قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين اقسم الفي
بيننا والسبي ، قال : فلمّا أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟
فكفّوا (1) .
3 ـ روى الطبري أيضاً : لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل
البصرة ، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة ، فقسّمها على من شهد معه ،
فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال : لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى
اعطياتكم ، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء (2) .
كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم ،
وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.
4 ـ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم
على الشاميين ، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين ،
قابلوه بالاعتراض والسيف.
قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك
الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم ،
فرضوا بذلك ، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ
برايات عنزة ـ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ـ فلمّا مرّ بهم
الأشعث فقرأه عليهم ، قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام
بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم ، واسماهما
معدان وجعد ، اخوان ، ثم مرّ بها على مراد ، فقال صالح بن شقيق وكان من
رؤسائهم :
ما لعليّ في الدماء قد حكم
لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم
1 ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة
11 الباب 25 الحديث 5 و 7 ص 58. 2 ـ الطبري : التاريخ 3/544.
والمراد من السبائيّة : الخوارج ، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.
(142)
لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على
رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا : لاحكم إلاّ لله ، لانرضى ولا نحكّم الرجال
في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لاحكم
إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ، فقال رجل منهم لآخر : أمّا هذا فقد طعن
طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي ، فقال : أتحكّمون
الرجال في أمرالله ، لاحكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب
به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به
الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه (1) .
5 ـ إنّ بعض من صار من الخوارج كانوا متواجدين في
الكوفة أيّام خلافة عثمان ، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص ، فكتب
سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة ، ونرى بين المعترضين ،
حرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي ، وزيد بن حصين
الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي ، وكانوا يعدّون من
أصحابه ، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إنّي لا أملك من الكوفة مع
الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء ـ وهم السفهاء ـ شيئاً فكتب إليه : أن
سيّرهم إلى الشام (2) .
نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم ، من الرجال الصالحين
والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي ،
ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين) ، وعمرو بن
الحمق ، وكميل بن زياد النخعي ، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني ،
1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 587
ـ 588. 2 ـ الغدير : 5 / 31 نقلاً عن
الأنساب للبلاذري : 5/39.
(143)
وغيرهم من الصلحاء ، وذلك يكشف عن وجود نزعة
الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم ، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل
الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة
التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة ، ولا دليل على تلك الملازمة ، فرّب انسان
يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى ، والامعان في حقيقة الاعتراضين ـ
الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين عليـ يكفي في
تصديق ماذكرنا.
نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية
التعبير عن الرأي ، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى
النقد إذا كان لأجل طلب الحق ، مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل
عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء ، لغاية الوصول إلى الحق ، وهذا ما
يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم ، بل نجد ذلك
في عصر المعصوم أيضاً ، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه
وجرت دموعه على خدّيه ، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به
من عدم البكاء على المّيت ، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : لا ، ولكنّي نهيت عن صوتين
احمقين وآخرين : صوت عند مصيبة ، وخمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان ، وصوت عند نعمة
لهو ، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (1) .
نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي ، وحبّ
الاعتراض ، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل ( ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ
كَفَروا فَلا
1 ـ برهان الدين الحلبي : السيرة
الحلبية 3/395.
(144)
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ ) (1) وقال
سبحانه : ( وَ يُجادِلُ
الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ). (2) نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر
والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة ، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى ، وإن اشتركوا
في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.
فالنزعة الاُولى : كانت نابعة عن روح صادقة لاعن
هوى نفسي ، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ
عثمان ، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام ، وتحمّلوا
التسيير والتبعيد عن الوطن ، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم
المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله ، سلّموا إليه مقاليد
امورهم.
والنزعة الثانية : كانت نابعة عن روح مكابرة تريد
فرض ما تحبّ وترى ، سواء أكان حقّاً أم باطلا ، ونذكر هنا نموذجاً
للقسمين :
قال ابن مزاحم : قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة : إنّ
الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي : بلى إنّ
الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ ، وقد رضيتُ ورضيتُم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا
التبديل بعد الإقرار ، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (3) .
وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر
القيادة ، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس ،
أو قاب قوسين او أدنى ، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء
1 ـ غافر : 4. 2 ـ الكهف : 56. 3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 598.
(145)
على حياة الإمام ، تراجع عن ساحة القتال ، ورجع
طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام ( عليه السَّلام ) وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام ، وقال
خُدِعَتم والله فانخدعتم ، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباة
السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا ، وشوقاً إلى لقاء الله ، فلا أرى
فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة ، ما
أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (1) .
هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق ، وأمّا
الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق ، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على
صحّة مبدأ التحكيم بقوله : « إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد » فقال :
( يَحْكُمُ بِهِ ذوا
عَدْل مِنْكُمْ ) فكيف في الامامة ... ،
فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة
عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم : (
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون ) وقال عزّوجلّ :
( و تُنْذِرَ به قَوْماً لدّا ) (2) .
إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه
النكسة ، وإليك بيان العامل الثاني :
الثاني : وجود العملاء في جيش الإمام : كان في جيش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه ،
حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته ،
كأمثال الأشعث بن قيس ، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال :
من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى
1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 563.
2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 طبع
مطبعة المعارف بمصر.
(146)
ومسمع منه ، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد : « كلّ
فساد كان في خلافة عليّ ( عليه السَّلام ) وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث » (1) .
وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية :
1 ـ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان ، وقد
كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس ، ولمّا بويع عليّ ( عليه السَّلام ) كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر
فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال : « وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه
أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ».
فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه : « إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان »
وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ ، وهو معزول عن
الولاية (2) .
قال المسعوديّ : وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن
آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها ، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما
ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال
(3) .
2 ـ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث
فانتزعها عليّ ( عليه السَّلام ) منه وولّى حسان
بن مخدوع عليهما ، ثمّ بعد هن وهنات أشركه في الرئاسة (4) وقد أثار
ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.
3 ـ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال
فترة الحرب ، يقول ابن مزاحم : إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له :
« إنّ ابن عمّك
1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج
البلاغة 2/279. 2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 29. 3 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/117. 4 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 153.
(147)
ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله ، وإن كان
ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة ، فتأذن لنا فيه » فقال له الأشعث : اقرأ صاحبك
السّلام ورحمة الله ، وقل له : إنّي أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه إلى سعيد بن قيس
فإنّه في الميمنة ، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم
والأيام يتراسلون (1) .
4 ـ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي
سفيان ، فقال : الق الأشعث ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة ، فخرج عتبة فنادي الأشعث
بن قيس ، فقال الناس : هذا الرجل يدعوك ، فقال الأشعث : سلوه من هو؟ فقال : أنا عتبة
بن أبي سفيان ، فقال الأشعث : غلام مترف ولابدّ من لقائه ، فخرج إليه ، فأبلغه دعوة
معاوية (2) .
وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم
له في ساحة علي ( عليه السَّلام ) من خلال كسب رضا
الأشعث ، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال
في جواب معاوية : أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.
فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث ، أيقن بأنّ الأشعث
قد جنج للسلم ، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين ، إلى أن اجترأ الأشعث على
ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي :
5 ـ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من
كندة ، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية ، وكانت
امارات النصر لعلي
1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 341. 2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 465.
(148)
ظاهرة ، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في
نهار تلك الليلة ، فقال في خطابه : « قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في
يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء
الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب ، انّا إن
نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات ، أما والله ما أقول هذه
المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.
قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة
الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على
ذرارينا ونسائنا ، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وأنّما يبصر
هذا ذووا الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.
فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل
العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ، الله الله في البقية.
فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها
الخيل ... (1) .
6 ـ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي
( عليه السَّلام ) وفرّقهم إلى فرقتين ، فمنهم من
يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره ، ومنهم من يصرّ على إنهائها ، ومنهم
الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال : يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله
فإنّك أحقّ به منهم ، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (2) .
7 ـ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت ،
وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً ، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه ، ابن عباس ،
1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 549
ـ 550. 2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 551.
(149)
فلم يقبله الأشعث ، وقال : والله ما نبالي أكنتَ
أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما
بأدنى من الآخر ، قال علي : إنّي اجعل الأشتر ، قال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا
غير الأشتر (1) .
8 ـ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت
كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق
يعرضه عليهم ، واستقبله أهل الشام بالرضا ، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى
فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله : لا حكم إلاّ لله (2) .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من
الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية ، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان
في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف
الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى ، وبذلك تقف على صحّة
ماذكره ابن أبي الحديد : من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث.
يقول اليعقوبي : لمّا رفعوا المصاحف وقالوا :
ندعوكم إلى كتاب الله ، فقال علي : إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن ، فاعترض
الأشعث بن قيس الكندي ، ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسهـ
فقال : قد دعوا القوم إلى الحقّ ، فقال علىّ ( عليه السَّلام ) إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم ، فقال
الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك ، ومالت اليمانية مع الأشعث ، فقال
الأشعث : والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم
1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 572. 2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.
(150)
برمّتك. (1) .
ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله : لمّا
استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي ( عليه السَّلام ) إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير
الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة : بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال :
يزيد بن قيس الأرحبّي ، فركب علي إليهم إلى حروراء ، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى
مَضْرب يزيد بن قيس ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم خرج فاتّكأ على قوسه ، وأقبل على
الناس ، فقال : هذا مقام من فلج (2) فيه فلج يوم القيامة ، ثمّ كلّمهم
وناشدهم ، فقالوا : أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم ، وقد تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا
نعدلك ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : أنا استغفر
الله من كلّ ذنب ، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف ، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ
عليّاً ( عليه السَّلام ) رجع عن التحكيم ، ورآه
ظلالا وقالوا : إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجنى
الأموال ، ثمّ ينهض بنا إلى الشام ، فأتى الأشعث عليّاً ( عليه السَّلام ) فقال :
يا أميرالمؤمنين ، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها
كفراً ، فقام عليّ ( عليه السَّلام ) يخطب ، فقال : من
زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب ، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ ، فخرجت حينئذ
الخوارج من المسجد فحكَّمت (4) .
قال ابن أبي الحديد : إنّ الخوارج لمّا قالوا
لعليّ : تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ، ننهض معك إلى حرب الشام ، فقال لهم
عليّ : كلمة مجملة مرسلة
1 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/178 طبعة
النجف. 2 ـ فلج فيه ، من الفلج : وهو الظفر. 3 ـ الكراع : اسم للخيل. 4 ـ المبرّد : الكامل 2/155 ، وفي
المصدر : فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه.