بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 341 ـ 350
(341)
الوهاب (1).
    هكذا كانوا يحكمون على الموحدين المصلين في محراب العبادة بالشرك والخروج عن التوحيد « وما نقموا منهم » « إلاّ أن قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا » ولم يخضعوا للسلطة الّتي أسسها محمد بن عبد الوهاب .
    ثم إنّ محمد بن عبد الوهاب نحّى « مشاري » عن منصة الحكم وأسكنه « الدرعية » مع عائلته ، وعين شخصاً آخر للشغال الحكم ، حتّى يكون الحاكم أطوع له كطوع الظل لذي الظل ، ولم يكتف بذلك حتّى جاء إلى قصر آل معمر وأمر بتدميره (2).
    إنّ هذه العلمية تسفر عن عقيدة محمد بن عبد الوهاب في حق عامة أهل نجد دون استثناء ، لأنه لو كان ابن معمر كافراً فقد كان سكنة نجد كلهم على دينه ، فهم حينئذ كفرة تباح دماؤهم ونساؤهم وممتلكاتهم ، والمسلم هو من آمن بالطريقة التي يسير عليها محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود (3).
    لم يبرح زمن على سلطة آل سعود على « العيينة » حتّى ثاروا على النظام الّذي فرض عليهم من جانب محمد بن عبدالوهاب ، ولكن لم يكتب لانتفاضتهم النجاح ، فعاد السعوديون إلى « العيينة » فدمّروا البلد على آخره ، فهدموا الجدران ، وردموا الآبار ، وأحرقوا الأشجار ، واعتدوا على أعراضهم وبقروا بطون الحوامل من النساء ، وقعطوا أيدي الأطفال ، وأحرقوهم بالنار ، وسرقوا المواشي وكل ما في البيوت ، وقتلوا كل الرجال.
    هكذا خربت « العيينة » وما زالت مخروبة منذ عام 1163 هـ حتّى يومنا هذا ، وما زالت الوهابية يبررون أعمالهم بما قاله محمد بن عبد الوهاب : إنّ اللّه سبحانه وتعالى قد صبّ غضبه على العيينة وأهلها وأفناهم تطهيراً لذنوبهم ، وغضباً على ما قاله حاكم العيينة ، عثمان بن معمر ، فقد قيل لحاكمها
1 ـ تاريخ نجد ، ص 97 .
2 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ص 43 ـ ابن غنام : تاريخ نجد ، ج 2 ص 57.
3 ـ تاريخ نجد ، ص 98 ، 99 ، 100 ، 101.


(342)
بأن الجراد آت إلى بلادنا و نحن نخشى أن يأكل الجراد زراعتنا ، فأجاب الحاكم ساخراً من الجراد : سنخرج على الجراد دجاجاً فتأكله ، وبهذا غضب اللّه سبحانه لسخرية الحاكم بالجراد ، وهو آية من آيات اللّه لا يجوز السخرية منها ، ولهذا أرسل اللّه الجراد على بلدة العيينة فأهلكها عن آخرها (1).
    نحن نفترض أنّ أمير العيينة استهزأ بآية من آيات اللّه فكفر ، فيجب ضرب عنقه بسيف الجلادين ، فهل كفر الآخرون ، وهل تزر وازرة وزر أُخرى ، وما هي إلاّ خدعة يمّوه بها الأمر على الصبيان وأشباههم.
    فلما قضى محمد بن عبد الوهاب وآل سعود على مناوئيهم في المنطقة ، قويت الإمارة السعودية من طريق الدين باتّباعها محمد بن عبدالوهاب ، وقويت دعوة ابن عبد الوهاب بطريق السيف باتّباع ابن سعود له وانتصاره به ، فكان ابن سعود الأمير الحاكم ، وابن عبد الوهاب الزعيم الديني ، وصارت ذرية كل منهما تتولى مرتبة سلفها.
    لقد قوّى انتصار القبيلة السعودية على حاكم « العيينة » عزيمتهم على توسيغ نطاق حكومتهم ، مغبة أمر محمد بن عبد الوهاب بالجهاد وحث اتباعه عليه ، وأول جيش تم تأليفه له من سبع ركائب (2) ومعلوم أنّ هذه الجيوش والركائب لم تغز بلاد الكفار والمشركين ، ولا الرومان ، وإنما غزوا بلاد المؤمنين ، بلاد القائلين بـ ( لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ) ولما أحس ابن عبد الوهاب بسلطة وقدرة ، كتب إلى أهل نجد ( وهم المسلمون بزعمهم ) على الدخول في مذهب التوحيد ، فأطاع بعضهم بينما امتنع آخرون ، فأمر أهل « الدرعية » بالقتال ، فأجابوه وقاتلوا معه أهل نجد والأحساء مراراً ، حتّى دخل بعضهم في طاعته طوعاً أو كرهاً ، وصارت جميع إمارة نجد لآل سعود بالقهر والغلبة » (3).
1 ـ ناصر السعيد : تاريخ آل سعود ، ص 22 ـ 23.
2 ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ، ص 117 نقلا عن ابن بشر عثمان ، عنوان المجد في تاريخ نجد .
3 ـ السيد محسن الأمين : كشف الارتياب ص 13 ـ 14 نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي.


(343)
سراب لا ماء
    قد كان اللحركة الوهابية في عصر مؤسسها صدى ودوي ، والقريب منها يستشف الحقيقة عن كثب ، ويرى أنها قد بنيت على القتل الذريع ، والسفك المروع ، وأن محمد بن عبدالوهاب يهتف بأنه لا عدل ولا سلم ، ولا رحمة ، ولا إنسانية ، ولا حياة ، لا شيء أبداً إلاّ الوهابية أو السيف.
    وهذه السنّة الّتي استنّها محمد بن عبدالوهاب يتحمل وزرها منذ يومه إلى يوم القيامة ، لأنها كماترى دعوة تقوم على الحرب والضحايا ، وتتطبع بطابع الدم والفوضى ، ويكفي في ذلك قول أخيه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب في كتاب الصواعق الإلهية مخاطباً لأخيه وأتباعه :
     « فانتم تكفّرون بأقل القيل والقال ، بل تكفّرون بما تظنون أنتم أنه كفر ، بل تكفّرون بصريح الإسلام ، بل تكفّرون من توقف عن تكفير من كفّرتموه » (1).
    ولم يكن أخوه فريداً في القضاء ، فقد رجع عن طريقته بعض المنصفين المنخدعين بدعوته ، وهذا هو السيد محمد بن إسماعيل الأمير لمّا بلغه من أحوال الشيخ النجدي ، الدعوة إلى التوحيد ، فأنشا قصيدته المشهورة :
سلام على نجد ومن حلّ في نجد وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
    ثم حقق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن ، ووجد الأمر على عكس ما روي له ، فأنشأ يقول في قصيدته ثانياً عما قاله أولا :
رجعت عن القول الّذي قلت في نجد فقد صحّ لي عنه خلاف الّذي عندي
    حكي عن محمد بن إسماعيل أنه قال في شرح القصيدة المذكورة المسماة بـ « محو الحوبة في شرح أبيات التوبة » : لمّا بلغت قصيدتي الأُولى نجداً التي مدحت فيها الحركة الوهابية ، جاء إلينا بعد أعوام رجل كان يعرّف نفسه بـ « الشيخ مربد بن أحمد التميمي » وذلك في صفر سنة ألف ومائة وسبعين ،
1 ـ الصواعق الإلهية ، ص 27 ـ 29 ، ط 1306.

(344)
وحمل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه ، ثم عاد إلى وطنه في شوال تلك السنة ، وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب الّذي وجهنا إليه القصيدة ، وقد قدم إلينا قبله الشيخ الفاضل عبد الرحمان النجدي ، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال والتجري على قتل النفوس ، ولو بالاغتيال ، وتكفيره الأُمة المحمدية في جميع الأقطار ، فبقي فينا تردد فيما نقله ذلك الشيخ ، حتّى قدم إلينا الشيخ « مربد » وله نباهة ، ومعه بعض رسائل ابن عبدالوهاب الّتي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان ، وقتلهم ونهبهم ، وحقق لنا أحواله ، فعرفنا أحوال رجل عرف من الشريعة شطراً ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ، ويدله على العلوم النافعة ويفقّهه ، بل طالع بعض مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وقلدهما من غير إتقان ، مع أنهما يحرمان التقليد (1).
    يقول العلامة السيد محسن الأمين العاملي :
    هذا يدل على أن محمد بن إسماعيل رجع عن مغالاته في التوهب ، ولعل رجوعه كان بعد تأليفه رسالة « تطهير الإعتقاد عن أدران الإلحاد » فإنّ تلك الرسالة لا تقصر عن كتب ابن عبدالوهاب في المغالاة (2).

أهل البيت أدرى بما فيه
    هذه لمحة خاطفة عن حياة محمد بن عبدالوهاب ، جئنا بها ليكون القارىء الكريم على اطلاع بحقيقة حاله على جهة الإجمال ، ولكن هناك الكثير الكثير في الزوايا والخبايا ذكرت في تاريخ حياته أغفلنا ذكرها روما للاختصار ، ولكن ما يجب ذكره في المقام كلمة أخيه في حقه ، وهو من أهل بيته وأدرى بحاله منّا ومن كل كاتب. يقول في كتاب أسماه « الصواعق الإلهية » رداً على آراء أخيه : « فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ، ويستنبط من علومهما ، ولا يبالي من خالفه.
1 ـ كشف الارتياب ، ص 8 .
2 ـ السيد محسن : كشف الارتياب : ص 16 ـ 19.


(345)
    وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ولا واللّه ، ولا واللّه عشر واحدة ، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهّال ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، الأُمة كلها تصيح بلسان واحد ، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال! أللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق ... » (1)
    ويقول ايضاً : إنّ هذه الأُمور ( الّتي يكفر بها محمد بن عبد الوهاب ) حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام ، حتّى ملأت بلاد الاِسلام كلها ، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك ، ولا قالوا هؤلاء مرتدون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام ، ومع هذا لم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر ، بل ما يظن هذا عاقل ، بل واللّه لازم قولكم أن جميع الأُمة بعد زمان الإمام أحمد ـ رحمة اللّه تعالى ـ ، علماؤها وأُمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدّون ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، واغوثاه إلى اللّه! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم إنّ الحجة ما قامت إلاّ بكم ، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام (2).
    وهذه العبارة من أخيه صريحة في أنه كان يكفّر جميع طوائف المسلمين ، ويعتبر بلادهم بلاد حرب.

تكفير محمد بن عبد الوهاب جميع المسلمين
    ولعلّ القارىء ينتابه الاستغراب مما نسبه إليه أخوه ، ولكنه إذا رجع إلى مبادىء دعوته يسهل له التصديق بالنسبة ، وإليك خلاصة رسالته تحت أربع قواعد :
1 ـ سليمان بن عبدالوهاب النجدي : الصواعق الإلهية ، ص 3 ـ 4.
2 ـ نفس المصدر السابق ، ص 38.


(346)
الأُولى : إنّ الكفار الذين قاتلهم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) مقرّون بأنّ ( اللّه ) هو الخالق الرازق المدبر ، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصَارَ ... فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (1).
    الثانية : إنهم يقولون : ما دعونا الأصنام وما توجهنا إليهم الاّ لطلب القرب والشفاعة لقوله تعالى : ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ مَا نَعْبُدُهُم اِلاّ لَيُقَرِّبُونا إلى اللّه زُلفَى ) (2). وقوله : ( وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّه مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (3). الثالثة : إنّه ظهر ( صلّى اللّه عليه وآله ) على قوم متفرقين في عبادتهم ، فبعضهم يعبد الملائكة ، وبعضهم الأنبياء والصالحين ، وبعضهم الأشجار والأحجار ، وبعضهم الشمس والقمر ، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.
    الرابعة : إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ، لأن أولئك يشركون في الرخاء ، ويخلصون في الشدة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى :
    ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (4).
    وهو لا يريد من قوله « إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً ... » إلاّ المسلمين عامة ، وذلك لأنهم يتوسلون بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في شدتهم ورخائهم ، ولذلك صاروا عنده أغلظ من مشركي عهد الرسالة.
    ومما يؤخذ عليه فيما ذكره في القاعدة الثانية ، وهي المحور الرئيس للضلالة ، أنّ هناك فرقاً جلياً بين المسلمين وعبدة الأوثان والأصنام ، فإنّ
1 ـ سورة يونس : الآية 31.
2 ـ سورة الزمر : الآية 3.
3 ـ سورة يونس : الآية 18.
4 ـ محمد بن عبد الوهاب : رسالة أربع قواعد ص 1 ـ 4 ط مصر المنار ، سورة العنكبوت : الآية 65.


(347)
المسلمين يعبدون اللّه وحده ، ولا يتوجّهون إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ بقصد أن يدعو لهم عند اللّه ، ويشفع لهم عنده ، وأين هو من عبدة الطاغوت الذين كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه ، ويتوجهون إليها على أنها آلهة تملك ضرهم ونفعهم ، وما هذه إلاّ مغالطة مفضوحة ، وقد تكررت هذه الظاهرة في أكثر رسائله وكتبه ، فإليك نتفاً منها في كتابه الآخر المسمى بكشف الشبهات الّذي فرض تدريسه على علماء الحرمين في بعض الفترات الّتي شهد لها التاريخ ، حيث يقول في حق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) :
    1 ـ « أرسله إلى أُناس يتعبّدون ويحجّون ويتصدقون ويذكرون اللّه كثيراً ، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات بينهم وبين اللّه ، يقولون نريد منهم التقرب إلى اللّه ، ونريد شفاعتهم عنده ، مثل الملائكة و عيسى و مريم وأُناس غيرهم من الصالحين (1).
    وفي هذه العبارة من المغالطة مالا يخفى ، فقد حاول تزييف الحقيقة وقال : ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين اللّه ، فقد ركز على التوسيط ، مع أنهم عبدوهم أولا ، واتخذوهم وسائط ثانياً ، فالممنوع هو عبادة الغير لا توسيطه ، فالشيخ يركز على مجرد الوساطة الّتي ليست ملاكاً لشركهم ، ويترك ما هو الملاك لكفرهم ، أعني عبادتهم. وعمل المسلمين على اتخاذ الوسيلة لا على عبادتها.
    2 ـ يقول في موضع آخر ما نصه :
     « إنّ التوحيد الّذي جحدوه هو توحيد العبادة ، الّذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد ، كما كانوا يدعون اللّه سبحانه ليلا و نهاراً ، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من اللّه ليشفعوا له ، أو يدعو رجلا صالحاً مثل اللات ، أو نبياً مثل عيسى (2).
    فتراه كيف يستر الحقيقة فيقول : « ثم منهم من يدعو الملائكة أو يدعو
1 ـ كشف الشبهات : ص 3 .
2 ـ محمد بن عبدالوهاب : كشف الشبهات ، ص 4 ، ط مصر بتصحيح محب الدين الخطيب.


(348)
رجلا صالحاً فيركز على الدعوة الّتي هي أعم من العبادة ، مع أنّ منهم من يعبد الملائكة ، أو يعبد رجلا صالحاً ، وليس كلّ دعوة عبادة ، وإلاّ فلا يوجد فوق البسيطة من يصحّ تسجيل اسمه في ديوان الموحدين ، والرجل لأجل إثبات أنّ المسلمين في دعوة النبي والصالحين كهؤلاء المشركين في عبادة الملائكة والصالحين ، يركز على كلمة « يدعو » ويترك كلمة « يعبد » فهناك فرق بين الدعوة والعبادة ، وليس كل دعوة عبادة ، ولا كل عبادة دعوة ، بل بينهما من النسب عموم و خصوص من وجه ، فلو كانت الدعوة تنبثق من ألوهية المدعو وربوبيته فتتّسم بالعبادة ، ولو كان انبثاقها من أنه عبد من عباد اللّه ولكنه عبد عزيز عند اللّه تستجاب دعوته إذا دعا ، فلا تكون الدعوة عبادة ، بل يدور الأمر بين كونه مفيداً إذا كان مستجاب الدعوة ، وغير مفيد ، إذا لم يكن كذلك.
    3 ـ يقول أيضاً : « تحققت أنّ رسول اللّه قاتلهم ليكون الدعاء كله للّه ، والذبح كله للّه ، والنذر كله للّه ، والاستغاثة كلها باللّه ».
    أمّا كون الدعاء كله للّه فإن كان المراد به العبادة فلا غبار عليه ، والمسلمون على هذا عن بكرة أبيهم ، وإن كان المراد هو القسم الّذي لا يراد به العبادة فليس بمنحصر في اللّه ، وما أكثر دعاء إنسان لإنسان وهذا هو الدعاء ورد في القرآن الكريم في غير مورد العبادة. قال سبحانه :
     ( قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيلا وَنَهَاراً ) (1).
    وأمّا النذر فلا شك أنّ المسلمين ينذرون للّه سبحانه ، ويذكرون لفظ الجلالة في إنشاء صيغته الدالة عليه ، وقد أسهبنا القول في ذلك فيما مضى ، والشيخ خلط بين اللام للغاية واللام للانتفاع ، فلو استعملت في بعض الموارد لفظة اللام فإنما يراد منه الانتفاع ، فلو قيل هذا نذر للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أو للروضة المباركة ، فالمراد هو إهداء ثوابه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أو انتفاع الروضة به.
1 ـ سورة نوح : الآية 5 .

(349)
    4 ـ ويقول أيضاً :
     « إنّ المشركين يقرّون بالربوبية وإن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء ».
    يؤاخذ عليه أن كفرهم إنما لعبادتهم الملائكة والأنبياء لا لتعلقهم بها إذ ليس مجرد التعلق مع الاعتراف بعبوديتهم وعدم تفويض الأمر إليهم موجباً للتكفير.
    5 ـ ويقول أيضاً : « إنّ الذين قاتلهم رسول اللّه مقرّون بأن أوثانهم لا تدبّر شيئاً وإنما أرادوا منها الجاه والشفاعة » (1).
    فترى أنه كيف يقلب الحقيقة ، فلم يكن تكفيره لهم لأجل طلب الشفاعة ، بل لعبادتهم أولا ، ثم طلب الشفاعة منهم ثانياً ، قال سبحانه :
     ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُون هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (2).
    6 ـ ويقول : « إنّ اللّه كفّر من قصد الأصنام ، وكفّر من قصد الصالحين ، وقاتلهم رسول اللّه ».
    كلاّ ، إنّ رسول اللّه كفّر من عبد الصالحين ، لا من قصدهم ، فمن قصد الصالحين لطلب العلم والمال والدعاء لا يكون كافراً.
    7 ـ ويقول أيضاً ـ وهو يعلّم أتباعه كيف يناظرون المخالف ـ : اقرأ عليه : ( ادعوا ربّكم تضرعاً وخفيةً إنه لا يحبّ المعتدين ) فإذا أعلمته بهذا فقل له : هل علمت هذا عبادة للّه؟ فلا بد أن يقول نعم ، والدعاء مخ العبادة ، فقل له : إذا أقررت أنها عبادة ، ثم دعوت تلك الحاجة نبياً أو غيره ، هل أشركت في عبادة اللّه غيره؟ فلابد أن يقول نعم » (3).
1 ـ نفس المصدر السابق ، ص 6.
2 ـ سورة يونس : الآية 18.
3 ـ نفس المصدر السابق .


(350)
    والمغالطة في كلامه واضحة ، فإنّ الدعاء في قوله : « ادعوا ربكم » مساوق للعبادة لا بمعنى أن الدعاة بمعنى العبادة ، بل معناه أن الدعوة إذا انبثقت من الاعتقاد بالألوهية والربوبية تصير مصداقاً للعبادة ، وجزءاً من جزئياته ، كما أن المراد من قوله : « والدعاء مخ العبادة » هو أن الدعاء مخ العبادة ، أو دعاء من يعتقد أنه ند للّه في جميع الشؤون أو بعضها مخ العبادة ، وأين هو من دعوة الأنبياء والصالحين الذين لا يُدعَوْن إلاّ بعنوان أنهم عباد صالحون لا يعصون اللّه ما أمرهم وهم بأمره يعملون ، ولا يملكون شيئاً لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً إلاّ بإذن اللّه ، أفهل تكون الدعوتان متماثلتين حتّى تشتركا في الحكم؟
    وإنك إذا تتبعت كلماته وجمله في هذا الكتاب يظهر لك أنه يحاول التضليل من طريق تشبيه توسل المسلمين ودعائهم ، بعمل المشركين وعبدة الأوثان ، بالتمسك بمشابهات ومشاركات بعيدة ، وتناسى ما هو البون الشاسع بين الأُمتين والدعوتين.
    قال زيني دحلان : كان محمد بن عبدالوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة : ومن توسل بالنبي فقد كفر ، وكان أخوه الشيخ سليمان ينكر عليه إنكاراً شديداً ، فقال لأخيه يوماً : كم أركان الإسلام يا محمد؟ فقال : خمسة (1) فقال أنت جعلتها ستة : السادس : من لم يتبعك فليس بمسلم ، هذا عندك ركن سادس للإسلام.
    وقال رجل آخر : كم يعتق اللّه كل ليلة في رمضان؟ فقال له : يعتق في كل ليلة مائة ألف ، وفي آخر ليلة ، يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله ، فقال له : لم يبلغ من اتّبعك عشر ما ذكرت ، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم اللّه تعالى ، وقد حصرت المسلمين فيك وفي من اتّبعك؟ فبهت الّذي كفر.
    ولما طال النزاع بينه وبين أخيه فخاف على نفسه ، فارتحل إلى المدينة المنورة ، وألّف رسالة في الرد على محمد بن عبدالوهاب وأرسلها له ، فلم
1 ـ يشير إلى ما رواه البخاري في كتاب الإيمان.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس