بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 141 ـ 150
(141)
قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين اقسم الفي بيننا والسبي ، قال : فلمّا أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا (1) .
    3 ـ روى الطبري أيضاً : لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل البصرة ، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة ، فقسّمها على من شهد معه ، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال : لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى اعطياتكم ، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء (2) .
    كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم ، وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.
    4 ـ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم على الشاميين ، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين ، قابلوه بالاعتراض والسيف.
    قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم ، فرضوا بذلك ، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ برايات عنزة ـ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ـ فلمّا مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم ، قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم ، واسماهما معدان وجعد ، اخوان ، ثم مرّ بها على مراد ، فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :
ما لعليّ في الدماء قد حكم لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

    1 ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة 11 الباب 25 الحديث 5 و 7 ص 58.
    2 ـ الطبري : التاريخ 3/544. والمراد من السبائيّة : الخوارج ، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.


(142)
    لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا : لاحكم إلاّ لله ، لانرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لاحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ، فقال رجل منهم لآخر : أمّا هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي ، فقال : أتحكّمون الرجال في أمرالله ، لاحكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه (1) .
    5 ـ إنّ بعض من صار من الخوارج كانوا متواجدين في الكوفة أيّام خلافة عثمان ، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص ، فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة ، ونرى بين المعترضين ، حرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي ، وزيد بن حصين الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي ، وكانوا يعدّون من أصحابه ، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء ـ وهم السفهاء ـ شيئاً فكتب إليه : أن سيّرهم إلى الشام (2) .
    نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم ، من الرجال الصالحين والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي ، ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين) ، وعمرو بن الحمق ، وكميل بن زياد النخعي ، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني ،
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 587 ـ 588.
    2 ـ الغدير : 5 / 31 نقلاً عن الأنساب للبلاذري : 5/39.


(143)
وغيرهم من الصلحاء ، وذلك يكشف عن وجود نزعة الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم ، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة ، ولا دليل على تلك الملازمة ، فرّب انسان يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى ، والامعان في حقيقة الاعتراضين ـ الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين عليـ يكفي في تصديق ماذكرنا.
    نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية التعبير عن الرأي ، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى النقد إذا كان لأجل طلب الحق ، مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء ، لغاية الوصول إلى الحق ، وهذا ما يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم ، بل نجد ذلك في عصر المعصوم أيضاً ، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه وجرت دموعه على خدّيه ، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به من عدم البكاء على المّيت ، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : لا ، ولكنّي نهيت عن صوتين احمقين وآخرين : صوت عند مصيبة ، وخمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان ، وصوت عند نعمة لهو ، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (1) .
    نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي ، وحبّ الاعتراض ، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل ( ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ كَفَروا فَلا
    1 ـ برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية 3/395.

(144)
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَ يُجادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ). (2)
    نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة ، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى ، وإن اشتركوا في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.
    فالنزعة الاُولى : كانت نابعة عن روح صادقة لاعن هوى نفسي ، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ عثمان ، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام ، وتحمّلوا التسيير والتبعيد عن الوطن ، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله ، سلّموا إليه مقاليد امورهم.
    والنزعة الثانية : كانت نابعة عن روح مكابرة تريد فرض ما تحبّ وترى ، سواء أكان حقّاً أم باطلا ، ونذكر هنا نموذجاً للقسمين :
    قال ابن مزاحم : قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي : بلى إنّ الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ ، وقد رضيتُ ورضيتُم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (3) .
    وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر القيادة ، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس ، أو قاب قوسين او أدنى ، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء
    1 ـ غافر : 4.
    2 ـ الكهف : 56.
    3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 598.


(145)
على حياة الإمام ، تراجع عن ساحة القتال ، ورجع طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام ( عليه السَّلام ) وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام ، وقال خُدِعَتم والله فانخدعتم ، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباة السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا ، وشوقاً إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة ، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (1) .
    هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق ، وأمّا الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق ، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على صحّة مبدأ التحكيم بقوله : « إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد » فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْل مِنْكُمْ ) فكيف في الامامة ... ، فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم : ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون ) وقال عزّوجلّ : ( و تُنْذِرَ به قَوْماً لدّا ) (2) .
    إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه النكسة ، وإليك بيان العامل الثاني :

الثاني : وجود العملاء في جيش الإمام :
    كان في جيش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه ، حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته ، كأمثال الأشعث بن قيس ، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال : من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 563.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 طبع مطبعة المعارف بمصر.


(146)
ومسمع منه ، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد : « كلّ فساد كان في خلافة عليّ ( عليه السَّلام ) وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث » (1) .
    وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية :
    1 ـ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان ، وقد كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس ، ولمّا بويع عليّ ( عليه السَّلام ) كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال : « وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ». فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه : « إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان » وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ ، وهو معزول عن الولاية (2) .
    قال المسعوديّ : وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها ، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال (3) .
    2 ـ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث فانتزعها عليّ ( عليه السَّلام ) منه وولّى حسان بن مخدوع عليهما ، ثمّ بعد هن وهنات أشركه في الرئاسة (4) وقد أثار ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.
    3 ـ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال فترة الحرب ، يقول ابن مزاحم : إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له : « إنّ ابن عمّك
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/279.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 29.
    3 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/117.
    4 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 153.


(147)
ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله ، وإن كان ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة ، فتأذن لنا فيه » فقال له الأشعث : اقرأ صاحبك السّلام ورحمة الله ، وقل له : إنّي أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه إلى سعيد بن قيس فإنّه في الميمنة ، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون (1) .
    4 ـ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي سفيان ، فقال : الق الأشعث ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة ، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس ، فقال الناس : هذا الرجل يدعوك ، فقال الأشعث : سلوه من هو؟ فقال : أنا عتبة بن أبي سفيان ، فقال الأشعث : غلام مترف ولابدّ من لقائه ، فخرج إليه ، فأبلغه دعوة معاوية (2) .
    وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم له في ساحة علي ( عليه السَّلام ) من خلال كسب رضا الأشعث ، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال في جواب معاوية : أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.
    فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث ، أيقن بأنّ الأشعث قد جنج للسلم ، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين ، إلى أن اجترأ الأشعث على ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي :
    5 ـ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من كندة ، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية ، وكانت امارات النصر لعلي
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 341.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 465.


(148)
ظاهرة ، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في نهار تلك الليلة ، فقال في خطابه : « قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب ، انّا إن نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات ، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.
    قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وأنّما يبصر هذا ذووا الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.
    فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ، الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها الخيل ... (1) .
    6 ـ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي ( عليه السَّلام ) وفرّقهم إلى فرقتين ، فمنهم من يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره ، ومنهم من يصرّ على إنهائها ، ومنهم الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال : يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنّك أحقّ به منهم ، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (2) .
    7 ـ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت ، وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً ، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه ، ابن عباس ،
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 549 ـ 550.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 551.


(149)
فلم يقبله الأشعث ، وقال : والله ما نبالي أكنتَ أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر ، قال علي : إنّي اجعل الأشتر ، قال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر (1) .
    8 ـ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق يعرضه عليهم ، واستقبله أهل الشام بالرضا ، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله : لا حكم إلاّ لله (2) .
    وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية ، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى ، وبذلك تقف على صحّة ماذكره ابن أبي الحديد : من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث.
    يقول اليعقوبي : لمّا رفعوا المصاحف وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله ، فقال علي : إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن ، فاعترض الأشعث بن قيس الكندي ، ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسهـ فقال : قد دعوا القوم إلى الحقّ ، فقال علىّ ( عليه السَّلام ) إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم ، فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك ، ومالت اليمانية مع الأشعث ، فقال الأشعث : والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 572.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.


(150)
برمّتك. (1) .
    ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله : لمّا استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي ( عليه السَّلام ) إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة : بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال : يزيد بن قيس الأرحبّي ، فركب علي إليهم إلى حروراء ، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مَضْرب يزيد بن قيس ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم خرج فاتّكأ على قوسه ، وأقبل على الناس ، فقال : هذا مقام من فلج (2) فيه فلج يوم القيامة ، ثمّ كلّمهم وناشدهم ، فقالوا : أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم ، وقد تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا نعدلك ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : أنا استغفر الله من كلّ ذنب ، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف ، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) رجع عن التحكيم ، ورآه ظلالا وقالوا : إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجنى الأموال ، ثمّ ينهض بنا إلى الشام ، فأتى الأشعث عليّاً ( عليه السَّلام ) فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفراً ، فقام عليّ ( عليه السَّلام ) يخطب ، فقال : من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب ، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكَّمت (4) .
    قال ابن أبي الحديد : إنّ الخوارج لمّا قالوا لعليّ : تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ، ننهض معك إلى حرب الشام ، فقال لهم عليّ : كلمة مجملة مرسلة
    1 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/178 طبعة النجف.
    2 ـ فلج فيه ، من الفلج : وهو الظفر.
    3 ـ الكراع : اسم للخيل.
    4 ـ المبرّد : الكامل 2/155 ، وفي المصدر : فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس