بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 81 ـ 90
(81)
وَأَقْسِطُواْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1)
    الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح ، والنضال والموادعة حكم من أحكام القرآن ، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم ، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد وقاتلهم في الأحزاب ، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها ، ومع ذلك فقد صالح قريشاً في الحديبية ، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز إليه في كلام علي ( عليه السَّلام ) حتّى انّ قريشاً أبوا أن يكتب « رسول الله » إلى جانب اسمه ، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة ، فكان في ذلك اقتداء بالنبي ، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله فلا تنقلب عمّا عليه ، وأصحابها شهداء ، أحياء عند ربهم يُرزقون ، ولا يأبى ذلك أن يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة ، مع العدو وكلا الحكمين حكم الله.
    وأمّا الوجه الرابع : فقد أجاب عنه الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق ( عليه السَّلام ) إحدى يديه على الاُخرى ثم قال :
    « هذا جزاء من ترك العُقْدة (2) أما والله لو انّي حين أمرتكم به ، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فان استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن ابيتم تداركتم ، لكانت الوثقى ، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟ اُريد أن
    1 ـ الحجرات : 9.
    2 ـ العقدة : الرأي الوثيق.


(82)
اُدواي بكم وأنتم دائي » (1) .
    أقول : إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي ، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف الحكمين ، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً ، كان الحق هو مواصلة الحرب ، ولذاك كان يصرّ على المواصلة ، وعند ما عُصِيَ ، وخُولِفَ ، لم يكن بدّ من التنازل إلى الحكم ألآخر ، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف الظروف.
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 121.

(83)
الفصل الرابع
تحرّكاتهم السياسيّة بعد مبدأ التحكيم


(84)

(85)
    لمّا تمّت الإتفاقية ، وشهد عليها شهود ، وقُرِأت على الناس ، انسحب معاوية إلى جانب الشام ، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه ورافقه المعترضون على التحكيم الذين عرفوا بالمحكِّمة ، فدخل الإمام الكوفة دار هجرته وامتنعت المحكِّمة عن الدخول ، وذهبوا إلى قرية « حروراء » كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة اعتراضاً على عليّ وحكْمهِ. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلِّفون عنه ، وعن أوامره ، وخارجون عن طاعته ، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لما آل له التحكيم ونذكر أبرزها :
    1 ـ التظاهر ضد علي ( عليه السَّلام ) بقولهم « لا حكم إلاّ لله » في المسجد وخارجه خصوصاً عند قيام الإمام بالقاء الخطب.
    2 ـ تكفير عليّ ( عليه السَّلام ) وأصحابه الذين وفوا بالميثاق.
    3 ـ تأمين أهل الكتاب وارهاب المسلمين وقتل الأبرياء.
    وأمّا ما قام به الإمام في مقابل هذه المواقف فكلّها ينبع عن عطفه وحنانِه على الأعداء وصبره الجميل تجاه المآسي ، وإليك بيانه :


(86)
    1 ـ قام عليّ ( عليه السَّلام ) بتبيين موقفه من كتاب الصلح وانّه ما أمضاه إلاّ باصرار منهم وإرهاب ضدّه.
    2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين في الجوائز والعطايا.
    3 ـ بعث شخصيات كبيرة لهدايتم ، وارجاعهم عن غيّهم.
    4 ـ محاولة أخذ الثأر من قتلة عبدالله بن خباب بن الارت وزوجته عندما قتلا بايدي سفلة الخوارج وإليك بيان الجميع :

الف ـ التظاهر ضدّ عليّ ( عليه السَّلام ) :
    روى الطبري : « لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من صفيّن ، رجعوا متباينين له ، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به ، فدخل عليّ في الناس الكوفة ونزلوا بحروراء وبعث إليهم عبدالله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ، فخرج إليهم عليّ فكلّمهم (1) حتى وقع الرضى بينه و بينهم ، فدخلوا الكوفة ، فأتاه رجل فقال ، إنّ النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك ، فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم فعابه ، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون : لا حكم إلاّ لله ، و استقبله رجل منهم واضعاً إصبعه في اذنيه ، فقال : « وَلَقَدْ أوحى إلَيْكَ وإلى الَذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيُحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرين ». فقال عليّ : « فاصْبِر إنَّ وَعَدالله حقُّ ولا يَستَخفنّك الذين لا يوُقِنون » (2) .
    وببالي ورد في بعض المصادر : انّ الرجل صاح بالآية و الإمام في اثناء الصلاة ، فأجابه الإمام بتلاوة الآية التي عرفتها.
    1 ـ سيوافيك ما تكلم به معهم في خاتمة المطاف.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/54.


(87)
ب ـ تكفير عليّ و أصحابه :
    أكبر كلمة كانت تصدر من أفواه الخوارج هو تكفير عليّ لأجل قبول التحكيم وكأنّه خطيئة وارتكاب الخطيئة عندهم كفر ، كما هو أحد اُصولهم التي نبحث عنها عند عرض عقائدهم ، ويكفي في ذلك ما نقله الطبري في مذاكرة علي مع حرقوص بن زهير السعدي ، وزرعة بن برج الطائي ومرّ النصّ في أوّل الفصل السابق.
    وإلى هذا يشير الإمام في بعض كلامه حيث قال لهم :
    « أصابكم حاصِب (1) ولابقى منكم آبِر (2) ، أبعد إيماني بالله ، وجهادي مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أشْهَدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت اِذاً وما أنا من المهتدين ، فاوبوا شرّمآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا و سيفاً قاطعاً وإثرة (3) يتخذها الظالمون فيكم سنّة » (4) .

ج ـ قتل الأبرياء :
    و المدهش من أخبارهم انّهم كانوا يقتلون المسلمين ويجيرون المشركين و أهل الكتاب.
    روى المبّرد في كامله : إنّ القوم مضوا إلى النهروان ، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فأصابوا في طريقهم مسلماً و نصرانياً ، فقتلوا المسلم ، لأنّه عندهم كافر ، إذكان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا بالنصراني وقالوا :
    1 ـ الحاصب : الريح الشديدة التي تثير الحصباء.
    2 ـ الآبر : الذي يأبّر النخل أي يصلحه.
    3 ـ الاثرة : الاستبداد عليهم بالفئ و الغنائم ، قال : النبي للأنصار : « ستلقون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني ».
    4 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.


(88)
احفظوا ذمّة نبيّكم.
    قال المبّرد : وحدثت أنّ واصلَ بن عطاء أقبل في رفقة فاحسُّوا بالخوارج ، فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا : شأنّك ، فخرج إليهم ، فقالوا : ما أنت و أصحابك فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ، ويفهموا حدوده. قالوا : قد أجرناكم ، قال : فعلِّمُونا ، فجعلوا يعلِّمُونَهم أحكامَهم ، ويقول واصل : قد قبلت أنا ومن معي. قالوا : فامضوا مصاحبين فقد صرتم اخواننا. فقال : بل تبلغوننا مأمننا. لأنّ الله تعالى يقول : « و إنْ إحدٌ مِنَ المُشْرِكُينَ استَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسمَعَ كلامَ الله ثُمَّ اَبْلِغْه مأْمَنَهُ » (1) فنظر بعضم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فصاروا معهم بجمعهم حتّى ابلغوهم المأمن (2) .
    ومع ذلك قتلوا عبدالله بن خباب بن الارت ـ كما سوافيك بيانه في الفصل القادم ـ وبقروا بطن زوجته المتم.
    وأمّا السياسة الحكيمة التي مارسها الإمام ازاء أعمالهم قبل تحركاتهم العسكرية فقد وقفت على رؤوسها ، وإليك الإيعاز إليها ثانياً ليقع مقدمة للشرح والتبيين.
    1 ـ تبيين موقفه في مسألة التحكيم ، وانّه لم يكن راضياً به وفرض عليه بارهاب.
    2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين.
    1 ـ التوبة : 6.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 مكتبة المعارف بيروت ، و ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/281 ، و المبرد متهم ـ عند ابن أبي الحديد ـ بالميل إليهم ، و لكنا سبرناكامله ، فلم نر شيئاً يدلّ عليه ، غير انّه سرد تاريخهم و في بعض الموارد طعن بهم.


(89)
    3 ـ بعث الشخصيات لارجاعهم عن غيّهم.
    و إليك بيان كل ذلك.

1 ـ الإمام يبيّن موفقه من التحكيم :
    قام الإمام بتبيين موقفه في مسألة التحكيم وانّه لم يكن ضلالا في نفسه ولا كان الإمام مخادعاً ، فقال في بعض كلماته :
    « فلم آت لا أباً لكم بُجْراً ، ولا خَتَلْتُكم عن أمركم ، ولا لبَّستُه عليكم ، و إِنّما اجتمع رأي مَلَئِكُم على اختيار رجلين ... » (1) .
    هذا نموذج من كلماته حول التحكيم حيث بيّن فيها موقفه في هذه المسألة و انّه كان طبق الكتاب و السنّة فلنكتف بذلك و لنرجع الى ما بقى من السياسة الحكيمة التي مارسها معهم.

2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين :
    تعامل الإمام مع الخوارج كسائر المسلمين ولم ينقص من حقوقهم شيئاً مادام لم يشنّوا الحرب عليه ، روى الطبري عن كثير الحضرمي قال : قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم ، فقال رجل من جانب المسجد : لا حكم إلاّ لله ، و قام آخر فقال مثل ذلك ، ثم توالى عدّة رجال يحكمون ، فقال عليّ : الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، و لانمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ، ولانقاتلكم حتّى تبدؤنا ، ثمّ رجع إلى مكانه الذي كان من خطبته (2)
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/53.


(90)
3 ـ بعث الشخصيات لإرجاعهم عن غيّهم :
    قام الإمام بإرسال أكابر أصحابه رجاء هداية بعضهم ، فبعث عبدالله بن عبّاس الى معسكرهم فجرى بينه و بينهم مفاوضات ذكرها المؤرّخون ، قال المبرّد : إنّ أميرالمؤمنين لمّا وجّه إليهم عبدالله بن عبّاس ليناظرهم قال لهم : ما الذي نقمتم على أميرالمؤمنين ، قالوا له : قد كان للمؤمنين أمير ، فلمّا حكم في دين الله خرج من الإيمان ، فليتب بعد اقراره بالكفر نَعُدْ إليه ، قال ابن عباس : ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك ان يقر على نفسه بالكفر ، قالوا : إنّه حكّم ، قال : إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدَل مِنْكُمْ ) (1) فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا إنّه حكم عليه فلم يرض ، فقال : إنّ الحكومة كالإمامة ، متى فسق الإمام وجبت معصيته ، و كذلك الحكمان لمّا خالفا نبذت أقاويلهما ، فقال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم ( بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ ) (2) وقال جلّ ثناءه : ( وَلتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) (3) .
    إنّ حوار ابن عباس معهم كان حجّة دامغة فقد احتجّ عليهم بالقرآن فما أجابوه بشيء.
    والعجب انّهم كانوا يرون التحكيم على خلاف الكتاب و السنّة وانّ الرضا به بمنزلة الكفر ، و مع ذلك كانوا يصرّون على انّه يجب على الإمام أن يخضع لنتيجة التحكيم ، فإنّ الحكمين لمّا عزلاه عن مقام الحكومة يجب عليه التنازل. فما هذا التناقض بين المبدأ والنتيجة ، والتحكيم عندهم كفر وزندقة ولكن
    1 ـ المائدة : 95.
    2 ـ الزخرف : 58.
    3 ـ مريم : 97.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس