وَأَقْسِطُواْ
إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1) الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي
اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح ، والنضال
والموادعة حكم من أحكام القرآن ، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم
الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم ، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد
وقاتلهم في الأحزاب ، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها ، ومع ذلك فقد
صالح قريشاً في الحديبية ، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز
إليه في كلام علي ( عليه السَّلام ) حتّى انّ قريشاً
أبوا أن يكتب « رسول الله » إلى جانب اسمه ، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما
أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة ، فكان في
ذلك اقتداء بالنبي ، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله
فلا تنقلب عمّا عليه ، وأصحابها شهداء ، أحياء عند ربهم يُرزقون ، ولا يأبى ذلك أن
يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة ، مع العدو وكلا الحكمين
حكم الله. وأمّا الوجه الرابع : فقد أجاب عنه
الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها
فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق ( عليه السَّلام ) إحدى يديه على الاُخرى ثم قال :
« هذا جزاء من ترك العُقْدة (2) أما
والله لو انّي حين أمرتكم به ، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فان استقمتم هديتكم ، وإن
اعوججتم قوّمتكم ، وإن ابيتم تداركتم ، لكانت الوثقى ، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟
اُريد أن
1 ـ الحجرات : 9. 2 ـ العقدة : الرأي الوثيق.
(82)
اُدواي بكم وأنتم دائي » (1) .
أقول : إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح
فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي ، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف
الحكمين ، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً ، كان الحق هو مواصلة الحرب ، ولذاك
كان يصرّ على المواصلة ، وعند ما عُصِيَ ، وخُولِفَ ، لم يكن بدّ من التنازل إلى
الحكم ألآخر ، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال
يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف
الظروف.
1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة
121.
لمّا تمّت الإتفاقية ، وشهد عليها شهود ، وقُرِأت
على الناس ، انسحب معاوية إلى جانب الشام ، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه
وأصحابه ورافقه المعترضون على التحكيم الذين عرفوا بالمحكِّمة ، فدخل الإمام
الكوفة دار هجرته وامتنعت المحكِّمة عن الدخول ، وذهبوا إلى قرية « حروراء » كما
ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة اعتراضاً على عليّ وحكْمهِ. وقد أعربوا بعملهم
هذا أنّهم متخلِّفون عنه ، وعن أوامره ، وخارجون عن طاعته ، ولقد كان لهم ألوان
متفاوتة في مخالفتهم ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لما آل له التحكيم
ونذكر أبرزها : 1 ـ التظاهر ضد علي ( عليه السَّلام ) بقولهم « لا حكم إلاّ لله » في المسجد وخارجه خصوصاً عند قيام الإمام بالقاء الخطب. 2 ـ تكفير
عليّ ( عليه السَّلام ) وأصحابه الذين وفوا
بالميثاق. 3 ـ تأمين أهل الكتاب وارهاب المسلمين وقتل الأبرياء.
وأمّا ما قام به الإمام في مقابل هذه المواقف
فكلّها ينبع عن عطفه وحنانِه على الأعداء وصبره الجميل تجاه المآسي ، وإليك
بيانه :
(86)
1 ـ قام عليّ ( عليه السَّلام ) بتبيين موقفه من كتاب الصلح وانّه ما أمضاه
إلاّ باصرار منهم وإرهاب ضدّه. 2 ـ التعامل معهم كسائر
المسلمين في الجوائز والعطايا. 3 ـ
بعث شخصيات كبيرة لهدايتم ، وارجاعهم عن غيّهم. 4 ـ محاولة أخذ الثأر من
قتلة عبدالله بن خباب بن الارت وزوجته عندما قتلا بايدي سفلة الخوارج وإليك
بيان الجميع :
الف ـ التظاهر ضدّ عليّ ( عليه السَّلام ) : روى الطبري : « لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من
صفيّن ، رجعوا متباينين له ، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به ، فدخل عليّ في
الناس الكوفة ونزلوا بحروراء وبعث إليهم عبدالله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ،
فخرج إليهم عليّ فكلّمهم (1) حتى وقع الرضى بينه و بينهم ، فدخلوا
الكوفة ، فأتاه رجل فقال ، إنّ
النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك ، فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم
فعابه ، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون : لا حكم إلاّ لله ، و استقبله رجل منهم
واضعاً إصبعه في اذنيه ، فقال : « وَلَقَدْ أوحى إلَيْكَ وإلى الَذينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيُحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ
الخاسِرين ». فقال عليّ : « فاصْبِر إنَّ وَعَدالله حقُّ ولا يَستَخفنّك الذين لا
يوُقِنون » (2) .
وببالي ورد في بعض المصادر : انّ الرجل صاح بالآية
و الإمام في اثناء الصلاة ، فأجابه الإمام بتلاوة الآية التي عرفتها.
1 ـ سيوافيك ما تكلم به معهم في
خاتمة المطاف. 2 ـ الطبري : التاريخ 4/54.
(87)
ب ـ تكفير عليّ و أصحابه : أكبر كلمة كانت تصدر من أفواه الخوارج هو تكفير
عليّ لأجل قبول التحكيم وكأنّه خطيئة وارتكاب الخطيئة عندهم كفر ، كما هو أحد
اُصولهم التي نبحث عنها عند عرض عقائدهم ، ويكفي في ذلك ما نقله الطبري في
مذاكرة علي مع حرقوص بن زهير السعدي ، وزرعة بن برج الطائي ومرّ النصّ في أوّل
الفصل السابق.
وإلى هذا يشير الإمام في بعض كلامه حيث قال
لهم : « أصابكم حاصِب (1) ولابقى منكم
آبِر (2) ، أبعد إيماني بالله ، وجهادي مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أشْهَدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت اِذاً وما
أنا من المهتدين ، فاوبوا شرّمآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما انّكم ستلقون
بعدي ذلاّ شاملا و سيفاً قاطعاً وإثرة (3) يتخذها الظالمون فيكم
سنّة » (4) .
ج ـ قتل الأبرياء : و المدهش من أخبارهم انّهم كانوا يقتلون المسلمين
ويجيرون المشركين و أهل الكتاب.
روى المبّرد في كامله : إنّ القوم مضوا إلى
النهروان ، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فأصابوا في طريقهم مسلماً و
نصرانياً ، فقتلوا المسلم ، لأنّه عندهم كافر ، إذكان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا
بالنصراني وقالوا :
1 ـ الحاصب : الريح الشديدة التي
تثير الحصباء. 2 ـ الآبر : الذي يأبّر النخل أي
يصلحه. 3 ـ الاثرة : الاستبداد عليهم بالفئ
و الغنائم ، قال : النبي للأنصار : « ستلقون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني ». 4 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة
58.
(88)
احفظوا ذمّة نبيّكم.
قال المبّرد : وحدثت أنّ واصلَ بن عطاء أقبل في
رفقة فاحسُّوا بالخوارج ، فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا
ودعوني وإيّاهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا : شأنّك ، فخرج إليهم ،
فقالوا : ما أنت و أصحابك فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ،
ويفهموا حدوده. قالوا : قد أجرناكم ، قال : فعلِّمُونا ، فجعلوا يعلِّمُونَهم
أحكامَهم ، ويقول واصل : قد قبلت أنا ومن معي. قالوا : فامضوا مصاحبين فقد صرتم
اخواننا. فقال : بل تبلغوننا مأمننا. لأنّ الله تعالى يقول : « و إنْ إحدٌ مِنَ
المُشْرِكُينَ استَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسمَعَ كلامَ الله ثُمَّ اَبْلِغْه
مأْمَنَهُ » (1) فنظر بعضم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فصاروا معهم بجمعهم حتّى ابلغوهم
المأمن (2) .
ومع ذلك قتلوا عبدالله بن خباب بن الارت ـ كما
سوافيك بيانه في الفصل القادم ـ وبقروا بطن زوجته المتم.
وأمّا السياسة الحكيمة التي مارسها الإمام ازاء
أعمالهم قبل تحركاتهم العسكرية فقد وقفت على رؤوسها ، وإليك الإيعاز إليها
ثانياً ليقع مقدمة للشرح والتبيين.
1 ـ تبيين موقفه في مسألة التحكيم ، وانّه لم يكن
راضياً به وفرض عليه بارهاب.
2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين.
1 ـ التوبة : 6. 2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 مكتبة
المعارف بيروت ، و ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/281 ، و المبرد متهم ـ عند
ابن أبي الحديد ـ بالميل إليهم ، و لكنا سبرناكامله ، فلم نر شيئاً يدلّ عليه ،
غير انّه سرد تاريخهم و في بعض الموارد طعن بهم.
(89)
3 ـ بعث الشخصيات لارجاعهم عن غيّهم.
و إليك بيان كل ذلك.
1 ـ الإمام يبيّن موفقه من التحكيم : قام الإمام بتبيين موقفه في مسألة التحكيم وانّه
لم يكن ضلالا في نفسه ولا كان الإمام مخادعاً ، فقال في بعض كلماته :
« فلم آت لا أباً لكم بُجْراً ، ولا خَتَلْتُكم عن
أمركم ، ولا لبَّستُه عليكم ، و إِنّما اجتمع رأي مَلَئِكُم على اختيار
رجلين ... » (1) .
هذا نموذج من كلماته حول التحكيم حيث بيّن فيها
موقفه في هذه المسألة و انّه كان طبق الكتاب و السنّة فلنكتف بذلك و لنرجع الى
ما بقى من السياسة الحكيمة التي مارسها معهم.
2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين : تعامل الإمام مع الخوارج كسائر المسلمين ولم ينقص
من حقوقهم شيئاً مادام لم يشنّوا الحرب عليه ، روى الطبري عن كثير الحضرمي قال :
قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم ، فقال رجل من جانب المسجد : لا حكم إلاّ لله ،
و قام آخر فقال مثل ذلك ، ثم توالى عدّة رجال يحكمون ، فقال عليّ : الله أكبر كلمة
حقّ يراد بها باطل أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله
أن تذكروا فيها اسمه ، و لانمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ، ولانقاتلكم
حتّى تبدؤنا ، ثمّ رجع إلى مكانه الذي كان من خطبته (2)
1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة
127. 2 ـ الطبري : التاريخ 4/53.
(90)
3 ـ بعث الشخصيات لإرجاعهم عن غيّهم : قام الإمام بإرسال أكابر أصحابه رجاء هداية
بعضهم ، فبعث عبدالله بن عبّاس الى معسكرهم فجرى بينه و بينهم مفاوضات ذكرها
المؤرّخون ، قال المبرّد : إنّ أميرالمؤمنين لمّا وجّه إليهم عبدالله بن عبّاس
ليناظرهم قال لهم : ما الذي نقمتم على أميرالمؤمنين ، قالوا له : قد كان للمؤمنين
أمير ، فلمّا حكم في دين الله خرج من الإيمان ، فليتب بعد اقراره بالكفر نَعُدْ
إليه ، قال ابن عباس : ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك ان يقر على نفسه بالكفر ،
قالوا : إنّه حكّم ، قال : إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدَل مِنْكُمْ ) (1) فكيف في
إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا إنّه حكم عليه فلم يرض ، فقال : إنّ الحكومة كالإمامة ،
متى فسق الإمام وجبت معصيته ، و كذلك الحكمان لمّا خالفا نبذت أقاويلهما ، فقال
بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم
( بَلْ هُمْ قَومٌ
خَصِمُونَ ) (2) وقال جلّ
ثناءه : ( وَلتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدّاً ) (3) .
إنّ حوار ابن عباس معهم كان حجّة دامغة فقد احتجّ
عليهم بالقرآن فما أجابوه بشيء.
والعجب انّهم كانوا يرون التحكيم على خلاف الكتاب
و السنّة وانّ الرضا به بمنزلة الكفر ، و مع ذلك كانوا يصرّون على انّه يجب على
الإمام أن يخضع لنتيجة التحكيم ، فإنّ الحكمين لمّا عزلاه عن مقام الحكومة يجب
عليه التنازل. فما هذا التناقض بين المبدأ والنتيجة ، والتحكيم عندهم كفر وزندقة ولكن
1 ـ المائدة : 95. 2 ـ الزخرف : 58. 3 ـ مريم : 97.