الملل والنحل جلد الثاني ::: 351 ـ 360
(351)
3. المسح على الرجلين
    استرسل الرازي في الكلام على وجوب المسح على الأرجل على وجه ، كأنّ المسح هو خيرته ، وإليك كلامه : « اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أنّ الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل. وقال ابن داود الإصفهاني : يجب الجمع بينهما ، وهو قول الناصر للحق من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلّف مخيّر بين المسح والغسل ».
    حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله : وأَرجلكمفقرأ ابن كثير و حمزة و أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه بالنصب.
    فنقول : أمّا القراءة بالجر ، فهي تقضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله : « جحر ضب خرب » و قوله : « كبير أناس في بجاد مزمل »؟ قلنا : هذا باطل من وجوه :
    الأوّل : إنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه.
    وثانيها : إنّ الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جحر ضب خرب » فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. و في هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
    وثالثها : إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.
    وأمّا القراءة بالنصب فقالوا إنّها أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله وامسحوا برؤوسكم فرؤوسكم في محل النصب ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس ، جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس


(352)
    والجر عطفاً على الظاهر. وهذا مذهب مشهور للنحاة.
    إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى : وأرجلكمهو قوله : وامسحوا ويجوز أن يكون هو قوله : واغسلوالكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فجب أن يكون عامل النصب في قوله : وَأرجلكم هو قوله وامسحوا ، فثبت أنّ قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً ، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ، ثمّ قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنّها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. (1)
وصية الرازي عند الموت
    لمّا مرض الرازي وأيقن أنّه ملاق ربّه ، أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الإصفهاني وصية في الحادي والعشرين من محرم سنة 606.وممّا جاء في تلك الوصية : يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه ، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة ... .
    فاعلموا أنّي كنت رجلاً محباً للعلم ، فكنت أكتب في كلّ شيء شيئاً لا أقف على كميته وكيفيته ، سواء أكان حقّاً أم باطلاً أم غثّاً أم سميناً ...
    وأمّا الكتب العلمية التي صنفتها أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدّمين فيها ، فمن نظر في شيء منها ، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضيل والإنعام ، وإلاّ فليحذف القول السيّء فإنّي ما أردت إلاّ تكثير البحث ، وتشحيذ الخاطر والاعتماد في الكلّ على الله تعالى. (2)
    وغير خفي على من سبر كتب الرازي في الكلام والفلسفة والتفسير وغيرها ، أنّه يشكك في كثير من المسائل المسلّمة ، وربما يبالغ بأنّه لو اجتمع الثقلان على الإجابة عن هذا الإشكال لما قدروا. (3) ولعل هذه الندامة الظاهرة
1 ـ مفاتيح الغيب : 3/380 ـ 381 ، طبع مصر.
2 ـ دائرة المعارف ، القرن الرابع عشر ، فريد وجدي : 4/148 ـ 149.
3 ـ شرح المواقف : 8/155.


(353)
    منه حين الموت تكون كفّارة لبعض هذه التشكيكات ، والله العالم.

(7)
سيف الدين الآمدي ( 556 ـ 621هـ )

    أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي ، الفقيه الأُصولي الملقب ب ـ « سيف الدين الآمدي » كان حنبلي المذهب ، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي ، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي ، ولما بلغ الدرجة الممتازة انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول ، وحفظ منه الكثير وتمهر فيه ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم ، ثمّ انتقل إلى الديار المصرية ، ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة ، وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء ، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم ، وهذه شنشنة يعرفها التاريخ من الذين أعدموا العقل وصلبوه وشوهوا صورة الشريعة ، واعتمدوا في كلّ شيء حتى فيما يجب ثبوته قبل ثبوت الشرع ، على الحديث ، ورأوا الاشتغال بالعلوم العقلية كفراً وزندقة فابتلي الآمدي (1) بهؤلاء المتزمّتين ، وقبله الشهرستاني كما عرفت ذلك في ترجمته.
    ينقل ابن خلّكان أنّ رجلاً منهم لمّا رأى التحامل وإفراط التعصب على الآمدي كتب في المحضر الذي أعدّوه للسعاية عليه :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له و خصوم

    والله أعلم وكتب : فلان بن فلان.
    ولعل الحسد ـ في جميع العصور التي قام فيها هؤلاء بقمع أهل الفكر والعقل وطردهم عن الساحة الإسلامية ـ كان أحد العوامل الباعثة على التكفير والتفسيق ، والقتل والصلب ، وكان هناك عامل آخر أشد تأثيراً في هذه المجالات ، وهو سوء الوعي وقلّة العمق في المخالفين ، إذ لم يعرفوا أنّ الإسلام
1 ـ الآمدي : منسوب إلى آمد وهي مدينة في ديار بكر.

(354)
    يحارب الجمود والتقليد ، ويتآخى فيه العقل والشرع ، وتتحد فيه نتيجة البرهنة والتعبد.
    ومن جراء هذه القلاقل لم يجد الآمدي بدّاً من مغادرة مصر إلى دمشق ، وعُيّنَ مدرساً بالمدرسة العزيزية ، ثمّ عزل عنها لبعض التهم الفكرية ، وأقام بطّالاً في بيته. وتوفي على تلك الحال سنة 581 ودفن بسفح جبل قاسيون. (1)
    ويشهد لما ذكرنا من السبب ما نقله الذهبي عن سبط ابن الجوزي في حقّه : لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام ، وكان أولاد « العادل » كلّهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق ، وكان يدخل على « المعظم » فلا يتحرك له ، فقلت : قم له عوضاً عني. فقال : ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاّه تدريس العزيزية. فلمّا مات « العادل » أخرج « الأشرف » سيف الدين ونادى في المدارس : من ذكر غير التفسير والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته. فأقام السيف خاملاً في بيته إلى أن مات ودفن بقاسيون.
    ولم يكن عمل « العادل » ولا « الشريف » نسيج وحدهما ـ بل لم يزل أهل التعقّل والتفكّر الذين كانوا صفاً كالبنيان المرصوص مقابل الملاحدة والزنادقة ـ مضطهدين مقهورين بيد الحنابلة والمتسمين بأهل الحديث ، و قد بلغ السيل الزبى في العصور السابقة على عصر الآمدي عندما تدخل الخليفة « القادر بالله » العباسي في اختلاف المعتزلة مع الحنابلة وأهل الحديث ، وأصدر كتاباً ضد المعتزلة يأمرهم بترك الكلام والتدريس والمناظرة ، وأنذرهم ـ إن خالفوا أمرهـ بحلول النكاية والعقوبة عليهم. وقد سلك السلطان « محمود » في غزنة مسلك الخليفة في بغداد ، فصلب المخالفين ونفاهم وأمر بلعنهم ، وقد اتخذ ذلك سنّة في الإسلام. (2)
    ففي الحقيقة ما صلبوا المعتزلة ، بل صلبوا العقل وأعدموه ، وأبعدوا الدين المبنية أُصوله على الأسس العقلية عن أساسه.
1 ـ وفيات الأعيان : 3/293 ـ 294برقم 432.
2 ـ البداية والنهاية : 12/6 ـ 7.


(355)
    ولم يقتصروا في النكاية على المعتزلة ، بل عمّ التعذيب المفكّرين من الأشاعرة ، الذين كان منهجهم منزلة بين المنزلتين بين الحنابلة والمعتزلة.
    والعجب من الذهبي أنّه كيف يصور شخصية علمية مثل السيف بأنّه كان تارك الصلاة.
    قال : كان القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة يحكي عن شيخه ابن أبي عمر قال : كنا نتردّد إلى السيف. فشككنا هل يصلي أم لا؟ فنام فعلّمنا على رجله بالحبر. فبقيت العلامة يومين مكانها ، فعلمنا أنّه ما توضّأ ، نسأل الله السلامة في الدين.
    أفي ميزان النصفة والعدل ، القضاء بهذه الظنون واستباحة النفوس والأموال بها ، بعد إمكان أنّه تيمّم مكان الوضوء ، وصلى لعذر شرعي بالطهارة الترابية مكان الطهارة المائية وبقي الحبر في محله.
    هلم معي إلى سفسطة أُخرى ينقلها الذهبي من شيخه ابن تيمية : يغلب على الآمدي الحيرة والوقف ، حتى أنّه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل ، وزعم أنّه لا يعرف عنه جواباً ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ، ولا وحدانية الله ، ولا النبوات ، ولا شيئاً من الأُصول الكبار.
    وما ذكره فرية محضة على السيف ، ونحن نعرض فهرس الموضوعات التي أشبع السيف البحث عنها في كتابه « غاية المرام في علم الكلام » حتى نعرف مدى صدق قوله ، فقد جاء فيها :
    القانون الأوّل : في إثبات الواجب بذاته.
    القانون الثالث : في وحدانية الباري تعالى.
     ( ج ) القاعدة الثالثة : في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات.
    1 ـ الطرف الثاني : في إثبات الحدوث بعد العدم.
    القانون السابع في النبوات ، والأفعال الخارقة للعادات.


(356)
    1 ـ الطرف الأوّل : في بيان جوازها بالعقل. (1)
    إنّ تعطيل العقول من المعارف العقلية ليس بأقل خطراً من تعطيل ذاته سبحانه وتعالى عن الاتّصاف بالصفات الخبرية ، الذي صار حجّة لدى الحنابلة على تكفير أو تفسيق المعطّلين كيف ، وهو سبحانه يقول : وَيَتفَكّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (2) ، ويقول تعالى : وَفي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (3) ، وقوله تعالى : إِنَّ في ذلكَ لآيات لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ . (4)
    إلى غير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكّر في الصنع والكون والنفس ، ولم تكن الغاية من تأسيس علم الكلام إلاّ إقامة الحجة على العقائد الإيمانية ، بالأدلّة العقلية والرد على المبتدعة.
    إنّ احتكاك الثقافة الإسلامية مع ثقافات سائر الأُمم أوجد موجة من الاضطراب الفكري والصراع العقيدي بين المسلمين ، وكانت الوسيلة المنحصرة لحماية العقيدة الإسلامية ومحاربة الفرق والمذاهب الإلحادية ، تأسيس علم كامل لإثبات ما يعتنقه المسلمون بالأدلّة العقلية ، وكان تأسيسه وليد الحاجة والضرورة ، فلا عتب على قائل يصفه بصخرة النجاة وسلم السلام والأمان.
مؤلّفاته
    إنّ ما وصل إلينا من تآليفه كلّها يتسم بالطابع العقلي ، إمّا عقلية صرفة ، أو مزيجاً من العقل والنقل ، فمن مؤلّفاته في أُصول الفقه :
    1. « الإحكام في أُصول الأحكام » ، طبع كراراً وأخيراً بتحقيق السيد الجميلي في أربعة أجزاء في مجلدين ، نشر دار الكتاب العربي 1404 هـ ، وهو أبسط
1 ـ لاحظ : 395 ـ 396 من غاية المرام.
2 ـ آل عمران : 191.
3 ـ الذاريات : 21.
4 ـ الرعد : 3.


(357)
    كتاب في أُصول الفقه ، نظير الذريعة للسيد المرتضى بين الشيعة في القرن الخامس.
    2. « منتهى السؤول في علم الأُصول » ، طبع بمصر ، وكان مقرراً للدراسة في الأزهر في الثلاثينات من هذا القرن.
    3. « غاية المرام في علم الكلام » ضمن فيه كتابه الآخر المسمّى بأبكار الأفكار. (1)
    نعم يؤخذ عليه أنّه يصف المعتزلة في المقدمة بالإلحاد ، ويقول واصفاً لكتابه : « كاشفاً لظلمات تهويلات الملحدين كالمعتزلة وغيرهم من طوائف الإلهيين » (2). كما يؤخذ عليه قصوره في عرض عقائد الشيعة ، وكأنّه لم يقف على كتاب لهم ، ونقل ما نقل عنهم عن كتب خصومهم.
    ومن عجيب الكلام استدلاله على عدم اشتراط العصمة في الإمام بالاتّفاق على عقد الإمامة للخلفاء الراشدين ، واعترافهم بأنّهم ليسوا بمعصومين. (3).
    فلا أُعلّق عليه بكلمة إلاّ قولنا« يا للعجب ما أتقنه من برهنة »!!
    وفي آخر الكتاب « كان الفراغ من نسخة في الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وستمائة وذلك بثغر الاسكندرية بالمدرسة العادلية ». (4)
    وقد طبع الكتاب بتحقيق حسن محمود عبد اللطيف ، وقام بتحقيقه باعتباره جزءاً من رسالته للحصول على درجة « الماجستير » في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
1 ـ غاية المرام : 5 من المطبوع.
2 ـ غاية المرام : 5 من المقدمة.
3 ـ غاية المرام : 384 ـ 385.
4 ـ غاية المرام : 392.


(358)
(8)
عبدالرحمن عضد الدين الإيجي ( 700 ـ 756هـ )
(1)
    كان إماماً في المعقول ، عالماً بالأُصول والمعاني والعربية ، مشاركاً في الفنون ، كريم النفس ، كثير المال جداً ، كثير الإنعام على الطلبة ، ولد بعد السبعمائة وأخذ من مشايخ عصره ، وأنجب تلامذة عظاماً اشتهروا في الآفاق ، منهم الشيخ شمس الدين الكرماني ، والتفتازاني والضياء القرمي. (2)
1. آثاره المعروفة
    1. « المواقف في علم الكلام » ، وهو المتن الكامل على المنهج الأشعري وشرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني ، والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني تلميذ المصنف ، ولعلّه من شرحه. وطبع المتن والشرح للشريف في ثمانية أجزاء مع حواشي لعبد الحكيم السيالكوتي اللاهوري.
    وهو المرجع الوثيق لكثير من المتأخرين. وألّفه الإيجي (3) باسم الأمير الشيخ أبي إسحاق ، الذي صار صاحب الخطبة والسكة في شيراز سنة 744هـ .
    2. شرحه على مختصر الأُصول للحاجبي في أُصول الفقه ، وقد أكبّ عليه طلبة الأعصار ، وقد شاركه في تأليفه عدّة من الأفذاذ. واشتهر بشرح العضدي على مختصر الأُصول ، وطبع كراراً. (4)
    3. « العقائد العضدية ».
    4. « الرسالة العضدية ».
1 ـ في ميلاده وعام وفاته اختلاف ، وما ذكرناه هو أحد الأقوال.
2 ـ الدرر الكامنة لابن حجر : 2/229.
3 ـ « الإيج » يقع في جنوب إصطهبانات من نواحي شيراز.
4 ـ روضات الجنات : 5/51 ـ 52.


(359)
    ويظهر من خير الدين الزركلي في « الأعلام » أنّهما طبعتا. وله وراء ذلك آثار لم تر نور الوجود. (1)
    إلى أن قضى حياته في كرمان مسجوناً ( عام 756 أو 757هـ ) ويظهر من غير واحد ممن ترجمه أنّه كان يبغض الشيعة ويعاندهم إلى حدّ يضرب به المثل ومن لطائف شعره قوله :
خذ العفو وأمر بعرف كما أمر ولن في الكلام لكل الأنام توأعرض عن الجاهلين فمستحسن من ذوي الجاه لين
2. حريته الفكرية في اتخاذ الموقف
    إنّ الإيجي ، أشعري المنهج ، يركز على آراء الأشاعرة ويحتج ، ولكن ربما يرد عليهم ولإيقاف القارئ على نماذج نشير إلى موردين :
    الأوّل : قد نقل أدلّة أصحابه على زيادة صفاته سبحانه على ذاته فقال : « لوكان مفهوم كونه عالماً حياً قادراًنفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا : الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه واللازم باطل ».
    وغير خفي على القارئ أنّ المستدلّ لم يفرق بين العينية المفهومية والعينية المصداقية. فزعم أنّ المدّعى هو الأُولى مع أنّه هو الثانية ، ووقف العضدي على فساد الاستدلال فقال : « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ». (2)
    وما ذكره يبطل جميع ما أقامه الأشاعرة من البرهان على الزيادة.
    الثاني : طرح مسألة التكليف بمالا يطاق. وقال : إنّه جائز عند الأشاعرة ، فلمّا رأى أنّ القول به يخالف الفطرة ، أخذ يقسم مالا يطاق إلى مراتب ، فمنع عن التكليف بالمرتبة القصوى منه ، لا الوسطى ثمّ قال : « وبه
1 ـ الأعلام للزركلي : 3/295.
2 ـ المواقف : 280.


(360)
    يعلم أنّ كثيراً من أدلّة أصحابنا نصب للدليل في غير محل النزاع ». (1)
    نعم ، ربما يأخذه التعصب ، فيستدل على مذهبه بشيء مستلزم للدور في مقابل الخصم المنكر. مثلاً يقول : « إنّ الإمامية تثبت ببيعة أهل الحل والعقد ، خلافاً للشيعة ، لثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة ». (2)
    كما يستدل على عدم وجوب العصمة في الإمام بقوله : « إنّ أبا بكر لا تجب عصمته اتّفاقاً ». (3)
    والمترقب من مثل الإيجي العارف بالمناظرة ، الاجتناب عن مثل هذه الاستدلالات التي لا تصح إلاّ أن يصحّ الدور.
    نرى أنّه ينكر القضايا التاريخية المسلمة عند الجميع ويقول في ردّ حديث الغدير : « إنّ علياً لم يكن يوم الغدير ». (4)
    ونرى أنّه لا يطرح فرق الشيعة وينهيها إلى اثنتين وعشرين فرقة ، ويأتي بأسماء فرق لم تسمع أذن الدهر بها إلاّفي ثنايا هذه الكتب. ويقول : « من فرق الشيعة البدائية الذين جوزوا البداء على الله ». (5)
    ولكنّه غفل عن أنّ الاعتقاد بالبداء بالمعنى الصحيح وهو تغيّر المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، عقيدة مشتركة بين الشيعة جمعاء وليست مختصة بفرقة دون أُخرى. وتفسير البداء بما يستلزم الظهور بعد الخفاء على الله أو غير ذلك فرية على الشيعة. إلى غير ذلك من الهفوات الموجودة في الكتاب ، غفر الله لنا و لعباده الصالحين.

(9)
مسعود بن عمر التفتازاني ( 712 ـ 791هـ )
(6)
    هو من أئمّة العربية ومن المتضلّعين في المنطق والكلام ، ولد بتفتازان من
1 ـ المواقف : 331.
2 ـ المواقف : 399.
3 ـ المواقف : 399.
4 ـ المواقف : 405.
5 ـ المواقف : 421.
6 ـ قيل أيضاً إنّه تولد عام 722 وتوفّ ـ ي عام 787 ، 793هـ .
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس