بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 61 ـ 70
(61)
غالب على أمره (1) .
    إنّ الإمام خاطب أبا موسى ـ عندما بعثه إلى دُومَةِ الجندل حكماً ـ بقوله : احكم بكتاب الله ولا تجاوزه ، ولمّا ودّع أبا موسى وغادر المجلس ، قال الإمام : كأنّي به وقد خدع ، فقال عبيدالله بن أبي رافع : لماذا تبعثه وهو على هذه الفكرة؟ فقال الإمام ( عليه السَّلام ) لو عمل الله في خلقه بعلمه ، ما احتجّ عليهم بالرسل (2) .

صياغة اتفاقية الصلح :
    إنّ القوم فرضوا على الإمام التحكيم والمحكّم ، ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا عليه ما كان الخصم يطلبه في تحرير وصياغة اتفاقية الصلح ، ولمّا اتفق الطرفان على كتابة الصلح وايقاف الحرب إلى أن يحكم الحكمان دعا علي ( عليه السَّلام ) كاتبه ليكتب صحيفة الصلح على النحو الذي يمليه الإمام ، فقال الإمام : اكتب : « هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين » فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنّه أمير المؤمنين ثمّ قاتلته ، وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنّما هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا. فلمّا اُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمح اسم امرة المؤمنين عنك ، فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لا تمحها ، وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها ، ثمّ إنّ الأشعث بن قيس جاء ، فقال : امح هذا الاسم. فقال علي : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، سنّة بسنّة ، أما والله لعلى يدي ، دار هذه الأمر يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « هذا ما تصالح عليه
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 617. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/249.
    2 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب 2/261.


(62)
محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وسهيل بن عمرو » فقال سهيل : لا أجيبك إلى كتاب تسمّي (فيه) رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ولو أعلم أنّك رسول الله لم اُقاتلك إنّي إذاً ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ولكن اكتب « محمّد بن عبدالله » أجبك ، فقال محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يا علي إنّي لرسول الله ، إنّي لمحمّد بن عبدالله ، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم« محمّد بن عبدالله » ، فاكتب : محمّد بن عبدالله ، فراجعني المشركون في هذا إلى مدّة ، فاليوم اكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلى آبائهم سنّة ومثلا. فقال عمروبن العاص : « سبحان الله ، ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟ » فقال له علي ( عليه السَّلام ) : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً وهل تشبه إلاّ اُمّك التي وضعت بك. فقام عمرو فقال : والله لايجمع بيني وبينِك مجلس أبداً بعد هذا اليوم ، فقال علي : والله إنّي لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك (1) .

اتفاقية الصلح أو وثيقة التحكيم :
    تنازل عليّ ( عليه السَّلام ) عن حقّه المشروع ورضى ، كما رضي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أن يكتب اسمه مجرّداً عن توصيفه بامرة المؤمنين فأملى عليّ صحيفة الصلح بالنحو التالي وفيها عبر ونكات وتشتمل على بنود ربّما نرجع إليها في المستقبل :
    1 ـ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 582 ـ 583.

(63)
معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب. إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وانّه لا يجمع بيننا إلاّ ذلك ، وانّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، على ذلك تقاظيا ، وبه تراضيا.
    2 ـ إنّ علياً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبدالله بن قيس (1) ناضراً ومحاكماً ، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمروبن العاص ناضراً ومحاكماً.
    3 ـ على أنّهما أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد في خلقه ، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً. ومالم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) الجامعة ، لايتعمّدان لهما خلافاً ، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة.
    4 ـ وأخذ عبدالله بن قيس وعمروبن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وانّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق ، رضى بذلك راض أو أنكره منكر وانّ الاُمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل.
    5 ـ فإن توفّى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لايألون عن أهل المعدلة والاقساط ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وله مثل شرط صاحبه ، وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه يرضون عدله. وقد وقعت القضية
    1 ـ هو أبو موسى الأشعري.

(64)
ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة.
    6 ـ وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألاّ يألوا اجتهاداً ، ولا يتعمّدا جوراً ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ). فإن لم يفعلا برئت الاُمّة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولاذمّة. وقد وجبت القضية على ما قد سُمِّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين ، والله أقرب شهيداً ، وأدنى حفيظاً ، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.
    7 ـ وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل الطرق وأهل الشام ولا يحضر هما فيه إلاّ من أحبّا ، عن ملأ منهما وتراض. وانّ المسلمين قد اَجّلوا القاضيّين إلى انسلاخ رمضان (1) ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها ، وإن أراداتا خيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنّ ذلك إليهما.
    8 ـ فإن هما لم يحكمابكتاب الله وسنّة نبّيه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب. ولا شرط بين واحد من الفريقين. وعلى الاُمّة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد فيه إلحاداً وظلماً أوحاول له نقضاً. ثمّ إنّه شهد بما في الكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما فمن أصحاب علي ، عبدالله بن عباس ، والأشعث بن قيس ، والأشتر مالك بن الحارث ، والحسن والحسين ابنا عليّ وطائفة اُخرى يبلغ عدد الشهود سبعاً وعشرين شخصاً وفيهم من الصحابة الكبار ، نظير خبّاب بن الارث وسهل بن حنيف وعمروبن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عدي ، كما شهد من أصحاب معاويه أبوالأعور
    1 ـ أي رمضان سنة تحرير الاتفاقية وهي سنة 37 ، وقد كتب الكتاب في صفر هذه السنة كما سيوافيك.

(65)
وبسر بن أرطاة وعبدالله بن عمروبن العاص ، وكتبت لثلاث عشر ليلة بقيت من صفر سنة 37 (1) .
    ونلاحظ أنّ في الميثاق تصريحاً بأنّه من اللازم على الحكمين الإدلأ برأيهما إلى انقضاء موسم الحج من عام 37 وهما أدليا برأيهما في شعبان تلك السنة كما سيوافيك.
    وما نقله الطبري عن الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة غير صحيح (2) .

صورة اُخرى لوثيقة التحكيم :
    ثمّ إنّ ابن مزاحم نقل صورة اُخرى لوثيقة التحكيم يتّحد مع ماسبق لبّاً ويختلف في بعض الموارد عبارة فمن أراد فليرجع إلى مصدره وفي ذيلها : « وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين واتَّعد الحكمان (اذرح) » (3) وأن يجيء علي بأربعمائة من أصحابه ، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة.
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 582.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/52.
    3 ـ اذرح ـ بضم الراء ـ بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الروم.


(66)

(67)
االفصل الثالث
نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ التحكيم


(68)

(69)
    إنّ الذين حملوا عليّاً ( عليه السَّلام ) على الموادعة والرضوخ للتحكيم ، رجعوا عن فكرتهم وزعموا أنّ أمر التحكيم على خلاف الذكر الحكيم حيث يقول ( ان الحُكْم إلاّ لِلِّه ) (1) فحاولوا أن يفرضوا على علىّ ( عليه السَّلام ) أمراً رابعاً وهو القيام بنقض الميثاق ورفض كتاب الصلح بينه وبين معاوية ، فجاء هؤلاء قائلين : « لا حكم إلاّلله ، الحكملله يا علي لالك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين ، فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك. فقال علي : وَيْحكم ، أبعد الرضا(والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله تعالى قال : ( اُوفوا بالعقود ) وقال : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ) : فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه ، وبرئت من علي ( عليه السَّلام ) ، وبري
    1 ـ الأنعام : 57. وقد ورد في سورة يوسف أيضاً مرّتين ، لا حظ الآية 40 و 67 من هذه السورة.

(70)
منهم (1) .
    وقال الطبري : لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى إلى الحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي (2) ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلاّ لله ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : لا حكم إلاّ لله ، فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا ، فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزّوجل : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ). فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه ، فقال علي : ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ، فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عزوجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه ، فقال له علي : بؤسا لك ما أشقاك كأنّي بك قتيلا تسفى عليك الريح. قال : وددت أن قد كان ذلك ، فقال له علي : لو كنت محقَاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا. إنّ الشيطان قد استهواكم فاتّقوا الله عزّوجلّ إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها فخرجا من عنده يُحكِّمان (3) .
    روى ابن مزاحم عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القرّاء قد
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589 ـ 590.
    2 ـ إنّ الاباضية ـ الفرقة الباقية من الخوارج ـ يقولون المحكمة الاُولى نظراء : زرعة ، وحرقوص ، والراسبي مُحِقوُن بحجة أنّهم أرادوا أن لا يحكم الرجال فيما حكم فيه سبحانه وهو قتال أهل البغي حتى يفيئوا ، ولكنّهم لا يذكرون شيئاً من أنّهم كانوا هم الأساس لمسألة التحكيم ، وهم الذين فرضوا على الإمام ، هذا الأمر. فلتكن على ذكر من هذا النقل حتى يحين وقت دراسة الموضوع.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/52 ـ 53.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس