الملل والنحل جلد الثاني ::: 331 ـ 340
(331)
    وأمّا قوله سبحانه : وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فالمراد هو التكاليف الشاقة التي لا تُتحمل عادة ، وإن كانت تُتحمل عقلاً.
    ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الموصول في ما لا طاقة لنا به هو العذاب النازل أو الرجس ، كالمسخ وغيره ، الذي عمّ الأُمم السابقة.
    وأمّا الثاني : فالظاهر أنّ في كلامه تصحيفاً ، وكان الأولى أن يقول أبا لهب مكان أبي جهل.
    نعم تصح العبارة لو ورد في الروايات بأنّ النبي أخبر أبا جهل بأنّه لا يؤمن. وعلى كلّ تقدير فالاستدلال في مورد أبي لهب أوضح بأن يقال إنّ الله كلّف أبا لهب الإيمان بالقرآن ، ومن جملة ما أنزل في القرآن أنّه لا يؤمن فقال : سيصلى ناراً ذات لهب فكأنّه كلّفه الإيمان بأنّه لا يؤمن.
    يلاحظ على الاستدلال بأنّ الآية إخبار عن عدم إيمانه ، وأنّه لا يؤمن إلى يوم هلاكه نظير قول نوح : رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّارا . (1)
    ولم يؤمر أبو لهب أن يؤمن بأنّه لا يؤمن بالله ورسوله وكتابه ، وأمّا ما نزل في حقّه فإنّما هو إخبار عن علم جازم بأنّه لا يؤمن فقط.
    وإن شئت قلت : سقط التكليف عنه بعصيانه القطعي المستمر في علم الله إلى يوم وفاته بعد نزول هذه السورة الكاشف عن ذلك العصيان ، وكلّ من اتحد معه في هذا الوصف فهو كذلك. 4. رأيه في كون فعل العباد مخلوقاً لله
    قد رأى الغزالي فعل العباد مخلوقاً لله سبحانه ومكسوباً لهم يقول ـ بعد التفريق بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية ـ : إنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً ، وبقدرة العبد على وجه آخر ، يعبر عنه بالاكتساب ، وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل
1 ـ نوح : 26 ـ 27.

(332)
    قد كانت متعلّقة بالعالم ، ولم يكن الاختراع حاصلاً بها ، وهي عند الاختراع متعلّقة به نوعاً آخر من التعلّق ، فبه يظهر أنّ تعلّق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها. (1)
    إنّ الغزالي : يريد أن يثبت تعلّق قدرة العبد على الفعل ببيان أنّه ليس معنى تعلق القدرة هو الاختراع ، بل للتعلّق أقسام بشهادة أنّ قدرته سبحانه تعلّقت بالعالم أزلاً ولم يكن الاختراع حاصلاً عنده فتعلّق القدرة أعم من الاختراع ، فعند ذلك فالاختراع أثر قدرته الأخيرة ، والكسب أثر قدرة العبد.
    وأنت خبير بأنّ ما ذكره لا محصل له ، وإنّما هو مجرّد لفظ خال عن معنى ، وذلك أنّه إن أُريد بالقدرة العلة التامة التي يتحقّق بعدها الفعل فتمنع تعلق قدرته سبحانه بكلّ أجزاء العالم أزلاً وأبداً في الأزل وإنّما تعلقت مشيئته على إيجاد كلّ جزء في ظرفه ومكانه ، والقدرة بهذا المعنى خارجة عن إطار البحث ، وإنّما الكلام في القدرة المستدعية للفعل ، فليس لها أثر إلاّ الإيجاد ، وعندئذ فالفعل في وجوده لو استند إليه سبحانه لا يبقى شيء لأن يستند إلى قدرة العبد حتى نقول : الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب ، وقد عرفت أنّ الكسب من المفاهيم التي لم يظهر لأحد واقع المراد منها. 5. رأيه في استوائه سبحانه على العرش
    إنّ الظاهر من كلامه في استوائه سبحانه على العرش هو التفويض ، أي تفويض معناه إلى الله سبحانه ، لكنّه عندما يشرح معنى الاستواء ومفاد الآية يفترق عن شيخه أبي الحسن ويلتحق بالمعتزلة الذين يذهبون إلى التأويل في هذه المواضع ، وإليك عبارته :
    وأنّه مستو على الوجه الذي قال ، وبالمعنى الذي أراد ، استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق
1 ـ قواعد العقائد : 196.

(333)
    العرش والسماء ، فوق كلّ شيء إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً على الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنّه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى ، وهو مع ذلك قريب من كلّ موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كلّ شيء شهيد. (1)
    ويقول في موضع آخر :
    العلم بأنّه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء ، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء ، وهو الذي أُريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن : ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (2). وليس ذلك إلاّبطريقالقهر والاستيلاء ، كما قال الشاعر :
    قد استوى بِشْرٌ على العراق من غير سيف ودم مهـ راق
    واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطر أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنما كُنْتُم إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإجابة والعلم. (3) 6. رأيه في تكلّمه سبحانه
    قد ذهب الغزالي في تفسير تكلّمه سبحانه إلى ما اختاره شيخه فقال : إنّه تعالى متكلّم ، آمر ، ناه ، واعد ، متوعد ، بكلام أزلي ، قديم ، قائم بذاته ، لا يشبه كلام الخلق ، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام ، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان. (4)
    وقال في موضع آخر :
1 ـ قواعد العقائد : 52.
2 ـ فصلت : 11.
3 ـ قواعد العقائد : 165.
4 ـ قواعد العقائد : 165.


(334)
    إنّه سبحانه و تعالى متكلّم بكلام وهو وصف قائم بذاته ـ إلى أن قال ـ : والكلام بالحقيقة كلام النفس ، وإنّما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات ، وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم :
    إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)
    وقد أوضحنا حال الكلام النفسي ، وأنّ نفي التكلم عنه سبحانه لرجوعه إلى العلم. 7. رأيه في رؤية الله سبحانه
    إنّ الغزالي مع أنّه من المصرّين على التنزيه فوق ما يوجد في كلام الأشاعرة ، ولكنّه لم يستطع تأويل ما دلّ على أنّه سبحانه يُرى يوم القيامة فقال : العلم بأنّه تعالى مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار ، مقدساً عن الجهات والأقطار ، مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة.
    ثمّ قال : وأمّا وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو غير مؤد إلى المحال ، فإنّ الرؤية نوع كشف وعلم ، إلاّ أنّه أتم وأوضح من العلم ، وإذا جاز تعلّق العلم به وليس في جهة ، جاز تعلّق الرؤية به وليس بجهة. (2)
    يلاحظ عليه : إنّه بأيّ دليل يقول : إذا جاز تعلّق العلم به سبحانه ، جاز تعلّق الرؤية به؟ فهل هذا قضية كلية؟ مع أنّ الإرادة والحسد والبخل وسائر الصفات النفسانية يتعلّق بها العلم ، فهل تتعلّق بها الرؤية؟ وهو يعترف بأنّه سبحانه ليس جسماً ولا جسمانياً ولا صورة ، والمغالطة في كلامه واضحة ، فإنّ العلم بالشيء نوع تصور له ، والتصور لا يستلزم الإشارة إلى الشيء ولا كونه في جهة أو كونه متحيزاً ، بخلاف الرؤية بالأبصار فإنّها لا تنفك عن
(1) قواعد العقائد : 58 و 182 ، والشعر للأخطل وقبله :
لا يعجبنك من أم ـ ير خطب ـ ة حتى يكون مع الكلام أصيلا (2) قواعد العقائد : 169 ـ 171.


(335)
    ذلك ، ومن أنكر فإنّما ينكر بلسانه ، وهو يؤمن بقلبه وجنانه.
    ثمّ إنّ له استدلالاً آخر في المقام يقول : وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم ، جاز أن يراه الخلق من غير مقابل و كما جاز أن يُعلم من غير كيفية وصورة ، جاز أن يرى كذلك.
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ الاستدلال لو كانت الرؤية من الجانبين على نسق واحد : فالعباد ينظرون إليه بعيونهم والله سبحانه ينظر إلى عباده ويراهم بعيونه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ رؤيته سبحانه إحاطة وجوده بجميع الأشياء وقيامها به قياماً قيومياً فلا يصحّ القياس ، فرؤيته سبحانه لا تتوقف على المقابلة ، لأنّ الرؤية إنّما تتوقّف على المقابلة إذا لم يكن الرائي محيطاً بالمرئي فيحتاج إلى المقابلة ، دونما لم يكن محتاجاً لها.
    وأظن أنّ عقلية الغزالي الشامخة كانت تصده عن تجويز الرؤية وإنّما صدرت منه هذه الهفوة لاتّفاق الأشاعرة وأهل الحديث على الرؤية. 8. نظره في رعاية الأصلح لعباده
    يقول : إنّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنّه لا يجب عليه سبحانه شيء ، بل لا يعقل في حقّه الوجوب ، فإنّه لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون.
    وعلّق عليه محقّق الكتاب وقال : فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة ، كان له ذلك ، ولو أورد الكل منهم النار من غير زلة منهم كان له ذلك ، لأنّه تصرف مالك الأعيان في ملكه ، وليس عليه استحقاق ، إن أناب فبفضله يثيب ، وإن عذب فلحق ملكه يعذب. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ القائل بالأصلح للعباد يريد بذلك إخراج فعله سبحانه عن العبث لأنّه حكيم ولا سبيل للعبث إليه ، قال سبحانه :
1 ـ قواعد العقائد : 205.

(336)
وَما خَلَقْنا السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ . (1)
    وقال سبحانه : وَما خَلَقْنَا السَّماءَوَالأَرْضََ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ. (2)
    إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله ، وتصرح باقترانها بالحكمة والغرض ، فمن قال بوجوب رعاية الأصلح فإنّما قال بإخراج فعله عن العبث.
    وأمّا كون العمل الأصلح واجباً عليه ، لا يراد منه تكليفه من جانب العبد بالقيام بالأصلح وإنّما المراد استكشاف العقل الحكمَ الضروري من صفاته الكمالية ، أعني كونه حكيماً ، وأنّ حكمته تقتضي ـ إيجاباً ـ أنّه لا يفعل العبث والعمل الخالي عن الهدف ، كما أنّك تحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي كذا وكذا حتماً وليس معناه حكمك على الخارج ، بل معناه استكشاف العقل حكماً ضرورياً من ملاحظة نفس المثلث وزواياه.
    وأمّا تعذيبه سبحانه البريء فلا شكّ أنّه يقدر على ذلك ، ولكن لا يفعل لأنّه قبيح ، والعقل يدرك قبح ذلك العمل من أي مقام صدر وفي أي موضع وقع ، وليس حكم العقل بإيجابه إلاّ الاستكشاف على ما مرّ.
    وأمّا القول بأنّ الحكم بلزوم اقتران فعله بالغرض ، يستلزم استكماله به ، فهو خلط بين كون الغرض للفاعل وكون الغرض للفعل ، فالغاية غاية للفعل لا للفاعل.
    وقد حققنا ذلك في الجزء الثالث عند البحث عن عقائد المعتزلة ، فتربص حتى حين. 9. مناوأة معاوية لعلي ( عليه السَّلام ـ كانت عن اجتهاد
    الغزالي يرى مناوئي علي ( عليه السَّلام ) في الجمل وصفين مجتهدين يقول :
1 ـ الدخان : 38.
2 ـ ص : 27.


(337)
    وما جرى بين معاوية و علي ( عليه السَّلام ) كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة ، إذ ظن علي رضي الله عنه أنّ تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها ، فرأى التأخير أصوب ، وظن معاوية أنّ تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمّة ، ويعرض الدماء للسفك ، وقد قال أفاضل العلماء : « كلّ مجتهد مصيب »و قال قائلون : « المصيب واحد » ولم يذهب إلى تخطئة علي ذو تحصيل أصلاً.
    يلاحظ عليه : أنّ للاجتهاد مقومات ، وللمجتهد مؤهلات مقررة في محله ، أوضحها هو الوقوف على الكتاب والسنة واستخراج الحكم الشرعي من مداركه ، وأمّا الاجتهاد تجاه النص فهو اجتهاد خاطئ ، بل تشريع في مقابل الحجة.
    وعلى ضوء ذلك فهل يمكن لنا توصيف عمل معاوية وزميله عمرو بن العاص ومن لفّ لفهما في الجمل والنهروان بالاجتهاد؟ فما معنى هذا الاجتهاد الذي سفكت الدماء من أجله ، وأُبيحت وغضبت الفروج ، وانتهكت المحارم؟ وما معنى الاجتهاد تجاه قول رسول الله مخاطباً لعمار : « تقتلك الفئة الباغية »؟ فبهذا الاجتهاد عُذِرَابن ملجم المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين على قتل خليفة الحق والإمام المبين في محراب عبادة الله ، حتى قبل إنّ ابن ملجم قيل علياً متأولاً مجتهداً على أنّه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان :
يا ضربة من تقىّ ما أراد بها إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناً
    عجباً لهذا الاجتهاد يبيح سبّ علي أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، ويبيح سبّ كلّ صحابي احتذى مثاله ، ويجوّز لعنهم والوقيعة فيهم والنيل منهم في خطب الصلوات والجمعات والجماعات وعلى رؤوس المنابر ، ولا يلحق فاعل هذه الموبقات ذم ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ ، وإن كان المجتهد من بقايا الأحزاب.
    هذا عرض خاطف لنظريات « الإمام الغزالي » و قد عرفت موقفها من


(338)
    الحقّ ، ولنختم ترجمته بنقل أمرين من كتابه :
    1. إنّ صفاته سبحانه تشتمل على عشرة أُصول وهي :
    العلم بكونه حياً ، عالماً ، قادراً ، مريداً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً ، منزهاً عن حلول الحوادث ، وأنّه قديم الكلام والعلم والإرادة. (1)
    وهذه العبارة تتضمن أحد عشر وصفاً له سبحانه ، ولأجل ذلك قال المعلق : قوله منزهاً عن حلول الحوادث غير معدود في هؤلاء ولم يعلم وجه استثناء خصوصه كما لا يعلم أنّه وصف العلم بالقدمة ، مع أنّ القدرة مثله فليس قدرته حادثة.
    2. ومن لطائف كلامه في رد المجسّمة ما قاله : فأمّا رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنّها قبلة الدعاء ، وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء ، وتنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء ، فإنّه تعالى فوق كلّ موجود بالقهر والاستيلاء. (2)
    وفي خاتمة المطاف : نأتي بكلام لأبي زهرة في حقّ الغزالي ثمّ نعقبه بما يليق به :
    إنّ الغزالي نظر في كلام أبي منصور الماتريدي ، وأبي الحسن الأشعري نظرة حرة بصيرة فاحصة ، لا نظرة تابع مقلد ، فوافقهما في أكثر ما وصل إليه وخالفهما في بعض ما ارتآه ديناًواجب الاتّباع. (3)
    ماذا يريد أبو زهرة من قوله« نظر في كلام الشيخين نظرة حرة »؟
    فلو كان محور حكمه هو كتاب « قواعد العقائد » الذي نقلنا منه مجموعة من آرائه فهو لم يخالفهما إلاّ في أقل القليل ، كيف وقد أنكر الحسن والقبح العقليين ، كما أثبت الرؤية في الآخرة ، وقال بقدم كلامه ، وبذلك ترك عاراً
1 ـ قواعد العقائد : 145.
2 ـ قواعد العقائد : 165.
3 ـ ابن تيمية عصره وحياته : 193.


(339)
(5)
أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني
( 479أو 467 ـ 548هـ )

    الشهرستاني ، أحد المهتمين بدراسة المذاهب والشرائع ، ويعدّ شخصية ثالثة بين الأشاعرة في معرفة الملل والنحل ، بعد الشيخين : أبي الحسن الأشعري ، وعبد القاهر البغدادي ، وكتابه المعروف بالملل والنحل يعد من المصادر لهذا العلم ، ويمتاز عن غيره من الكتب المتقدمة عليه ك ـ « مقالات الإسلاميين » للأشعري و« الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي بذكر كثير من الآراء الفلسفية المتعلّقة بما وراء الطبيعة ، التي كانت سائدة في عصر المؤلف ، ولأجل ذلك حاز الكتاب إعجاب الناس وتقديرهم ، ومع ذلك كلّه قد خلط بين الحقّ والباطل ، خصوصاً في نقل آراء بعض الطوائف الإسلامية.
    ويعرّفه ابن خلكان بقوله : كان مبرزاً فقيهاً متكلماً ، تفقّه على أحمد الخوافي وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما ، وبرع في الفقه وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه ، وصنف كتباً منها : « نهاية الإقدام في علم الكلام » وكتاب « الملل النحل » و« المناهج والبيّنات » وكتاب « المضارعة » و « تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام » و كان كثير المحفوظ (1) ، حسن المحاورة ، يعظالناس ، ودخل بغداد سنة 510 وأقام بها ثلاث سنين ، وظهر ، قبول كثير عند العوام ، وسمع الحديث من علي بن أحمد المديني ب ـ « نيسابور »وغيره ، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني ، وذكره في كتاب
1 ـ كذا في المصدر والأصحّ : « كثير الحفظ ».

(340)
    « الذيل » ، و كانت ولادته سنة 479 أو 467 ، وتوفّي في أواخر شعبان سنة 548هـ . (1)
    ويصفه الذهبي بقوله : شيخ أهل الكلام والحكمة ، وصاحب التصانيف ، ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع ( القرامطة ) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم ، كما ينقل عن صاحب « التحبير » بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم : عالم كيّس متعفف.
    ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد ، لكان هو الإمام ، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له ، نعوذ بالله من الخذلان ، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع ، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله و قال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال : سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي ، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال : مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى ، فسألوا الثوم والبصل. ثمّ نقل عن ابن أرسلان أنّه حجّ في سنة 510هـ . (2)
المطبوع من كتبه
    1. « الملل والنحل » قد طبع كراراً ، وأخيراً في القاهرة في جزءين بتحقيق محمد سيد كيلاني ، طبع في 1381هـ .
    2. « نهاية الإقدام » وهو مطبوع حرره وصححه « الفرد جيوم » المستشرق ولم يذكر عام الطبع. ومجموع الكتاب يحتوي على عشرين قاعدة كلامية. قال في مقدمة الكتاب : وقد أوردت المسائل على تشعث خاطري وتشعب فكري ، ممتثلاً أمره في معرض المباحثات ترتيباً وتمهيداً ، سؤالاً
1 ـ وفيات الأعيان : 4/273 برقم 611.
2 ـ سير أعلام النبلاء : 20/287 ـ 288 ، ولاحظ الروضات : 8/26برقم 675.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس