بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 121 ـ 130
(121)
المرامية أمام الصفّ الأوّل ، وقال لأصحابه : كفّوا عنهم حتى يبدأوكم (1) .
    قال المبرّد : لمّا وافقهم عليّ ( عليه السَّلام ) بالنهروان ، قال : لاتبدوهم بقتال حتى يبدأوكم. فحمل منهم رجل على صف عليّ ( عليه السَّلام ) فقتل منهم ثلاثة ، فخرج إليه عليّ ( عليه السَّلام ) فضربه فقتله ... ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري ، وكان على ميمنة عليّ ، فقال عليّ ( عليه السَّلام ) لأصحابه : احملوا عليهم ، فوالله لايقتل منكم عشرة ، ولايسلم منهم عشرة. فحمل عليهم فطحنهم طحناً قتل من أصحابه ( عليه السَّلام ) تسعة ، وأفلت من الخوارج ثمانية (2) .
    قال ابن الأثير : لمّا قال عليّ لأصحابه « كفّوا عنهم حتى يبدأوكم » نادت الخوارج : الرواح إلى الجنة ، وحملوا على الناس ، وافترقت خيل (3) علي فرقتين ، فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل ، وعطفت عليهم الخيل. من الميمنة و الميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فمالبثوا أن أناموهم. (4)
    ثمّ إنّ علياً يحدّث أصحابه قبل ظهور الخوارج انّ قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، علامتهم رجل مُخدج اليد ، سمعوا ذلك منه مراراً ، فلمّا فرغ من قتالهم ، أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج ، فوجدوه في حفرة على شاطئ النهر في خمسين قتيلا ، فلمّا استخرجوه نظروا إلى عضده
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/64.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/139 ـ 140. الطبري : التاريخ 4/63 ـ 64 والمسعودي : مروج الذهب 3/157 وقال : وكان من جملة من قتل من أصحاب عليّ ، سبعة ، ولم يفلت من الخوارج إلا عشرة وأتى على القوم وهم أربعة آلاف ، ولعل لفظة « إلاّ » زائدة.
    3 ـ هكذا في الأصل وقد سقط لفظ « علىّ ».
    4 ـ كلّ مشوه الخلق في أحد أعضائه فهو مخدج.


(122)
فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة ، وحلمة عليها شعرات سود ... فلمّا رآه قال : الله أكبر لاكَذِبْتُ ولاكذّبت.
    وقال حينما مرّ بهم وهم صرعى : بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم ، قالوا : يا أميرالمؤمنين : من غرّهم ، قال : الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، غرّتهم بالأماني ، وزينت لهم المعاصي ، نبّأتهم أنّهم ظاهرون (1) قال علي : خذوا ما في عسكرهم من شيء ، قال : فأمّا السلاح والدواب و ما شهدوا به عليه الحرب فقسمة بين المسلمين ، وأمّا المتاع والعبيد والاماء فإنّه حين قدم ، ردّه على أهله ، ونقل الطبري أيضاً : انّ علياً أمر بطلب من به رمق منهم ، فكانوا أربعمائة ، فأمر بهم عليّ ، ودفعوا إلى عشائرهم ، وقال : احملوهم معكم فداووهم ، فاذا برأوا ، فوافوا بهم الكوفة (2) .

فَقْاُ عينِ الفتنة :
    كانت الخوارج من أهل القبلة وأهل الصلاة والعبادة ، و كان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم ، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً ، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك قام بعد قتالهم ، فقال : أمّا بعد حمدا لله والثناء عليه ، أيّها الناس فإنّي فَقَأتُ عين الفتنة ، ولم يكن ليجترىءَ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلَبُهُا (3) . (4)
    قال ابن أبي الحديد : إنّ الناس كلّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة ،
    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/158. ابن الأثير : الكامل 3/175 ـ 176.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/66.
    3 ـ الغيهب : الظليمة والمراد بعد ما عمّ ظلالها فشمل فكّنى عن الشمول بالتموّج ، لأن الظلمة إذا تموّجت شملت أماكن كثيرة ، كما أنّ المراد من قوله واشتّد كلبها ، أي شرّها وأذاها.
    4 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 93.


(123)
ولايعلمون كيف يقاتلونهم ، هل يتبعون مولِّيهم أم لا؟ وهل يجهّزون على جريحهم أم لا؟ وهل يقسمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا ، ويصلّي كصلاتنا ، واستعظموا أيضاً حرب عائشة وحرب طلحة و الزبير لمكانتهم في الاسلام ، وتوقّف جماعة منهم عن الدخول في تلك الحرب ، كالأحنف بن قيس وغيره ، فلو لا أنّ عليّاً اجترأ على سلّ السيف فيها ما أقدم أحد عليها (1) .

تنّبؤ للإمام بعد استئصال الخوارج :
    لمّا قتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت ، قال بعض أصحاب الإمام : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم ، فقال :
    « كلاّ والله انّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء ، كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين » (2) .
    ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين ، فإن دعوة الخوارج اضمحلّت ، ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض ، وإليك نماذج :
    خرج في أيام المتوكّل ، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة ، فقطع الطريق وأخاف السبيل ، فحاربه أبو سعيد الصامتي فقتل كثيراً من أصحابه ، وأسر كثيراًمنهم ، فمدحه أبو عبادة البحتري وقال :
كنّا نكفر عن اُمية عصبةً طلبوا الخلافة فجرةً وفسوقاً

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 7/46.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 59.


(124)
ونلوم طلحة والزبير كليهما ونقول تيم أقربت وعديّها وهم قريش الأبطحون إذا انتموا حتّى غدت جشم بن بكر تبتغي جاءوا براعيهم ليتّخذوا به ونعنّف الصديق والفاروقا أمراً بعيداً حيث كان صعيقا طابوا اُصولا في العلا وعروقا ارث النبي وتدعيه حقوقا عمداً إلى قطع الطريق طريقا (1)
    ثمّ ذكر أنّه خرج بأعمال كرمان وجماعة اُخرى من أهل عمان لانباهة لهم ، وقد ذكرهم أبوإسحاق الصابي في الكتاب « التاجي » وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وانّما وكدهم ، وقصدهم ، إخافة السبيل والفساد في الأرض ، واكتساب الأموال من غير حلّها.
    ثمّ أتى يذكر المشهورين بنظر الخوارج الذين تمّ بهم صدق قول أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) : « إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء » وأشهرهم :
    1 ـ عكرمة مولى ابن عباس.
    2 ـ مالك بن أنس الأصبحي.
    3 ـ المنذر بن الجارود العبدي.
    4 ـ يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج.
    5 ـ صالح بن عبدالرحمن صاحب ديوان العراق.
    6 ـ جابر بن زيد (2) .
    7 ـ عمرو بن دينار.
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/74 ـ لاحظ بقيّة الأبيات.
    2 ـ كونه منهم موضع تأمّل وإن كانت الاباضية ترى أنّه الأصل لهم في الحديث والفقه ، تولّد بين عامي 18 ـ 22 وتوفّي في العقد الأخير من القرن الأوّل أو أوائل الثاني ، تقرأ ترجمته في فصل خاص.


(125)
    8 ـ مجاهد.
    9 ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي.
    10 ـ اليمان بن رباب.
    11 ـ عبدالله بن يزيد.
    12 ـ محمّد بن حرب.
    13 ـ يحيى بن كامل.
    وهؤلاء الثلاثة الأخيرة كانوا من الأباضية ، كما أنّ اليمان كان من البيهسيّة ، وأبو عبيدة من الصفريّة ، وسيوافيك أسماء مشاهيرهم (1) في فصل خاص.

كلمة أخيرة للإمام في حقّ الخوارج :
    وللإمام عليّ كلمة في حق الخوارج ألقاها بعد القضاء عليهم وقال :
    « لاتقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه » (2) .
    هذه الكلمة تعرب عن أنّ انحراف الخوارج عن الحق لم يكن شيئاً مدبّراً من ذي قبل ، وإنّما سذاجة القوم وقرب قعرهم ، جرّهم إلى تلك الساحة ، وكانوا جاحدين للحق عن جهل ممزوج بالعناد ، فكانوا يطلبون الحق من أوّل الأمر ، لكن أخطأوا في طلبه ودخلوا في حبائل الشيطان والنفس الأمّارة ، وهذا بخلاف معاوية وجيشه ، فإنّهم كانوا يطلبون الباطل ويركبون الغيّ عن تقصير وعلم ، وقد عرفت أنّه لم يكن لمعاوية مرمى من أوّل الأمر سوى إزاحة عليّ عن منصبه وغصب الخلافة ، و انّ دم عثمان وقميصه وكونه قتل مظلوماًفي
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/74 ـ 76.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.


(126)
عقرداره كانت واجهة استخدمها لجلب العواطف ، يطلب بها إغواء رعاع الناس ، ولأجل ذلك لمّا قتل عليّ وصالحه الحسن وأخذ بزمام الأمر ، لم يبحث عن قتلة عثمان.
    قال ابن أبي الحديد في شرحه :
    « مراده أنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم ، و كانوا يطلبون الحق ، ولهم في الجملة تمسّك بالدين ، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها ، وإن اخطأوا فيها ، وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحق ، وإنّما كان ذا باطل لايحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة ، وأحواله كانت تدلّ على ذلك ، فإنّه لم يكن من أرباب الدين ، ولاظهر عنه نسك ، ولاصلاح حال ، وكان مترفاً يذهب مال الفئ فى مآربه ، وتمهيد ملكه ، ويصانع به عن سلطانه ، وكانت أحواله كلّها موذنة بانسلاخه عن العدالة ، وإصراره على الباطل ، و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه ، وتحارب الخوارج عليه ، وإن كانوا أهل ضلال ، لأنّهم أحسن حالا منه ، فإنّهم كانوا ينهون عن المنكر ويرون الخروج على أئمّة الجور واجباً (1) .
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/78.

(127)
الفصل السّابع
انتفاضات الخوارج بعد حرب النهروان
في العهد العلوي


(128)

(129)
    كانت حرب الإمام في النهروان ، حرباً طاحنةً ، قتل رجال العيث والفساد ، واستأصل شافتهم ، وقضى على رؤوسهم ، ولكن لم يكن الخوارج كلّهم متواجدين فيها ، بل كانوا متفرّقين في البصرة ، والنقاط المختلفة من العراق ، فقاموا بانتفاضات ضدّ عليّ وعمّاله ، وكانت الحسرة والخيبة نصيبهم ، وإليك ما وقعت منها في العهد العلوي صلوات الله عليه.

1 ـ خروج الخريت بن راشد الناجي (1) :
    جاء الخريت بن راشد الناجي إلى عليّ فقال له ـ وقد جرّده من إمارة المؤمنين ـ : « يا عليّ ، والله لااُطيع أمرك ولااُصلّي خلفك ، وإنّي غداً مفارق لك ، وذلك بعد تحكيم الحكمين ». فناظره علي وحاول اقناعه ، فلم
    1 ـ ذكر خروج الخريت الناجي ، الطبري في تاريخه 4/86 ـ 100 ، وابن هلال الثقفي في غاراته 21 ، والمسعودي في مروجه 3/159 ، والجزري في تاريخه 3/183 ـ 187 ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/128 ـ 148 ، ولمّا كانت القصة طويلة لاتناسب بحث الملل والنحل نقلناها ملخّصاً وقد لخّصها الدكتور نايف معروف في كتابه : الخوارج في العصر الأموي 100 ـ 101 ، وأتبعنا تلخيصه.

(130)
يرتدع. وسار بجمع من أصحابه فالتقى في طريقه رجلا مسلماً فسأله عمّا يقوله في علي ، فأثنى عليه وقدّمه. فحملت عليه عصابة من أصحاب الخريت فقطّعوه بأسيافهم ، بينما التقوا يهودياً فخلّوا سبيله. أرسل عليّ في أثرهم زياد بن خضعة البكري في عدد قليل من العساكر فأدركهم في أرض المذار ، فدعا زياد صاحبهم الخريت ، فسأله عمّا نقمه من أمير المؤمنين ، فأخبره بأنّه لايرضى بعليّ إماماً ، فطلب إليه تسليمه قتلة الرجل المسلم ، فأبى عليه ذلك. فاقتتلوا قتالا شديداً دون أن يتمكّن أحدهما من الآخر ، حتى جاء الليل فحجز بينهما ، و تحت جنح الظلام تنكّر الخريت وأصحابه واتّجهوا صوب الأهواز ، وكتب زياد إلى عليّ بما جرى بينهما. فانتدب عليّ معقل بن قيس الرياحي في جيش قوامه أربعة آلاف رجل ، وبعث به في طلب الخريت الذي كان قد اجتمع إليه كثير من قطّاع الطرق والخارجين على النظام ممّن كسروا الخراج كما انضمّت إليه طائفة من الأعراب كانت ترى رأيه ، وتمكّنوا من بعض مناطق فارس وأخرجوا عاملها لعلي سهل بن حنيف ، ثم كان اللقاء بين الفريقين قرب جبل من جبال رامهرمز ، فخرج الخريت من المعركة منهزماً حتى لحق بساحل بحر فارس.
    ولكنّ الخريت لم يلق سلاحه ، بل استمرّ بجمع الناس حوله ، فكان يأتي من يرى رأي الخوارج فيسر إليهم : « إنّي أرى رأيكم ، وانّ عليّاً ماكان ينبغي له أن يحكّم الرجال في دين الله » ثم يأتي لمن يرى رأي عثمان وأصحابه ، فيقول لهم : « أنا على رأيكم ، وانّ عثمان قتل مظلوماً معقولا » كما كان يجيء مانعي الصدقة فيقول : « شدّوا على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم ، وعودوا إن شئتم على فقرائكم ، وهكذا كان يعمل على إرضاء كلّ طائفة من الناس بضرب من القول يتّفق وهواهم. وبذلك استطاع أن يستهوي كثيراً من الأقوام من مختلف الميول والاتجاهات. ولمّا علم معقل بموقعه بساحل البحر بفارس ، عبّأ جنده وزحف
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس