بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 71 ـ 80
(71)
سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تنظر بهؤلاء القوم إن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق؟ فقال لهم عليّ : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ولا يحلّ قتالهم حتى ننظر بِمَ يحكم القرآن. (1)
    وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت مصّرة على التصالح وانّ عصابة منهم ، كانوا متوقّفين في بدء الأمر ، ثمّ بدا لهم أن ينصروا الإمام في وقت ، تمّت الإتفاقية بين الطرفين وأعطى الإمام العهد بالعمل بها.
    هذه الكلمة الجارحة التي صدرت من زرعة الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ونظائرها كانت تصدر من الخوارج آونة بعد اُخرى ، وذلك لأنّهم يتّهمون عليّاً بارتكاب الإثم ولزوم التوبة بنقض الصحيفة ، وفي مقابل ذلك سطّر التاريخ مواقفاً جريئة وحرّةً صدرت عن ثلّة من أصحاب علي ( عليه السَّلام ).
    هذا هو سليمان بن صرد من أصحاب علي أتاه بعد كتابة الصحيفة ووجهه مضروب بالسيف فلمّا نظر إليه علي ( عليه السَّلام ) قال : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدل ، فقال يا أمير المؤمنين : أما لو وجدتُ أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً. أما والله لقد مشيتُ في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت أحداً عنده خير إلاّ قليلا. وقام إلى علي ( عليه السَّلام ) محرز بن جريش بن ضليع ، فقال : يا أمير المؤمنين : ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟ فإنّي لأخاف أن يُورث ذلاّ ، فقال علي ( عليه السَّلام ) أبعد أن كتبناه ننقضه؟ إنّ هذا لا يحلّ.
    وقام فضيل بن خديج مخاطباً عليّاً لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي ( عليه السَّلام ) :
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 569.

(72)
بلى إنّ الأشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلاّ أن يعصى الله ويتعدّى ما فيه كتابه.
    فلمّا رآى علي ( عليه السَّلام ) تكرّر تلك المواقف قام خطيباً ليزيل الشكوك والأوهام عن قلوب شيعته فخطب وقال : « إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ، ولاليجيبوا إلى كلمة السواء ، حتى يُرْمَوا بالمناسر ، تتبعها العساكر ، وحتى يُرجَموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس ، يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم ، وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صُدُق صُبُر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلاّ جداً في طاعة الله ، وحرصاً على لقاء الله ، ولقد كنّا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللقم وصبراً على مضَضَ الألم ، وجداً في جهاد العدو ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان متصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيَّهما يسقي صاحبه كأس المنون مرّة لنا من عدوّنا ومرة لعدّونا منّا ، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتى استقّر الإسلام ملقياً جِرَآنه ، ومتبوَّئاً أو طانه ، ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم الله لتحتلبنّها دماً ولتُتَبِعنَّها ندماً (1) .
    وقد أعرب الإمام في خطبته هذه عن السبب الحقيقي للفصل والوهن الذي واجه جيشه مع كثرة عددهم وعدّتهم ، وما هذا إلاّ لأنّهم عصوا إمامهم ، واغترّوا بظواهر الاُمور ، وحسبوا أنّ اللجوء إلى كتاب الله شيء يدين به الخصم ،
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 56. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 597 ـ 598 وبين المنقول في المصدرين اختلاف في اللفظ ، ورجحّنا نقل الرضي.

(73)
ففرضوا على علي ( عليه السَّلام ) التحكيم والحّكم ، إلى غير ذلك من الاُمور التي ذكرناها آنفاً ، فصار القائد مقوداً والإمام مأموماً والمطاع مطيعاً.

تنبّؤ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بفتنة الخوارج :
    روى ابن هشام عن عبدالله بن عمروبن العاص أنّه قال : جاء رجل من بني تميم ـ في غزوة هوازن ـ يقال له ذوالخويصرة فوقف عليه وهو يعطي النّاس فقال : يا محمّد ، قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أجل ، فكيف رأيت؟ فقال : لم أرك عدلت ، قال : فغضب النبي ، ثم قال : ويحك ، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمربن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال : لا دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون (1) في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (2)
    1 ـ المراد من التعمق كثرة السؤال والاعتراض على الأوامر الصادرة من القيادة ويؤيّد ذلك الحديث المشهور : سأل رجل الإمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام )وقال : رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء ، ولا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلّي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة. انّ أباجعفر ( عليه السَّلام ) كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، انّ الدين أوسع من ذلك. (الصدوق : من لا يحضر الفقيه 1/167 ، الباب 39 ، الحديث 38). ويظهر ذلك ممّا روي عن علي من قصار الكلمات قال : الكفر على أربع دعائم : على التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ، نهج البلاغة قسم الحكم 31 ـ فمعنى التعمّق هنا لا يتنافى مع ما سنذكره من أنّ البساطة والسذاجة و الظاهرية كانت سمة من سماتهم.
    2 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 4/496. ابن الاثير : الكامل 2/184. ورواه البخاري في باب « المؤلفة قلوبهم على وجه التفصيل ، فمن أراد فليرجع إلى صحيحه ».


(74)
تحليل لكارثة التحكيم :
    إنّ هناك أسئلة تطرح نفسها ونحن نجيب عنها مستندين إلى متون الروايات الواردة حولها :
    الأوّل : لماذا اغتر المحكّمة بظواهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة لأجل اللجوء إلى القرآن ، واجراء حكمه بين الطرفين ، مع أنّ عليّاً وكثيراً من أصحابه نبّههم على أنّ ذلك خدعة ومكيدة. والجواب : انّ الذي حملهم على قبول التحكيم في بادىء ذي بدء أمران :
    1 ـ إنّ الخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بالعراقيين (مع أنّ خسائر الشاميين كانت أكثر) كانت عاملا نفسيّاً مهمّاً لقبول التحكيم ودافعاً لهم إليه وفي كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) اشارة إلى ذلك :
    قال ابن مزاحم : ذكروا أنّ الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال ، وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلنا هم عليه أمس ، ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس ، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة وثارت الجماعة بالموادعة فقام علي أميرالمؤمنين فقال : « إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، لقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، وانّها فيكم أنكى وأنهك .... وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (1) .
    ولعل النجاشي يشير إلى ذلك العامل في قصيدته إذ يقول :
غشيناهم يومَ الهرير بِعُصبة فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا يمانيّة كالسيل سيل عِرانِ عليها كتاب الله خير قرآن

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 553 ـ 554.

(75)
ونادوا (1) : عليّاً ، يا ابن عمّ محمّد فمن للذراري بعدها ونسائنا أما تتقي أن يهلك الثقلان ومن للحريم أيّها الفَتَيانِ (2)
    2 ـ إنّ البساطة والسذاجة من الاُمور التي تسود أهل البادية حيث لا يملكون الوعي الفكري والتجربة الإجتماعية ، وجلّ القبائل التي كانت تحارب تحت لواء عليّ من القاطنين في البادية غير متمدّنين ، فطبيعة عيشهم هو الصدق والصفاء والإيمان بظواهر الاُمور دون أن يتعمّقوا فيها لمعرفة ما يدور خلف الستار من خفايا ، ولأجل ذلك اغتّروا بظاهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على الأسنّة لأجل الاستظلال في ظلّه والعيش تحت رايته.
    غير أنّ الإمام والواعين من قادة جيشه علموا أنّ خلف هذا العمل مؤامرات وتفرّسوا بأنّ وارء هذا ليس إلاّ الفتنة ، ولأجل ذلك لمّا بعث علي ( عليه السَّلام ) أحد النخعيين إلى الأشتر لإيقاف الحرب ورجوعه إلى معسكر الإمام ، فسأله الأشتر عن سبب الفتنة ، وقال : « ألِرَفع هذه المصاحف؟ » قال نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقد اختلافاً وفرقة (3) .
    3 ـ إنّ عيشة القوم كانت عيشة قبيلة والنظام القبلي يفرض على كافة أفراد القبيلة ، الطاعة العمياء لرئيسها فإذا أصحر الرئيس بالرأي ، فالباقون بحكم الأغنام يتبعونه من دون تفكّر ووعي ، ولمّا كان في جيش علي ( عليه السَّلام ) رؤوس البطون ، وخضعوا للتحكيم ، لم يبق مجال لغيرهم في القبول والرفض ، ولأجل ذلك صار التحكيم فرضاً من جانب عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد ، ومن البعيد جداً أن يكون حكم كلّ واحد من هؤلاء صادراً عن وعي و إمعان.
    1 ـ يعني أهل العراق.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 602.
    3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 562.


(76)
الثاني : لماذا رجعوا عن التحكيم بعد فرضه على علي ( عليه السَّلام ) ؟ :
    إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد ، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة ، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلّه ).
    قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام ، وراياتهم ، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :
ما لعلي في الدماء قد حكم لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

    لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.
    ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : « لا حكم إلاّ لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » وخرج عروة بن اُديَّة فقال : أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله : فأين قتلانا يا أشعث؟ (1) .
    فزعموا أوّلا : أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 558. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.

(77)
سبحانه.
    ثانياً : انّ هذا تحكيم للرجال في دين الله ، وهو يضادّ النصّ الصريح في الذكر الحكيم أعني قوله تعالى : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلِّه ) وكلا الوجهين موجود ان في كلامهم يوم حاولوا فرض نقض الميثاق وطلبوه من علي ( عليه السَّلام ) يقول ابن مزاحم : فنادت الخوارج في كلّ ناحية :
    لا حكم إلاّ لله ، لا نرضى بأن يحكّم الرجال في دين الله.
    قد أمضى الله حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم (1) .
    ثالثاً : زعموا أنّ قبول التحكيم يستلزم أنّهم كانوا ضالّين في نضالهم وجهادهم ضد معاوية طيلة شهور ، ونتيجة ذلك أنّ ما ارُيقت منهم من الدماء ، وما قدموا في ذلك الطريق من الشهداء كانت على غير وجه الحق ولأجل ذلك لمّا قرأ الأشعث صحيفة الصلح على تميم ، قالوا : أتحكّمون الرجال في أمر الله لا حكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث (2) .
    رابعاً : قالوا : إنّك نهيت عن الحكومة أوّلا ثم أمرت بها ثانياً ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً ، وبأمرك مخطئاً ، وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً ، فلابد من خطئك على كلّ حال.
    هذه الوجوه الأربعة ممّا اغترّ به القوم ، وأرادوا فرض نقض التحكيم والميثاق على علي ( عليه السَّلام ) وهي تكشف عن بساطة القوم في المقام ، وإليك تحليل كل واحد من هذه الوجوه :
    أمّا الوجه الأوّل :فإنّه وإن كان قد مضى حكم الله في معاوية وأصحابه أن
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 594.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.


(78)
يقتلوا أو يدخلوا في حكم الإمام المفترض طاعته ، وكان الواجب على الإمام محاربتهم حتى تتحقّق احدى الغايتين ولكن التكليف بالمحاربة ، مرهون بالقدرة وعدم المانع من تحقيق التكليف ، والقوم سلبوا القدرة عن الإمام القائد ، حيث جاءوا إليه في عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد ، شاكي سيوفهم على عواتقهم يدعونه باسمه ويقولون : أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.
    أفي هذا الموقف الحرج يتصوّر أن تكون المحاربة تكليفاً شرعيّاً على الإمام أو يكون الحكم مرفوعاً بارتفاع قدرته على مواصلة الحرب ، إذ كانت نتيجة مواصلة الحرب هو قتل الإمام أوتسليمه إلى العدّو مكفوف اليدين ، ولكان الذل والوهن عندئذ أكبر وأفدح.
    نعم ، رجعت القدرة إلى الإمام بعد ندامتهم على التحكيم واستعدادهم لمواصلة الحرب بعد الصلح وأخذ المواثيق ، ولكن كانت الندامة في غير محلّها وندموا ولم ينفعهم الندم حيث ضاعت الفرصة الذهبية ، إذ كما أنّ من حكمه سبحانه مواصلة حرب الطغاة وقد نطق بها الذكر الحكيم ، كذلك الايفاء بالمواثيق ، واحترام العقود والعهود من أحكام القرآن والسنّة المطهرّة. ولأجل ذلك أجاب علي عن اصرارهم على مواصلة الحرب بقوله : « ويحكم ، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس الله تعالى قال : ( اُوفُوا بالعقودِ ) وقال : ( وَ أوفُوا بِعَهْدِ اللهِ اِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الأيمانَ بَعْدَ تَوْكيدَها وَ قَدْجَعَلْتُمْ الله عَلَيْكُمْ كفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونْ ) (1) .
    ولكن القوم كانوا بعيدين عن المنطق ، قريبي القعر ، سمعوا أدلّة الإمام ولم يجيبوا عنها بشيء إلاّ بتضليله والبراءة منه.وسوف نرجع إلى تحليل هذا
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589.

(79)
الوجه عند البحث عن الاباضيّة.
    وأمَا الوجه الثاني : أعني كون هذا تحكيماً للرجال في دين الله : وهو خطأ. إنّ الإمام وأصحابه لم يحكّموا الرجال في دين الله بل حكّموا القرآن والذكر الحكيم فيما اختلفوا فيه ولكن القرآن شجرة يانعة وحجة صامتة لا تجتني ثمرته ولا يعلم مقاصده إلاّ بمن ينطقه وإلى ذلك يشير الإمام في بعض خطبه :
    « إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن انّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان ، وانّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرِدُّهُ إلى اللهِ وَ الرسول ) فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق النّاس وأولاهم بها » (1) .
    وفي كلام آخر له :
    « فانّه حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرّنا القرآن إليهم ، اتبعناهم ، وإن جرّهم إلينا اتبعونا ، فلم آت ـ لا أباً لكم ـ بُجراً ولا خَتلْتكم عن أمركم ، ولا لبّستُه عليكم ، انّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدَّيا القرآن (2) .
    وقد جاء في نفس الميثاق الذي أملاه على التصريح بأنّ الحكم هوالقرآن ، وانّ دور الحكمين هو انطاق القرآن في محلّ النزاع وقد جاء في
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 125.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.


(80)
الميثاق قوله :
    « وان كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتّبعناه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرقة » (1) .
    وبعد هذه الكلم الواضحة ، المعربة عن حقيقة الحال ، كان اصرارهم على نقض الميثاق صادراً عن جهل وعجز في الرأي.
    وأمَا الوجه الثالث : أي أنّه يستلزم من قبول التحكيم كونهم ضالّين في نضالهم وجهادهم طيلة شهور ، وانّ الدماء التي اُريقت ، انّما اُريقت في غير وجه الحق ، فهو أوهن من الوجهين السابقين ، وذلك لأنّه سبحانه كما أمر بالقتال والنضال في كتابه وقال : ( قاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُوْمِنُونَ بِالله وَ لا بِالْيَوْمِ الآخِرِ .... ) (2) .
    وقال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةُّ وَيَكُونَ الدِينُ كَلُّهُ للهِ ... ) (3)
    كذلك أمر بالصلح والسلم في غير واحد من آياته ، وقال : ( وَاِن جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .... ) (4)
    وقال سبحانه : ( وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوْا فَاَصْلِحُوْا بَيْنَهُما فَاِنْ بَغَتْ إحْديهُما عَلى الاُخْرى فَقاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِىء إلَى أمْرِ الله فَإنْ فَآتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالْعَدْلِ
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/38.
    2 ـ التوبة : 29.
    3 ـ الأنفال : 39.
    4 ـ الأنفال : 61.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس