بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 91 ـ 100
(91)
الأخذ بنتيجته عين التوحيد و التديّن ، كل ذلك يعرب عن وجود العمى في القلوب و الصمم في الأسماع.
    ثمّ انّ الإمام لم يكتف ببعث ابن عمه بل قام بنفسه بهذا الأمر الخطير ، فركب علي ( عليه السَّلام ) إلى حروراء ، فخاطبهم بقوله : ألا تعلمون أنّ هؤلاء القوم لمّا رفعوا المصاحف ، قلت لكم إنّ هذه مكيدة ووهن ، و انّهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لآتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أنّ أحداً كان أكره للتحكيم منّي؟ قالوا : صدقت ، قال : فهل تعلمون أنّكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه ، فاشترطت أنّ حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله ، فمتى خالفاه ، فأنا و أنتم من ذلك براء ، و أنتم تعلمون أنّ حكم الله لايعدوني ، قالوا : الّلهم نعم ، قال : و كان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (قال : و هذا من قبل أن يذبحوا عبدالله بن خباب ، وانّما ذبحوه في الفرقة الثانية بـ « كسكره ») فقالوا له : حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرّون بأنّا كنّا كفرنا ، و لكنّا الآن تائبون فَأَقِرّ بمثل ما أقررنا به ، وتب ننهض معك إلى الشام ، فقال : « أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته » ، فقال سبحانه : ( فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أهْلِهِ وحَكَمَاً مِنْ أهلِهآ ) وفي صيد اصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال ( يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ ).
    فقالوا له : فإنّ عمراً لمّا أبى عليك أن تقول في كتابك : « هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين » محوت اسمك من الخلافة و كتبت « علي بن أبي طالب » فقد خلعت نفسك ، فقال : لي في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب : « هذا كتاب كتبه محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و سهيل بن عمرو » وقال له : لو أقررت بأنّك رسول الله ما خالفتك ، ولكنّي اُقدمّك لفضلك ، فاكتب « محمّد بن عبدالله »


(92)
فقال لي : يا علي ، امح « رسول الله » فقلت : يا رسول الله لا تسخو نفسي على محو اسمك في النبوّة فقال : قفني عليه ، فمحاه بيده ، ثم قال : « اكتب محمّد بن عبدالله » ثم تبسّم إليّ وقال : يا عليّ ، أما أنّك ستسامُ مثلها فتعطي ، فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمّعوا بها فقال لهم علي ( عليه السَّلام ) مانسميّكم؟ ثم قال : أنتم الحرورية ، لاجتماعكم بحروراء (1) .
    وللامام خطبة اُخرى بيّن فيها شبهة الخوارج و أجاب عنها بشكل واضح ، فمن أراد فليرجع إلى « نهج البلاغة » (2)
    هذا بعض ما مارَسَه الإمام تجاه غيّهم و كلّها تكشف عن سعة صدره ، وقوّة صبره ، واخلاصه في الدين ، و لكّن القوم تمادوا في طغيانهم و أعادوا في خواتيم أمرهم ، ما تظاهروا به في بدء غوايتهم ، غير انّهم لم يكتفوا به فأراقوا دماء طاهرة ، فلم يكن بدّ للامام من قطع مادة الفساد ، فما قام بالمواجهة المسلَّحة إلاّ بعدما بذل كل ما في وسعه من النصح و الإرشاد ، و بعد أن بلغ السيل الزبى ، فردّ الحجر من حيث جاء.
    1 ـ المبرّد : الكامل 2/135 ـ 136 ط مكتبة المعارف و له كلام معهم ذكره المبرّد أيضاً في 2/156. نأتي به عند محاكمة الأشعث فانتظر ، ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/274 ـ 275.
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 127.


(93)
الفصل الخامس
موقف الإمام من رأي الحكمين


(94)

(95)
    لقد صالح الامام معاوية و أوكل الأمر الى الحكمين في ثلاثة عشر خلت من شهر صفر عام 37 من الهجرة ، و اتّفقا على أنّ الحكمين يجتمعان بدومة الجندل ليرفعا ما رفع القرآن ، و يُخَفِضّا ما خفّض القرآن ، وقد اجتمعا هناك في شعبان ذلك العام ، و كانت النتيجة أن خلع أبو موسى الإمام عن الخلافة ، و نصب عمروبن العاص معاوية بن أبي سفيان إماماً للمسلمين ، كل ذلك بخداع معروف في التاريخ ، حيث اتّفقا سرّاً على أن يخلعا علياً و معاوية عن الحكم حتى يوليّ المسلمون لأنفسهم والياً ، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما خدع عمروبن العاص أباموسى الأشعري فقال له : تقدَّم وأدل برأيك ، فقال : يا أيّها الناس إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة فلم نرأصلح لأمرها ، و لا ألمّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمروعليه ، و هو أن نخلع علياً ومعاوية و تستقبل هذه الاُمة الأمر فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم ، وانّي قد خلعت علياً و معاوية فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ثم تنحّى و أقبل عمروبن العاص فقام مقامه فحمدالله و أثنى عليه و قال : إنّ هذا قد قال ما سمتعم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و اُثبِتُ صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفان (رضي الله عنه)


(96)
والطالب بدمه و أحقّ الناس بمقامه ، فقال أبو موسى : مالك لا وفّقك الله غدرتَ و فجرت (1) إنّما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، قال عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، و حمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط و حمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط ، و قام الناس فحجزوا بينهم ، وكان شريح بعد ذلك يقول : ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ماأتى ، و التمس أهل الشام أباموسى فركب راحلته و لحق بمكّة ، قال ابن عباس : قبّح الله رأي أبي موسى حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل ، فكان أبوموسى يقول : حذِّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنّي إطمأننت اليه و ظننت أنّه لن يؤثِرَ شيئاً على نصيحة الاُمّة ، ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة ، ورجع ابن عباس و شريح بن هاني الى علي ( عليه السَّلام ) و كان إذا صلّى الغداة يَقْنُتُ فيقول : الّلهمّ إلعن معاوية و عمراً و أباالأعور السلمي و حبيباً و عبدالرحمن بن خالد و الضحاكَ بن قيس و الوليد ، فبلغ ذلك معاوية فكان اذا قنتَ لعن علياً و ابن عباس و الأشتر و حسناً و حسيناً.
    وزعم الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة (2) . لمّا بلغ علياً ماجرى بين الحكمين من الحكم على خلاف كتاب الله و سنّة رسوله و غدر عمروبن العاص و انخداع أبي موسى قام خطيباً ، رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران ، وقال :
    1 ـ هذا من الصحابة العدول عند القوم ، فاقض ما أنت قاض فهذا الصحابي يصف زميله بالفجور و الغدر ، و الجمهور يصفون الجميع بالتقى و العدل.
    2 ـ الطبري : 4/51 ـ 52 ـ و ما نقله عن الواقدي غير صحيح لما عرفت سابقاً : انّه كان اللازم على الحكمين الإدلاء برأيهما قبل انقضاء موسم الحج و قد اتفق الطرفان في صفر عام 37. فكيف يكون الاجتماع عام 38؟.


(97)
    « الحمدلله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح ، و الحدث الجليل ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس معه إله غيره ، و أنّ محمّداً عبده و رسوله ، صلّى الله عليه ».
    أمّا بعد : فإنّ معصية الناصح ، الشفيق العالم ، المجرَّب ، تورث الحسرةَ ، وتَعْقِبْ الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، و نخلت لكم مخزون رأيي ، لوكان يطاعُ لقصير أمر ، فأبيتم عليّ اباء المخالفين الجفاة ، و المنابذين العصاة ، حتّى ارتاب الناصُح بِنُصحه ، و ضنَّ الزنْدُ بقَدْحِه ، فكنت أنا و إياكم كما قال أخو هوازن :
أمرتكم أمري بمنعَرَج اللّوى فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد (1)
    صدق الإمام ، انّ من الخطب الفادح ، و الحدث الجليل ، خلع صدّيق الاُمّة و أوّل من آمن برسالة النبي الأكرم و صدّق به و بات في فراشه ، دفعاً لريب المنون ، وجاهد في سبيل الله بنفسه و نفيسه و شهد المعارك كلها إلاّ تبوك ، (و كان ذلك بأمر النبي) ، الى غير ذلك من فضائل و مناقب و مآثر جمّة اعترف بها الصديق و العدّو و القريب و النائي.
    إنّه من المصائب العظام نصب معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق ، ابن آكلة الأكباد ، للخلافة و الزعامة الإسلامية ، و أنّى هو من الإسلام ، و هو ثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن ، أو ليس هذا من أدهى الدواهي؟ ولإجل ذلك نرى انّ الإمام يصف تلك الحادثة المريرة ، بالخطب الفادح و الحديث الجليل.
    هذا ما يرجع الى نفس الخلع و النصب وأمّا ما كان يرجع الى الحكمين فكان عليهما قبل ادلاء الرأي في حقّ عليّ و معاوية ، دراسة الأسباب التي أدّت
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 35.

(98)
الى إشعال نار الفتنة و اراقة الدماء الطاهرة حيث أسفرت حرب صفين عن مقتل خمسة وأربعين ألف نفر من جيش معاوية ، و شهادة خمسة و عشرين ألف نفر من جيش الإمام علي بن أبي طالب (1) كلّ ذلك لأجل الأخذ بثأر شخص واحد ، أفيصح في ميزان العدل و النصفة أن تزهق هذه النفوس كلّها مقابل ذلك؟ فهل كان الأساس لشنّ الحروب على عليّ ( عليه السَّلام ) هو حكم القرآن الكريم و السنّة النبويّة؟ وهل هما يسوّغان لأخذ ثأر انسان واحد ، ارتكاب تلك الجنايات الهائلة؟ أو أنه كان أخذ الثأر واجهة لما يطمح إليه معاوية من دفع الإمام عن مقامه و ركوبه منصّة الخلافة ، أو إلجاء عليّ إلى ابقاء ابن الطلقاء في المقام الذي كان يُشْغِلُه طيلة خلافة الخليفتين كما طلبه من الإمام قبل الحرب و خلالها؟
    كان على الحكمين دراسة المواضيع التالية حتى يتبين من له الحق عمّن عليه و هي :
    1 ـ دراسة الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة عثمان ، وهل كان هناك مبّرر لقتله أو لا؟
    2 ـ إنّ قيادة الإمام بعد قتل عثمان هل كانت قيادة قانونية و شرعية ، حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و تمت البيعة له في مسجد النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بمرأى و مسمع من الناس من دون أيّ جبر و إكراه؟! و لم تكن هناك بيعة أصلا ، أو كانت البيعة عن إكراه لاعن اختيار؟
    3 ـ اذا خرج الباحث من دراسة الأمر الثاني بأنّ قيادة الإمام كانت قيادة شرعية هل كان هناك مبّرر لمعاوية لرفض بيعة المهاجرين و الأنصار ، و تأخير بيعته الى أن يقوم بأخذ الثأر ، ويدفع الإمام إليه قتلة الخليفة و كأنّه هو الخليفة
    1 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 643.

(99)
ـ معاوية ـ؟ و هل يكون معاوية بعمله و رفضه و خروجه باغياً على الإمام المفترض طاعته و قد جاء حكم الباغي في الذكر الحكيم (1) .
    أو كان على معاوية أن يدخل في جماعة المسلمين و لايشُق عصاهم بالتقاعس عنه ، ثم يرفع الخصومة الى صاحب البيعة فيرى رأيه.
    4 ـ اذا ثبت أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره و انّه يجب أخذ ثاره من قتلته ، فعندئذ يقع الكلام في أنّ أخذ الثار هل هو وظيفة الخليفة أو وظيفة معاوية أو لا هذا ولا ذاك ، و إنّما هو راجع الى ولد عثمان؟
    5 ـ نفترض أنّ أخذ الثار وظيفة الإمام ، فهل كان ـ صلوات الله عليه ـ قادراً على تنفيذ حكم القصاص أو كانت الظروف السائدة لا تسمح بذلك؟
    6 ـ اذا كان طلحة و الزبير في نكث البيعة ، و في اخراج زوجة الرسول من بيتها ـ وقد امرت بالمكث فيه ـ وفي اخراج عامل الإمام من البصرة و قتل حرسه الى غير ذلك من الاُمور التي أدّت الى حرب الجمل ، اذا كانا في هذه الاُمور معذورين ، مجتهدين ، و ان كانا مخطئين ، فهل يصحّ تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد أولا؟
    7 ـ و على فرض لزوم الاقتصاص و رفض اجتهادهم فهل لخليفة العصر ، العفو عن القصاص و ابداله بالديّة كما فعله عثمان في حقّ عبيدالله بن عمر حين قتل هرمزان ، و جفينة بنت أبي لؤلؤ بلا ذنب؟ (2) .
    هذه هي المواضع الهامّة التي كانت دراستها أمراً مفروضاً على الحكمين حتّى يخرجا مرفوعي الرأس محيين ما أحياه القرآن و مميتين ما أمات ، غير أنّ الحكمين ـ ياللأسف ـ لم يَنْبَسا فيها ببنت شفة ومرّا عليها مرور اللئام و لكن
    1 ـ الحجرات : 9.
    2 ـ الطبري : التاريخ 3/305.


(100)
لا محيص للباحث المحقق عن قيمة رأي الحكمين من دراستها ، ولأجل ذلك نبحث عنها بإيجاز ، حتّى يقف القارىء على أنّ رأي الحكمين كما وصف أمير المؤمنين كان خطباً فادحاً و اليك دراستها :
    إنّ دراستها على وجه التحقيق تحوجنا الى تأليف مفرد لايناسب وضع الكتاب ، غير انّا نشير إليها إشارة عابرة ، و نلمع إليها إلماعاً بسيطاً.
    أوّلا : قد تعرّفت على بعض الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة و الفتك به ، و انّ الاستبداد بالرأي ، و تسليط بني أميّة على رقاب الناس ، و تخصيص كميّة هائلة من بيت المال لأصحاب الترف و البذخ من أبناء بيته ، و تسيير صلحاء الاُمّة من الصحابة و التابعين عن المدينة المنوّرة إلى منافيهم ، و أخيراً تعدّي عمّاله و ولاته في العراق و مصر على الطبقات الوسطى ، و الفقيرة من المجتمع و .... كل هذه أدّت إلى انتشار السخط و الغضب على الخليفة و عُمّاله إلى أن جنى ثمرة عمله فقتل في عقر داره وبين أبنائه و نسائه بمرأى و مسمع من المهاجرين و الأنصار ، و هم بين مجهز عليه ، و مؤلّب وراض و محايد. و القضاء في مثل هذه المسألة من صلاحية لجنة عارفة بالكتاب و السنّة ، واقفة على حياة الخليفة و ما قام به من الأعمال ، و ما نقم عليه من الأفعال حتى تصدر ـ بعد سماع حجج الثائرين ـ عن مصدر قويم و مثل هذه المشكلة لا تحل عقدتها في ساحة الحرب ، بل في جوّ هادئ ، يكون القاضي فيه مستقّلا في الرأي ، و حرّاً في التفكير و التعبير ، و نحن لاندخل في هذه المعركة الخطيرة ، نترك القضاء فيها إلى تلك اللجنة الخبيرة و نعطف عنان البحث إلى الموضوع الثاني.
    ثانياً : إنّ من سبر التاريخ يقف على أنّ بيعة الإمام كانت بيعة شعبية جماهيرية ، ولم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة الإسلامية ، فاذا قلت :
    لم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة فإنّما اقولها عن بيّنة و دليل فإنّ الخليفة
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس