعري ويلتقي معه في كثير من الآراء والمباني ، وإليك قسماً من آرائه في كتاب « قواعد العقائد » :
1. إنكار الحسن والقبح العقليين
    يقول في توصيف أفعاله سبحانه :
    عادل في أقضيته ، لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ، ولا يتصور الظلم من الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً ، فكلّ ما سواه ، من إنس وجن ... اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً. (2)
    ويقول أيضاً : إنّ لله عزّوجلّ إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ... لأنّه متصرف في ملكه ، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو محال على الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً. (3)
    يلاحظ عليه :
    أوّلاً : أنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، والتصرف في
1 ـ اقرأ ترجمته في المصادر التالية : طبقات السبكي : 4/101 ، تبيين كذب المفتري : 291 ـ 306 ، والمنتظم : 9/168 ، مهرجان الغزالي في دمشق عام 1961 ، مؤلّفات الغزالي لعبد الرحمن البدوي ط 1990م.
2 ـ قواعد العقائد : 60و 204.
3 ـ نفس المصدر : 60و 204.


(328)
    ملك الغير فرع منه ولا ينحصر الظلم فيه.
    وثانياً : أنّ حكم العقل بالقبح لا يترتب على لفظ الظلم حتى يفسر بأنّه تصرف في ملك الغير ، والعالم كلّه ملكه سبحانه ، بل العقل يستقل بقبح إيذاء الغير وتعذيبه من دون جرم ولا تعدّ من أي فاعل صدر ، سواءً أكان خالقاً أم غيره ، ولا يجوز التخصيص في الأحكام العقلية.
    ثمّ إنّ الغزالي يستدل على صدور القبيح منه بقوله :
    « فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال ، إذ لا غرض له ، فلا يتصوّر منه قبيح كما لا يتصوّر منه ظلم ».
    فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم : إنّ ذلك عليه محال؟ وهل هذا إلاّ مجرّد تشهّ يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ تفسير القبيح بما لا يوافق الغرض ساقط جداً ، وهو من التفسيرات الخاطئة التي وردت في كتب المتكلّمين من الأشاعرة ، وقليل من المعتزلة ، بل المراد من القبيح ما يستقل العقل بداهة بقبحه إذا لاحظه من دون أن يلاحظ الغرض ، فقد قلنا إنّه كما يوجد في الحكمة النظرية قضايا بديهية ونظرية فهكذا يوجد في الحكمة العملية قضايا يستقل العقل بحسنها وقبحها بالبداهة ، وقضايا يتوقف فيها العقل في بدء الأمر حتى يرجع إلى القضايا الواضحة في الحكمة العملية ، فلا الحسن يدور على موافقة الغرض ولا القبح على مخالفته ، بل كلاهما يدوران على أحكام عقلية واضحة لدى العقل من دون تخصيصها بزمان دون زمان ، أو مكان دون مكان ، أو فاعل دون فاعل. 2. معرفة الله واجبة شرعاً لا عقلاً
    وقد اقتفى الغزالي في هذه المسألة أثر شيخه أبي الحسن الأشعري وقال :
1 ـ قواعد العقائد : 208 ، ويشير بقوله« من مخاصمة أهل النار » إلى المناظرة التي وقعت بين الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي ، وقدأوعزنا إليها في صدر الكتاب.

(329)
    إنّ معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل ، لأنّ العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إمّا أن يوجبها لغير فائدة وهو محال ، فإنّ العقل لا يوجب العبث ، وإمّا أن يوجبها لفائدة وغرض ، وذلك لا يخلو إمّا أن يرجع إلى المعبود ، وذلك محال في حقّه تعالى ، فإنّه يتقدّس عن الأغراض والفوائد; وإمّا أن يرجع ذلك إلى غرض العبد ، وهو أيضاً محال ، لأنّه لا غرض له في الحال ، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه.
    وليس في الم آل إلاّالثواب والعقاب ومن أين يعلم أنّ الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما؟ (1)
    يلاحظ عليه : أنّا نختار الشق الثاني ، وهو أنّ الغرض عائد إلى العبد ، وهو أنّه يعلم من صميم ذاته بأنّ له منعماً ، وأنّ النعمات التي أحاطت به معطاة من غيره ، وعندئذ يحتمل أن يكون لمنعمه أوامر وزواجر وتكاليف وإلزامات ربما يعاقب على تركها ، فعندئذ يحكم العقل عليه بأنّه يجب التعرف على المنعم دفعاً للضرر المحتمل.
    والغرض العائد للعبد في المقام ليس غرضاً دنيوياً حتى يقال : كيف يكون هناك غرض وهو يتعب بالمعرفة وينصرف عن الشهوات ، بل غرض عقلي وهو دفع العقاب المحتمل في الم آل.
    وما قال من أنّه من أين علم أنّ الله تعالى يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ولا يعاقب عليهما؟ فهو ناشئ عن إنكار الحسن والقبح العقليين ، أي إنكار أوضح القضايا العقلية وأبدهها; يقول سبحانه دعماً لما تقضي به الفطرة الإنسانية : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَما يَحْكُمُونَ . (2)
1 ـ قواعد العقائد : 209 ، ولعلّ قوله : « يثيب على المعصية والطاعة » تصحيف « يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ».
2 ـ الجاثية : 21.



(330)
3.جواز التكليف بمالا يطاق
    وقد بنى على إنكار الحسن والقبح العقليين أنّه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق مالا يطيقونه ، خلافاً للمعتزلة ، ولو لم يجز ذلك ، لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا : رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ . (1)
    ولأنّه تعالى أخبر نبيّه بأنّ أبا جهل لا يصدقه ، ثمّ أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله ، وكان من جملة أقواله أنّه لا يصدقه ، فكيف في أنّه لا يصدقه. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ في كلا الاستدلالين وهناً واضحاً :
    أمّا الأوّل : فهو عجيب جداً كيف يستدل بجزء من الآية ويترك صدرها ، يقول سبحانه : لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَو أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانْصُرْنا عَلى الْقَومِ الكافِرينَ. (3)
    فصدر الآية يبين شأنه سبحانه وأنّ حكمته مانعة عن أن يكلف نفساً شيئاً خارجاً عن وسعها ، وإنّما يكلفها ما في وسعها ، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
    إنّ التكليف عبارة عن الإرادة الجدية المتعلّقة بطلب شيء من الغير ، ولا تتمشّى تلك الإرادة إلاّ مع العلم بكون الفعل في وسع الغير ، فلو وقف على كونه خارجاً عن وسعه ، لما تعلّقت به الإرادة الجدية ، فكيف يمكن تكليف الغير بشيء خارج عن وسعه ، مآل ذلك إلى التكليف المحال؟
1 ـ البقرة : 286.
2 ـ قواعد العقائد : 203 ـ 204.
3 ـ البقرة : 286.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس