بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 51 ـ 60
(51)
الإمام المفترض الطاعة (1) فلمّا أراد المسير إلى الشام جمع من كان حوله من المهاجرين والأنصار فحمدالله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعدُ : فإنّكم ميامين الرأي ، ومراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم ، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ، وعمّار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري يحثّون عليّاً ( عليه السَّلام ) على قطع جذور الفتنة.
    فقال عمّار : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت أن لا تُقيم يوماً واحداً فافعل. اشخص قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادْعهم إلى رشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلاّ ضربَنا ، فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وهو كرامة فيه.
    وقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمتَ وحرب لمن حاربتَ ورأينا رأيك ونحن كف يمينك.
    إلى كلمات محرّضة وجمل حاثّة إلى الكفاح واخماد النار قبل اشتعالها. فلمّا سمع الإمام هذه الكلم النابعة من صميم الإيمان والنصح للإسلام ، قام خطيباً على منبره فحمدالله وأثنى عليه ثم قال : سيروا الى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار (2) .
    يقول المسعودي : كان مسير علي ( عليه السَّلام ) من الكوفة إلى صفّين
    1 ـ أين الذين يقولون « ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لايقاتلوا في الفتن » لا حظ مقالات الاسلاميين 323 ، للامام الأشعريّ.
    2 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 92 ـ 93.


(52)
لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود ، عُقْبة بن عمرو الأنصاري ، فاجتاز في مسيره بالمدائن ، ثمّ أتى الأنبار حتى نزل الرقة فعقدله هنالك جسر فعبر إلى جانب الشام ، وقد اختلف في مقدار من كان معه من الجيش ، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.
    وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين ، وقد اختلف من كان معه ، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً (1) .

خروج معاوية إلى صفّين :
    خرج معاوية من الشام وقدم صفّين وغلب على الماء ، ووكّل أبا الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألفاً ، وبات علي وجيشه في البرّ عطاشى ، قد حيل بينهم وبين الورود ، فقال عمروبن العاص لمعاوية : إنّ عليّاً لا يموت عطشاً ومعه تسعون ألفاً من أهل العراق دعهم يشربون ونشرب ، فقال معاوية : لا والله أويموت عطشاً كما مات عثمان.

استعادة الشريعة من جيش معاوية :
    دعا علي بالأشتر فبعثه في أربعة آلاف من الخيل والرجالة ، ثمّ سار عليّ وراء الأشتر بباقي الجيش ، فما ردّ وجهه أحد حتى هجم على عسكر معاوية ، فأزال أبا الأعور عن الشريعة ، وغرق منهم بشراً وخيلا. وتراجع جيش معاوية عن الموضع الذي كان فيه ، فقال معاوية لعمروبن العاص : أترانا ليمنعنا الماء كمنعنا إيّاه ، فقال له عمرو : لا ، لأنّ الرجل جاء لغير هذا ، فأرسل إليه معاوية يستأذنه في ورود مشرعته واستقائه الماء في طريقه ، ودخول رُسُله في عسكره ،
    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/121.

(53)
فأجاب علي إلى كل ما سأل وطلب منه (1) .
    نزل الإمام علي منطقة صفّين في أوّليات ذي الحجة عام 36 ، والشهر من الأشهر الحرم ، وبعث إلى معاوية يدعوه إلى إجتماع الكلمة والدخول في جماعة المسلمين ، فطالت المراسلة بينهما فاتّفقوا على الموادعة إلى آخر محرّم سنة سبع وثلاثين.
    ولمّا انقضى شهر محرّم ، بعث علي إلى أهل الشام إنّي قد احتججت عليكم بكتاب الله تعالى ، ودعوتكم إليه ، وإنّي قد نبذت إليكم على سواء ، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين. فما كان جوابهم إلاّ قولهم : السيف بيننا وبينك حتى يهلك الأعْجزُ منّا.
    أصبح عليّ يوم الأربعاء وكان أوّلَ يوم من شهر صفر ، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمام الجيش ، فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وكان بينهم قتال شديد وأسفر عن قتلى بين الفريقين جمعياً.
    امتدت الحرب كل يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبع وثلاثين وكان النصر حليفه في كل يوم إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس الأخير ، فعنذاك قام علي ينادي :
    ياالله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا الله ، يا الله ، اللّهُمّ إليك نقلتِ الأقدام ، وأفضتِ القلوب ، ورفعت الأيدي ، وامتدّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج ، اللّهُمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا ، وكثرة عدوّنا وتشّتت أهوائنا ، ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ، ثم قال :
    سيروا على بركة الله ، ثم لا إله إلاّ الله ، و الله أكبر ، كلمة التقوى.
    1 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 157 ـ 162.

(54)
قال الراوي : لا والله الذي بعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بالحق ماسمعنا برئيس قدم منذ خلق الله السموات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب. إنّه قتل فيما ذكره العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب (1) .
    ثمّ قام علي خطيباً وقال : أيّها النّاس قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإنّ الاُمور إذا اقْبلت اعتُبر آخرُها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين ، حتّى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا عاد عليهم بالغداة ، أحاكمهم الى الله عزّوجل.
    فبلغ ذلك معاوية فدعا عمروبن العاص فقال : يا عمرو انّما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل ، فمّا ترى؟ قال : إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره. أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردّوه اختلفوا ، ادْعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم ، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم فإنّي لم أزل اُأخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه ، فعرف ذلك معاوية ، فقال صدقت (2) .
    يقول تميم بن حذيم : لمّا أصبحنا من ليلة الهرير ، نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام فلمّا أسفرنا فإذا هي مصاحف قد ربطت أطراف الرماح ، وهي عِظامُ مصاحِف العسكر ، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً ، وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يُمسكه عشرة رهط ، وقال أبوجعفر وأبوالطفيل : استقبلوا عليّاً بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مُجَنَّبة مائتي مصحف ، وكان
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 477.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 544 ـ 548.


(55)
جميعها خمسمائة مصحف. قال أبوجعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حِيالَ علي وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : .... يا معشر العرب ، الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال علي : اللّهُمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنّك أنت الحكيم الحق المبين. فاختلف أصحاب عليّ في الرأي. فطائفة قالت : القتال ، وطائفة قالت : المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعِينا إلى حكم الكتاب. فعند ذلك بطلت الحروب ووضعت أوزارها ، فقال محمّد بن علي : فعند ذلك حكم الحكمان.
    وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش علي ( عليه السَّلام ) حيث زعموا أنّ اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان ، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل وانّ الغاية القصوى منها ، هو إيجاد الشقاق والنفاق في جيش علي وتثبيط هممهم حتى تخمد نار الحرب التي كادت أن تنتهي لصالح علي وجيشه ، وهزيمة معاوية وناصريه.
    ولكن الخديعة كانت قد وجدت لها طريقاً في جيش العراق حتى سمع من كل جانب : الموادعة إلى الصلح والنازل لحكم القرآن ، فلمّا رأى علي ( عليه السَّلام ) تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال : « أيّها الناس إنّي أحقُّ مَنْ اجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمروبن العاص ، وابن أبي معيط وحبيب ابن مسْلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حق يراد بها باطل : إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم


(56)
يعرفونها ويعلمون بها ، ولكنّها الخديعة والمكيدة. أعيروني سواعِدَكم وجَماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا » (1) .
    وقد كان لخطاب علي أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفتن ، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريين من أهل البادية ، الذين ينخدعون بظواهر الاُمور ، ولا يتعمّقون ببواطنها ، ففوجىء علي ( عليه السَّلام ) بمجييء زهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد شاكي سيوفهم وقد اسودَّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه بإسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا : يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيتَ وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم.
    فقال الإمام لهم : « ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون » قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتينّك ، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.
    فلم يجد علي ( عليه السَّلام ) بداً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه ، فأرسل إليه علي ، يزيد بن هاني أن ائتني ، فأتاه ، فأبلغه ، فقال الأشتر : ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ، أنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني ، فرجع يزيد بن هاني إلى علي ( عليه السَّلام ) فاخبره ، فما هو إلاّ أن
    1 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 560.الطبري : التاريخ 4/34 ـ 35.

(57)
علت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والادبار لأهل الشام فقال القوم لعلي ( عليه السَّلام ) : والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال ، قال علي ( عليه السَّلام ) : أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلاّ فوالله اعتزلناك ، فقال الإمام : ويحك يا يزيد قل له اقبل فإنّ الفتنة قد وقعت ، فأتاه فأخبره.
    فقال الأشتر : أبرفع هذه المصاحف؟ قال : نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة أنّها من مشورة ابن النابغة ، ثم قال ليزيد بن هاني : ويحك ألاترى إلى الفتح؟ ألاترى إلى مايلقون؟ ألاترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟.
    فقال له يزيد أتحبّ أنّك ظفرت ها هنا وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ، ويسلّم إلى عدوّه؟ قال : سبحان الله ، لاوالله الا أحبّ ذلك ، قال : فانّهم قد قالوا له وحلفوا عليه لتُرسِلن إلى الاشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنسلّمنّك إلى عدوّك.
    فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم ، فصاح : يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وتركوا سنّة من أنزلت عليه ، امهلوني فواقاً ، فإنّي قد أحسست بالفتح؟ قالوا : لا نُمْهلك ، فقال : أمهلوني عدوة الفرس ، فإنّي قد طمعت في النصر؟ قالوا : إذاً ندخل معك في خطيئتك.
    فسّبوه وسبّهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابّته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح عليّ ( عليه السَّلام ) بهم فكفّوا ، وقال الأشتر يا أميرالمؤمنين احمل الصف على الصف ، يصرَع القوم ، فتصايحوا : إنّ أمير المؤمنين قد قبل الحكومة


(58)
ورضي بحكم القرآن ، فقال الأشتر : إن كان أميرالمؤمنين قد قبل ورضى ، فقد رضيت بما رضي به أميرالمؤمنين.
    فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أميرالمؤمنين ، وهو ساكت لا يبضُّ بكلمة ، مطرق إلى الأرض (1) .
    ثم قام فسكت الناس كلّهم فقال : « أيّها الناس إنّ أمري لم يزل معكم على ما أحبُّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، إلاّ انّي قد كنت أمس أمير المؤمنين فصرت مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (2) .
    قال نصر بن مزاحم : ثمّ تكلّم رؤساء القبائل فكل قال مايراه ويهواه ، فقام كردوس بن هاني البكري يدعوا الناس إلى تسليم الأمر إلى عليّ ، كما قام شقيق بن ثور البكري يدعوا الناس إلى الصلح والموادعة ويقول : وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلاّ في الموادعة (3) .
    هذه الحوادث المؤلمة التي أسفرت عن مؤامرة خبيثة يراد منها ايقاع الفتنة والخلاف في جيش علي ( عليه السَّلام ) إلى النزول إلى حكم القوم كرهاً بلا اختيار ، واضطراراً لا عن طيب نفس.
    فبعث علي قرّاء أهل العراق ، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفّين فنظروا فيه وتدراسوه واجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن ، ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس : « قد رضينا
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 560 ـ 564.
    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/219 ـ 220. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 553.
    3 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفيّن 554.


(59)
بحكم القرآن ».

فرض التحكيم أوّلا ، وفرض المحكّم ثانياً :
    ولقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ أنّهم فرضوا نفس التحكيم على الإمام المفترض طاعته ببيعة المهاجرين والأنصار ، ولم يبق بينه وبين الفتح والظفر على العدو إلاٌّ قاب قوسين أوأدنى أوبمقدار عدوة الفرس كمّا قاله الأشتر.
    إنّهم ـ قبّح الله وجوههم ـ لم يكتفوا بهذا الحد في قلّة الأدب ، بل فرضوا عليه المحكّم ، فإن الإمام لمّا لَم يَر بدّاً من قبول التحكيم فاقترح عليهم أن يكون المحكّم من جانبه أحد الرجلين : ابن عمّه ـ عبدالله بن عباس ـ أو الأشتر.
    ولكنّهم رفضوا كل ذلك وأبوا إلاّ نيابة أبي موسى الأشعري الذي خذل عليّاً ( عليه السَّلام ) في بداية خلافته ، ولم يبايعه إلاّ باكثار الناس ولم يشجّع أهل الكوفة على نصره بل سكت.
    يقول ابن مزاحم : قال اهل الشام : فإنّا قد رضينا واخترنا عمروبن العاص ، فقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد : فانّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري ، فقال لهم علي ( عليه السَّلام ) : « إنّي لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أولِّيه » فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القرّاء : انّا لا نرضى إلاّ به ، فإنّه قد حذّرنا ما وقعنا فيه ، قال علي ( عليه السَّلام ) : « فإنّه ليس لي برضى ولكن هذا ابن عباس اُوّليه ذلك ، قالوا : والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ولا نريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، قال علي : فإنّي أجعل الأشتر ، فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر.


(60)
    حتى انّ عليّاً اقترح عليهم الأحنف بن قيس فأبوا أن يقبلوه ، وقالوا : لايكون ألاّ أبا موسى ، وقد كان معروفاً بأنّه قريب القعر ، كليل الشفرة ، فلم ير علي ( عليه السَّلام ) بداً من قبول أبي موسى ، وقد كان الإمام عارفاً ببساطته وسذاجته ، وكانت في ذلك خسارة عظمى لحزب علي ( عليه السَّلام ) وأشياعه إلى حدّ وصفها الشاعر بقوله :
لو كان للقوم رأي يُعْصمونَ به لله درُّ أبيه أيُّما رجل لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن أن يخلُ عمروبه ، يقذفه في لجج ابلغ لديك عليّاً غير عاتِبِه من الظلال رَمَوكم بابن عباس ما مثله لفصال الخطب في الناس لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس يَهوي به النجمُ تَيْساً بين أتياس قول امرىء لا يرى بالحقِّ من بأس (1)
    لقد كان عليّ ( عليه السَّلام ) واقفاً على انحراف أبي موسى عنه ، وانّ هواه مع غيره ، ومع ذلك لم يجد بدّاً عن الرضا بما فرض عليه البسطاء من جيشه ، وهذا هو الأحنف بن قيس من أصدقاء علي ( عليه السَّلام ) وخُلّصِ شيعته ، فقد امتحن أبا موسى بعد ما نُصِبَ حكماً من قبل علي ( عليه السَّلام ) فقال له ممتحناً : « فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي ، فخّيره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنّهم يولّونا الخيار فنختار من نريد ، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا ، فإن فعلوا كان الأمر فينا ، فقال أبو موسى : قد سمعت ما قلت ، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي ( عليه السَّلام ) فرجع الأحنف إلى علي ( عليه السَّلام ) فقال له : أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل مخضة. لا أرانا إلاّ بعثنا رجلا لا ينكر خلعك ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : الله
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 575 ـ 576.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس