بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 151 ـ 160
(151)
يقولها الأنبياء و المعصومين وهي قوله :
    « استغفرالله من كلّ ذنب » فرضوا بها وعدّوها اجابة لهم إلى سؤالهم ، وصفت له ( عليه السَّلام ) نيّاتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث ، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية ، فانتقض ما دبّره ، وعاد الخوارج إلى شبهتهم الاُولى ، وراجعوا التحكيم والمروق (1) .

هل العصبية القبلية دفعت الأشعث إلى المخالفة؟ :
    من هذا البحث انصافاً تقف على قيمة مايذكره البعض وهو أنّ العصبية القبلية أثّرت في انحراف الأشعث عن علي ، بل مهّدت لنشوء الخوارج وظهورهم في الساحة ، وذلك بحجة أنّ الأشعث اعترض على ترشيح عبدالله بن عباس ممثّلا لعليّ ، وقال : لا والله لا يحكم فيها مُضريّان حتى تقوم الساعة ، ولكن اجعله من أهل اليمن ، إذا جعلوا (أهل الشام) رجلا من مضر. فقال علي : إنّي أخاف أن يُخْدَع يَمَنَيِّكُم ، فإنّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في امر هوى ، فقال الأشعث : والله لأن يحكماببعض ما نكرهه وأحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ في حكمهما وهما مضريان (2) .
    إنّ تحليل انحراف الأشعث عن عليّ ( عليه السَّلام ) وايجاده الفوضى في قسم كبير من جيشه بهذا العامل النفسي ضعيف جداً ، ولاننكر أن يكون لهذا العامل أيضاً رصيداً في ما كان يضمره ويعمله.
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/280.
    2 ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي 25 وما نقله عن الأشعث ، ذكره ابن مزاحم في وقعة صفّين 500.


(152)
    وأبعد من ذلك تحليل نشوء الخوارج في ساحة القتال بالعصبية القبلية ، انّها أنجبت حركة الخوارج فصارت عصبيتهم الموجّهة ضدّ قريش وسلطانها المتجسّد في الحكومة العلوية يومذاك ، سبباً لتلك الحركة الهدّامة بشهادة أنّا لانجد في صفوف الخوارج قرشياً واحداً بل على العكس من ذلك فإنّهم كانوا يحملون لواء التمرّد على قيادتها (1) .
    إنّ تحليل هذه الحركة الكبيرة من بدئها إلى نهايتها بهذا العامل النفسي أشبه بتعليل الهزّة الكبيرة الموجبة لانهدام المدن والقرى ، بسقوط صخرة من أعلى الجبل إلى هّوة سحيقة ، نعم لايمكن انكار العصبية القبلية بين جميع القبائل العربية ، خصوصاً بين قبيلتي تميم وقريش ، ولكنّه ليس بمعنى أنّه الباعث والعامل المحدِث لهذه الضجّة الكبيرة التي شغلت بال المسلمين والخلفاء طوال قرون ، بل العامل لحدوث هذه الحركة هو ما عرفته في المقام وفي الفصل الثالث عند البحث عن نشوء الخوارج.
    1 ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي 28.

(153)
الفصل الثامن
الخوارج في عصر معاوية بن أبي سفيان


(154)

(155)
    قد تعرّفت على مأساة التحكيم وما خلّف من آثار ونتائج سيّئة في جيش الإمام وأصحابه حيث فرّقهم وشقَّ شملهم ، فانقلب الاخوان أعداءً ، وأصبح الأنصار معارضين ، إلى أن أدّى ذلك إلى حروب دامية ضدّ إمامهم أمير المؤمنين ولم يبرحوا حتى قضوا على حياته حيلة وغيلة.
    لقد بذر معاوية تلك البذرة في جيش الإمام ، ولم يدر بخلده أنّ هذه البذرة سوف تنمو وتكون أشواكاً تعكّر عليه صفو خلافته ، وتشغل باله عشرين سنة إلى العام الذي هلك فيه ، فحصد مازرع ووقع بالحفرة التي حفرها ، وسوف نذكر الحروب والانتفاضات التي جرت في عهد معاوية بعد أن تسنّم عرش الخلافة من عام 41 إلى 60 من الهجرة.
    نعم لم تقف انتفاضاتهم بهلاك معاوية ، بل استمرّت بعد هلاكه ، وعلى طول عهد بني اُميّة ، غير انّا نكتفي بما جرى في عهد معاوية وبعده بقليل ، ليكون نموذجاً لسائر الثورات التي قاموا بها إلى أواخر العصر الأموي. فكانوا مثلا لقوله سبحانه : ( ألَمْ يَأتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَ بالَ أَمْرِهِمْ


(156)
وَ لَهُمْ عَذابٌ اَليِمٌ ) (1) .
    وقبل ذلك نلفت نظر القارىء إلى هذه الانتفاضات من زاوية اُخرى ، فالخوارج وإن قاموا في وجه الطغاة اللئام من بني اُميّة فثاروا عليهم هنا وهناك بصورة عشوائية ومتفرّقة ، فأسهروا عيونهم وزعزعوا كيانهم ، ولكنّهم أيضاً ذاقوا وبال أمرهم لأنّهم عصوا إمامهم ، وقلّبوا الاُمور عليه ، وأوجدوا الفوضى في عصره ، فصدق فيهم قول الامام وهو يخاطبهم : « أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » (2) .
    وهذا الكلام تنّبؤ من الإمام عن مستقبلهم المظلم ، ويحقّ له هذا التنّبؤ ، كيف وهو باب علم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، نعم احتمل ابن أبي الحديد أن يكون دعاءً أيضاً وقال : وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم ، وهذه الأخبار عن مستقبل حالهم ، وقد وقع ذلك ، فإنّ الله تعالى سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل ، والسيف القاطع ، والاثرة من السلطان ، ومازال حالهم يضمحل حتى افناهم الله تعالى وافنى جمهورهم.
    ثمّ إنّ ابن أبي الحديد ذكر في أخبارهم شيئاً كثيراً وأطنب الكلام في سيف المهلّب بن أبي صفرة وبنيه على الخوارج وانّ نتيجته كانت الحتف القاضي ، والموت الزؤوم للخوارج.
    إنّ موسوعتنا هذه موسوعة تاريخ العقائد ، لا تاريخ الأقوام ، ولأجل ذلك ضربنا صفحاً عن نقل جميع الانتفاضات التي أقامها الخوارج في الشهود المختلفة ، وفي أماكن متفرّقة ، واكتفينا بماقاموا به في العصر الإموي ، وخصّصنا بالذكر خصوص ما يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان زارع هذه
    1 ـ التغابن 5.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.


(157)
البذرة ، وحاصد نتائجها الدنيوية ، وحافر تلك الحفرة والواقع فيها ، وطلباً للاكمال نشير إلى الانتفاضات الواقعة بعد عهد معاوية بوجه موجز.
    اغتيل الإمام علي ( عليه السَّلام ) بيد أشقى الأوّلين والآخرين على ما وصفه الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في حديثه (1) وقضى نحبه فبويع الحسن خليفة بعد أبيه وتمّت له البيعة في رمضان سنة أربعين ، وكان معاوية يتحّين الفرص ليسيطر على العراق كما سيطر على مصر ويأخذ بمقاليد الحكم ، وقد أعطاه قتل الإمام فرصة لبسط نفوذه على العراق وخلع الحسن عن الحكم ، فقدّم أمامه عبدالله بن عامر ليفتح الطريق إلى معاوية ، ثمّ غادر هو الشام متوجّهاً إلى العراق.
    ولمّا وقف الحسن على خطّة معاوية وانّه بصدد مواجهته بالقوّة العسكرية قدّم كتائب من جيشه وعلى رأسهم كتيبة قيس بن سعد بن عباده ، وخرج هو من الكوفة حتى نزل المدائن مستعدّاً لمواجهة معاوية ، غير أنّ الحوادث المريرة ـ التي ليس المقام مناسباً لذكرها ـ خيَّبتْ أمله ، فلم يَر بدّا من التنازل عن الحكم و تسليم الأمر إلى معاوية من خلال وثيقة الصلح ، وكيف لايكون مضطرّاً إلى التصالح وقد أعرب عن اضطهاده وتخاذل أصحابه ونهب ماله قبل مواجهة العدوّ ، فقام خطيباً وقال : « يا أهل العراق انّه سخّى بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي وانتهابكم متاعي » (2) .
    أخذ معاوية بمقاليد الحكم وكان يتبجّح بأنّه أزال جميع الموانع التي
    1 ـ سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص 158.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/122 وقد ذكر الطبري صورة وثيقة الصلح في ذلك المقام ولكن ما ذكره لايشتمل على جميع بنود الصلح ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.


(158)
كانت تقف في طريقه لتولّي سدّة الحكم ، لكنّه كان غافلا عن أنّ البذرة التي بذرها في صفّين لأجل إيجاد الفرقة في صفوف جيش عليّ ( عليه السَّلام ) سوف تنمو ويأكل من ثمرها وتكون عليه ضدّاً ، فإن تسليم الحسن الحكم لمعاوية ، ومبايعة أهل العراق له قد أغضب رؤوس الخوارج المختفين في جيش الحسن والمتفرّقين في البلاد ، إذ شعروا أنّ هذا التصالح خطر على كيانهم ووجودهم ، ولأجل ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم لمحاربة النظام الجديد كما حاربوا النظام السابق ، فالخوارج كانوا ينظرون إلى عليّ ( عليه السَّلام ) ومعاوية بمنظار واحد بعد قضية التحكيم وإن كان عليّ ( عليه السَّلام ) في نظرهم إماماً عادلا محقّاً قبل التحكيم.
    وإليك بعض حروبهم في عصر معاوية على وجه الإجمال :

1 ـ خروج فروة بن نوفل : يقول الطبري : وفي هذه السنة سنة 41 خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام عليّ ( عليه السَّلام ) بـ « شهرزور » على معاوية ، فلمّا قدم معاوية العراق قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة فقالت الحرورية الخمسمائة التي كانت اعتزلت بـ« شهرزور » مع فروة بن نوفل الأشجعي : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية نجاهده ، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفه فأرسل اليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام فكشفوا أهل الشام ، فقال معاوية لأهل الكوفة : لاأمان لكم والله عندي حتى تكّفوا بوائقكم ، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم ، فقالت لهم الخوارج : ويلكم ما تبغون منّا ، أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم ، دعونا حتى نقاتله وإن أصبناه كنّا قد كفينا كم عدوّكم ، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا ، قالوا : لا والله حتى نقاتلكم ، فقالوا : رحم الله اخواننا


(159)
من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة ، وأخذت أشجع (1) صاحبهم فروة وكان سيد القوم واستعمل الخوارج عليهم عبدالله بن أبي الحر (2) ، رجلا من طيّ ، فقاتلوهم ، فقتلوا (3) .
    وممّا يذكره المؤرّخون من حديث معركة النخيلة : انّ قبيلة اشجع تمكّنت من أخذ فروة بن نوفل من بين أصحابه الخوارج ، فولّى الخوارجُ عليهم عبدالله بن ابى الحرباء ، فقتل في أثناء المعركة ، فولّى الخوارج عليهم حوثرةَ بن وداع بن مسعود الأسدي ، فعاد إلى النخيلة ، فأرسل اليه معاوية أباه ، لعلَّه يردُّه وقال له :
    اُخرج إلى ابنك فلعلَّه يرقُّ إذا رآك.
    فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال :
    ألاأجيئك بأبنك؟ فلعلّك إذا رأيتَه كرهتَ فراقهَ.
    فقال حوثرة : إنّي إلى طعنة من يد كافر يرمح القلب فيها ساعة ، أشوق منّي إلى ابني.
    فرجع أبوه وأخبر معاوية بقوله.
    فأرسل معاوية إليهم جنداً فقتلوهم جميعا (4) .

2 ـ خروج شبيب بن بجرة :كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّاً ، فلمّا دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب المتقرّب وقال : أنا و ابن ملجم قتلنا عليّاً ، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع ،
    1 ـ اسم قبيلة من قبائل الكوفة ، والمراد أنّ القبيلة التي كانت تحمي معاوية أخذت فروة بن نوفل رئيس الخوارج.
    2 ـ وفي الكامل لابن الاثير (عبدالله بن أبي الهوساء) 3/305 ـ 306.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/126.
    4 ـ عمر ابو النضر : الخوارج في الإسلام 31.


(160)
فقال : لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنّه ببابي لأهلكنّكم ، أخْرِجوه من بلدكم ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله ، فلمّا ولي المغيرة بن شعبة الكوفة ، خرج عليه بالطفّ قريب الكوفة ، فبعث إليه المغيرة خيلا عليها خالد بن أرفطة ، وقيل معقل بن قيس ، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه (1) .
    هذه عبرة خاطفة عن ثورات الخوارج في الكوفة ، قبل أن يولّى المغيرة بن شعبة من قبل معاوية ، وبعدما تولّى هو الكوفة كانت لهم ثورات أخمدها المغيرة بدهائه وسيفه وإليكها مجملة :

الخوارج والمغيرة بن شعبة والي معاوية في الكوفة :
    غادر معاوية الكوفة إلى الشام واستعمل عبدالله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له : استعملت عبدالله على الكوفة ، وأباه على مصر ، فتكون أميراً بين نابي الأسد ، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة ، ولمّا بلغ عمرو ما قاله المغيرة ، دخل على معاوية فقال : استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه ، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتّقيك ، فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.
    فلقى المغيرة عمرو ، فقال عمرو : أنت المشير على أميرالمؤمنين بما أشرت به في عبدالله؟ قال : نعم. قال : هذه بتلك (2) وكان المغيرة يمثّل
    1 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/127. ابن الاثير : الكامل 3/206. هؤلاء هم الصحابة العدول الذين يؤخذ عنهم الدين والفتوى!!.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس