بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 101 ـ 110
(101)
الأوّل قد خرج عن السقيفة ببيعة لفيف من المهاجرين من الأنصار و تخلّف عن بيعته بنو هاشم و الخزرجيون عامة.
    كما انّ عمر بن الخطاب تسنّم منصة الخلافة بإيصاء من الخليفة و لم يكن هناك للناس أيّ رأي ولااختيار.
    و قد كانت خلافة عثمان بانتخاب الشورى التي عَيَّنَ أعضاءها الخليفة الثاني ولم يكن للمهاجرين و الأنصار أيّ نظر في تعيين تلك الشورى.
    فإذا كان كلّ ذلك معطياً للخلافة ، الصبغة القانونية ، فبيعة المهاجرين و الأنصار عليّاً هاتفين بأنّهم لايختارون غيره و فيهم الرعيل الأول من صحابة الرسول و التابعين لهم بإحسان ، أولى بأن تكون شرعية و قانونية. و اتّفق الباحثون عن كيفية انعقاد الامامة لرجل ، على انّ بيعة أهل الحل و العقد من أهل المدينة حجّة على عامّة المسلمين.
    يروي الطبري عن محمّد بن الحنيفة قال : كنت مع أبي حين قتل عثمان (رضي الله عنه) فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولانجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولاأقدمَ سابقة ولاأقرب من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فقال : لا تفعلوا ، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك ، قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّة ، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين ، قال : سالم بن أبي الجعد : فقال عبدالله بن عبّاس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، فأبى هو الاّ المسجد ، فلمّا دخل ، دخل عليه المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس (1) .
    وقد حفظ التاريخ أسماء المتخلّفين عن بيعة علي وهم نفر يسير لا يتجاوز
    1 ـ الطبري : التاريخ 3/450.

(102)
العشرة و هذا يدل على أنّ جوّ البيعة كان هادئاً حراً ، ولم يكن هناك أيّ ضغط و إجبار ، فبايعت الجماهير ، و تخلّفت عدة قليلة كانت عثمانية الهوى كحسان بن ثابت ، و كعب بن مالك ، و مسلمة بن مخلد ، وزيد بن ثابت ، و النعمان بن البشير ، و محمّد بن مسلمة ، و رافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، و كعب بن عجرة.
    يقول الطبري : أمّا حسّان فقد كان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله مرتين ، فقال أبو أيّوب : ما تنصره إلا انّه أكثر لك من العضدات ، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة المدينة و ترك ماأخذ منهم له (1)
    ولاأظن انّه يوجد على أديم الأرض انتخاب جماهيري لقائد ، لايوجد فيه مخالف شاذ يأبى عن البيعة لدوافع شخصيّة.
    وقد تعرفت فيما سبق على كلمات الإمام و نزيد في المقام قوله مخاطباً طلحتة و الزبير : والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها و حمّلتموني عليها (2) .
    ثالثاً : إذا خرجنا بهذه النتيجة : إنَّ بيعة الإمام كانت بيعة شرعية قانونية أطبق عليها المهاجرون و الأنصار ، فلأيّ مبّرر يرفض معاوية عليّ و يؤخّر البيعة و يرفع قميص عثمان مطالباً بالثار؟ ولأجل ذلك نرى الإمام يُنَدِّده و يبيّن موقفه من بيعته ويكتب اليه قائلا : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولاللغائب أن يرد ، انّما الشورى للمهاجرين و الأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه ،
    1 ـ الطبري : التاريخ 3/452.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 200.


(103)
فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولّى (1) .
    رابعاً : لو خرج الباحث بهذه النتيجة و هو أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره ، وأنّه يجب أخذ ثأره من قَتَلِته ، فلاشك انّ ذلك حقّ ولىّ الدم ، قال سبحانه : ( وَ منْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلطَاناً فَلا يُسْرِف فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (2) فهل كان معاوية وليّ الدم ، أو أنّ وليّ الدم أولاد المقتول و إن نزلوا. إِنَّ معاوية حسب المقاييس الشرعية لم يكن وليّ الدم و إنّما أولياؤه ولده فلهم حق القصاص ، ولكن لا ينالون حقّهم إلاّ برفع الأمر الى المحكمة الصالحة لتنظر في أمرهم. ولو عجزت المحكمة ، فلهم الاستنجاد بغيرهم ، لا في بدء الأمر ، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يُندّد بقيامه بأخذ الثأر ولايراه صالحاً لهذا الأمر ويكتب الى معاوية : « زعمت أنّك انّما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان » : ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوْرَدْتُ كما أوردوا ، وأصدرتُ كما أصدروا ، و ما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى و بَعْد فما أنت و عثمان ، إنّما أنت رجل من بني أميّة ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنّك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إليّ (3) .
    وفي لفظ ابن قتيبة : أمّا قولك ادفع إليَّ قتلة عثمان ، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان ، و هم أولى بذلك منك ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع الى البيعة التي لزمتك و حاكم القوم إليَّ (4) .
    خامساً : إذا خرجنا بهذه النتيجة ، أنّ أخذ الثأر و إن كان حقّاً ثابتاً لأولياء
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الكتب برقم 6 وفي ذيل الكتاب إشارة الى قوله سبحانه ( و من يشاقق الرسول ... ) النساء : 115.
    2 ـ الاسراء : 33.
    3 ـ المبرّد : الكامل 1/194 مكتبة المعارف بيروت.
    4 ـ ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/88.


(104)
الدم ، لكنّهم لايقومون بأخذ حقّهم مباشرة ، بل اللازم عليهم رفع الشكوى الى المحاكم الصالحة التي أقامها وليّ المسلمين أعني الخليفة المفترض طاعته ، وإلا فلو قام وليّ الدم بالقصاص و أخذ الحق مباشرة ، لزم الفوضى في المجتمع ، كما هو واضح لكلّ من له إلمام بالمسائل الاجتماعية ، فإذا كان هذا حقّاً ثابتاً للإمام ، فهل كان الإمام قادراً على تنفيذ حكم القصاص في حق اولئك الثائرين ، أو كانت الظروف لاتساعد إجراء الحكم ، ولا تعلم حقيقة الحال إلاّ بدراسة الموضوع تاريخياً ، فإنّه يشهد على أنّ الثائرين لم يكونوا أشخاصاً معيّنين ، بل كانت هناك انتفاضة شعبية مختلطة من الكوفيين والبصريين والمصريين ، والمدنيين ، وقد حاصروا بيت الخليفة قرابة أربعين يوماً ، ولم يكن في وسع أصحاب النبي رفع هذا الحصار أو تقويضه إلى أن حدثت حوادث مريرة أدّت إلى الهجوم العنيف على داره ، وقد بلغ المهاجمون من الكثرة مالايحصيه أحد ، ويعلم صحّة ذلك من الأمر التالي :
    إنّ أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اُناس من قرّاء أهل الشام قبل مسير أمير المؤمنين إلى صفين فقالوا له : يا معاوية علامَ تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته؟ قال معاوية لهم : مااُقاتل علياً وأنا أدعّي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته ولكن خبّروني عنكم : ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا : بلى. قال : فلْيَدَعْ إلينا قتلته ، فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا و بينه. قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأتيه به بعضنا ، فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني فقدم به على عليّ ثم قام أبومسلم خطيباً فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد فإنّك قد قمت بأمر وتولّيته ، والله ما أحبُ أنّه لغيرك ، أن أعطيت الحق من نفسك ، إنّ عثمان قتل مسلماً ، محرماً ، مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته ، و أنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من


(105)
الناس كانت أيدينا لك ناصراً ، وألسنتنا لك شاهداً ، و كنت ذا عذر وحجة.
    فقال له علي : اغدُ عَليّ غداً ، فخذ جواب كتابك ، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعةُ أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد و أخذوا ينادون : كلنّا قتل ابن عفان ، وأكثروا من النداء بذلك ، واُذن لأبي مسلم فدخل على عليّ أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية ، فقال له أبومسلم : قد رأيت قوماً مالك معهم أمر. قال : وما ذاك؟ قال : بلغ القوم انّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجّوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان ، فقال علي : والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه ، مارأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولاإلى غيرك. (1)
    نحن نفترض انّ بعض من لبس السلاح في هذه الواقعة لم يكونوا من المهاجمين ، أوالمؤلّبين ، أوالمجهزين ، لكن تواجد هذه الكميّة الهائلة من المتبنّين لهذه الفكرة في الكوفة ، فضلا عن أبناء جلدتهم في البصرة و المدينة ، المؤيّدين المتفرقين في بلادهم ، يدلّ على أنّ المسألة صارت أزمة اجتماعيةً معقّدةً ، ولم يكن الإمام متمكّناً من دفع من قام بالقتل إلى وليّ الدم.
    ويعرب عن ذلك كلام الإمام للناكثين ، فقد دخل طلحة و الزبير في عدة من الصحابة ، فقال : يا عليّ إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود ، و إنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم ، فقال لهم : يا اخوتاه ، إنّي لست أجهل ما تعلمون ، ولكّني كيف أصنع بقوم يملكونا ، ولا نملكهم ، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم ، يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟ قالوا : لا. قال : فلا ،
    1 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 95 ـ 97.

(106)
والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله (1) .
    فعلى هذا فلم تكن للامام يوم بويع ولابعده ولا بعد شهور ، أيّة مقدرة على القاء القبض على القاتلين ، وإلاّ لثارت تلك الجماهير على عليّ وخلافته الفتَّية ، وكانت المصيبة أعظم.
    سادساً : لاشكّ انّ طلحة و الزبير نكثا البيعة و أخرجا زوجة رسول الله من بيتها ، وقد دخلوا البصرة بعنف وقتلوا حرس القصر ، إلى غير ذلك من الاُمور التي لايشكّ فيها أيّ ملمّ بالتاريخ ، ولكن القوم يذكرون الرجلين بخير و صلاح و يسترحمون عليهما و يرونهما من العشرة المبشّرة بالجنّة ولا يرون أعمالهم الإجرامية مخالفة لطهارتهما ، ويبّررون أعمالهم بالاجتهاد كما يبرّرون به عمل معاوية و غيرهم من المجرمين الطغاة حتى عمل مسلم بن عقبة ذلك الطاغي الذي أباح أعراض نساء المدينة لجيشه ثلاثة أيّام.
    فلو صحّ ذلك التبرير فلماذا لايصحّ في حقّ هؤلاء الذين هاجموا بيت الخليفة و أجهزوا عليه؟ فكانوا مجتهدين في الرأي ، مخطئين في النتيجة ، فلهم اُجر واحد ، كما أنّ للمصيب أجرين؟. ولكن لانرى أيّة كلمة حول هؤلاء يبرّر بها عملهم ، فما هذا التفريق بين المتماثلين؟ ولماذا تُقيَّمُ الاُمور بمكيالين.
    سابعاً : نقل المؤرّخون انّه لمّا قتل عمر ، وثب عبيدالله بن عمر فقتل الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤ ، فلمّا بلغ الخبر عمر ، قال : إذا أنا متّ فاسألوا عبيدالله البيّنة على الهرمزان ، هل هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، و إن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيدالله من الهرمزان ، فلمّا ولي عثمان (رضي الله عنه) قيل له : ألا تمضي وصيّة عمر (رضي الله عنه) في عبيدالله؟ قال : و من وليّ الهرمزان؟ قالوا :
    1 ـ الطبري : التاريخ 3/458

(107)
أنت يا أميرالمؤمنين قال : قد عفوت عن عبيدالله بن عمر (1) .
    إنّي لا اُريد أن أحوم حول هذه القصّة ، كيف وقد نقم به على الخليفة حيث عطّل القصاص إذ قتل عبيدالله رجلا يصلّي وصبية صغيرة ، ومع ذلك عفى عنه الخليفة لسبب عاطفي أو غيره ، فَلِمَ لا يجوز ذلك للامام علي ( عليه السَّلام ) وقد رأى انّ في القَوَد مفسدةً عظمى على الاسلام و المسلمين؟ وانّ جبر دم الخليفة بالدية أصلح من القصاص و القود.
    هذه هي المواضيع الهامّة التي كانت من المفترض دراستها و القضاء فيها ، ثم الخروج بنتيجة صحيحة عن الحكومة ، غير انّ الحَكَمين جعلاها وراء ظهورهما ، ولم ينبسا فيها ببنت شفة ، بل كان هوى أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن عمر ، و كان هوى عمرو بن العاص مع معاوية ، فلنتعرف على عبدالله بن عمر ، ثم عمروبن العاص :
    أمّا عبدالله بن عمر فكفى في ضعف نفسه انّه لمّا ولّي الحجاج الحجاز من قبل عبدالملك بن مروان جاءه ليلا ليبايعه ، فقال له الحجّاج ما أعجلك؟ فقال : سمعت رسول الله يقول : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية (2) فقال له : إنّ يدي مشغولة عنك ، و كان يكتب ، فدونك رجلي ، فمسح على رجله و خرج ، فقال الحجاج : يا أحمق. تترك بيعة علي بن أبي طالب و تأتيني مبايعاً في ليلة؟ و ما هذا إلاّ انّ الخوف من السيف جاءك إلى هنا (3) .
    وأمّا عمرو ، و ما أدراك ما عمرو؟ ذلك الانسان الذي عرّفه الامام بقوله :
    1 ـ البيهقي : السنن الكبرى 8/61 ـ ولاحظ الطبري : التاريخ 3/303.
    2 ـ الهيثمي : مجمع الزوائد 5/218. الطيالسي : المسند 259 وللحديث صور اُخرى.
    3 ـ أبو جعفر الاسكافي : المعيار و الموازنة 24. و ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 13/242 ـ عبدالله المامقاني : تنقيح المقال برقم 6989.


(108)
متى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً (1) ، فكان هواه مع معاوية لموعدة وعدها إيّهاه وهي ولاية مصر و قد تحدّث عنها المؤرّخون في قصّة طويلة حيث قال معاوية له : وهلّم فبايعني ، فقال عمرو : لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك. قال معاوية : سل ، تعط ، قال : مصر طعمة (2) .
    وروى ابن مزاحم قال : قال معاوية لعمرو : إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم.
    قال عمرو : إلى من؟ قال : إلى جهاد عليّ ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير ، مالك هجرته ولاسابقته ، ولاطول جهاده ، ولا فقهه ، ولا علمه ، والله إنّ له ذلك حدّاً وجدّاً و حظّاً و حُظوةً ، وبلاءاً من الله حسناً ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر؟ قال : حكمك. قال : مصر طعمة ، قال : فتلكّأ عليه معاوية.
    قال نصر : وفي حديث آخر ، قال : قال له معاوية : يا أباعبدالله ، إنّي أكره أن يتحدّث العرب عنك انّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك. قال معاوية : إنّي لو شئت أن اُمنّيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو : لا لعَمرالله ، ما مثلي يخْدَع ، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : اُدن منِّي برأسك اُسارّك. قال : فدنامنه عمرو يسارُّه. فعضَّ معاوية اُذنه و قال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟ (3) .
    قال ابن أبي الحديد بعد هذا : « قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي (رحمهم الله) : قال عمرو : « دعنا عنك » كناية عن الإلحاد بل تصريح
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 583.
    2 ـ ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/91 ـ مضى النص فلاحظ تعليقتنا عليه.
    3 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 43.


(109)
به ، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإنّ الاعتقاد بالآخرة وأنّها لاتباع بعرض من الدنيا ، من الخرافات. قال (رحمهم الله) : و ما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قط في الإلحاد و الزندقة ، و كان معاوية مثله و يكفي في تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي (1) وانّ معاوية عضَّ اُذن عمرو ، أين هذا من أخلاق علي ( عليه السَّلام ) و شدّته في ذات الله ، و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة (2) .
    خلاصة البحث :
    ما كانت دراسة جميع هذه المواضيع أمراً صعباً على الحكمين ، بل في دراسة الموضوع الأوّل من المواضيع السبعة كفاية للإدلاء بالحق ، وذلك إنّه إذا كانت خلافة الإمام خلافة قانونية شرعية ، فالخارج عليها باغ على الإمام يجري عليه حكم البغاة أوّلا و تابع لغير سبيل المؤمنين ، وخارق للإجماع ثانياً ، وقد قال سبحانه في حقّ هؤلاء : ( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَ يَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا ) (3) ( و ان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احديهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفىء الى امر الله ) (4)
    ولا عجب بعد ذلك أنا نرى أنّ الإمام يصف حكم الحكمين بقوله : « فقد خالفا كتاب الله و اتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنّة ولم ينفّذا للقرآن حكماً ». (5)
    1 ـ المراد ما سبق في كلام ابن مزاحم.
    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/64 ـ 65.
    3 ـ النساء : 115
    4 ـ الحجرات : 9.
    5 ـ الطبري : التاريخ 4/57.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس