بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 161 ـ 170
(161)
سياسة معاوية مع الخوارج فيقاتلهم تارة ويعفو عنهم اُخرى ، يقول الطبري : بعث معاوية المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة ، فأحبّ العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفتّش أهل الأهواء عن أهوائهم ، وكان يؤتى فيقال له : إنّ فلاناً يرى رأي الشيعة ، وإنّ فلاناً يرى رأي الخوارج ، فكان يقول : قضى الله أن لا تزالون مختلفين ، وسيحكم الله بين عباده في ماكانوا فيه يختلفون ، فأمنه الناس (1) . وإليك بعض مواجهاته مع الخوارج.

3 ـ خروج معين الخارجي : بلغ المغيرة أنّ معين بن عبدالله يريد الخروج فأرسل إليه وعنده جماعة فاُخذ وحبس ، وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره ، فكتب إليه : إنْ شهد أنّي خليفة فخلّ سبيله ، فأحضره المغيرة وقال له : أتشهد أنّ معاوية خليفة و أنّه أمير المؤمنين؟ فقال : أشهد أنّ الله عزّوجلّ حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ الله يبعث من في القبور ، فأمر به فقتل (2) .

4 ـ خروج أبي مريم مولى بني الحرث بن كعب : ثم خرج أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب ومعه امرأتان قطام وكحيلة ، وكان أوّل من أخرج معه النساء ، فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أديه ، فردّه أبو مريم بأنّه قد قاتل النساء مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ومع المسلمين بالشام ، وسأردّهما ، فردّهما ، فوجّه إليه المغيرة جابر البجلي ، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه بـ « بادوريا » (3) .

5 ـ خروج أبي ليلى : وكان أبو ليلى رجلا أسود طويلا ، فأخذ بعضادتي
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/132.
    2 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206.
    3 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206 ـ 207.


(162)
باب المسجد بالكوفة وفيه عدّة من الأشراف ، وحكم بصوت عال ، فلم يعرض له أحد ، فخرج وتبعه ثلاثون رجلا من الموالي ، فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين (1) .

6 ـ خروج المستورد : إنّ الخوارج في أيّام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر ، 1 ـ المستورد بن علفة التيمي 2 ـ حيان بن ظبيان السلمي 3 ـ معاذ بن جوين الطائي ، فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولّون عليهم ، فبايعوا المستورد لأنّه أسنّ الثلاثة واستعدّوا للخروج في غرّة هلال شعبان سنة 43 (2) .
    ثمّ إنّ قبيصة بن الدمون أتى المغيرة وكان على شرطته ، فأخبر أنّ الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيّان بن ظبيان ، وقد اتّعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان ، فقال المغيرة : سِرْ بالشرطة حتّى تحيط بدار حيّان بن ظبيان فأتني به ، وهم لايرون إلاّ أنّه أمير تلك الخوارج ، فسار قبيصة بالشرطة وفي كثير من الناس ، فلم يشعر حيّان بن ظبيان إلاّ والرجال معه في داره نصف النهار واذا معه معاذ بن جوين و نحو من عشرين رجلا من أصحابهما ، فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة ، فقال لهم المغيرة : ما حملكم على ما أردتم من شقّ عصا المسلمين ، قالوا له : أمّا اجتماعنا في هذا المنزل فإنّ حيّان بن ظبيان أقرأنا القرآن ، فنحن نجتمع عنده في منزله ، فنقرأ القرآن عليه ، قال : فاذهبوا بهم إلى السجن ، فلم يزالوا فيه نحواً من سنة (3) .
    1 ـ ابن الاثير : الكامل : 3/ 207.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/133 ـ 134.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/138. ابن الاثير : الكامل 3/210 ـ 212.


(163)
    وأمّا المستورد ، فقد ذكر الطبري في تاريخه (1) وابن الأثير في كامله (2) ثورته على وجه التفصيل و نحن نذكر ملخّصها حسب ما قام به الدكتور نايف معروف في كتابه « الخوارج في العصر الأموي » : وأمّا المستورد ، فإنّه نزل داراً في الحيرة بعيداً عن أعين الحرّاس. ولكن لمّا أخذت الخوارج تفد عليه ، وانكشف أمره ، أمر أصحابه بالرحيل عنها ، فتحوّلوا إلى دار سليم بن مخدوج العبدي ، في بني سلمة من عبد القيس ، وكان صهراً للمستورد لايرى رأيه في الخروج. ولمّا شاع خبرتحرّك الخوارج ، أدرك المغيرة خطورة الأمر ، فجمع رؤساء القبائل و خطبهم فقال : فليكفين كلّ امرىء من الرؤساء قومه ، وإلاّ فو الذي لا إله غيره لأتحولنّ عمّا كنتم تعرفون إلى ما تنكرون ، وعمّا تحبّون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلاّ نفسه ، وقد اُعذر من أنذر.
    أخذ زعماء القبائل انذار المغيرة موضع جدّ واهتمام ، فعادوا إلى قبائلهم وبادروا في البحث عن مثيري الفتنة في صفوفهم ، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبدالقيس ، فحذّرهم من إيواء هؤلاء المارقة ، فتراجع كثيرون عن اللحاق بالخوارج.
    ولمّا علم المستورد بتهديد المغيرة لرؤساء القبائل ، وتجنباً لاحراج أصهاره ، أمر أصحابه بالرحيل ، فخرجوا عن ديار عبدالقيس ، وساروا إلى الصراة ومنها إلى « بهرسير » وعزموا على دخول المدينة العتيقة التي كانت بها منازل كسرى فردّهم عنها عاملها سماك بن عبيد الأزدي العبسي. ثم حاول أن يردّهم عن خروجهم ، ويأخذ لهم الأمان ، فأبي المستورد ، وعبر « جراجرايا » ومضى بأصحابه إلى أرض جوخى ، حتى بلغ المذار ، ونزلوا
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/138 ـ 161.
    2 ـ ابن الأثير : الكامل 3/212 ـ 217.


(164)
هناك.
    فبعث إليهم المغيرة جيشاً ، قوامه ثلاثة آلاف رجل من نقاوة الشيعة ، على رأسهم معقل بن قيس الرياحي التميمي الشيعي ، فأرسل معقل في أثرهم أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة من الفرسان ، فلحقهم حتى أدركهم في أرض المذار. وحينئذاك استشار أصحابه في قتالهم أو انتظار قدوم معقل عليه ، فاختلف أصحابه بين مؤيّد ومعارض. وأخيراً تنحّى جانباً. ثمّ تقدم معقل في سبعمائة من فرسانه والتقى الخوارج فانهزم كثيرون من أصحابه ولم يثبت سوى معقل وأبي الرواغ في نحو مائتين من الفرسان. ووصلت مؤخّرة الجيش وتوافقوا للقتال. وفي تلك الأثناء جاءت الخوارج الأخبار بأنّ شريك بن الأعور قد أقبل في ثلاثة آلاف من أهل البصرة ، فاقترح المستورد على أصحابه أن ينحازوا ثانية ، عن أرض البصرة وأن يعودوا إلى أرض الكوفة ، لأن البصريين لايحاربون خارج دائرتهم ، فانسحبوا من مواقعهم وتسلّلوا إلى أرض الكوفة حتى بلغوا جراجرايا ، وقد أصاب حدسُهم ، فإنّ البصريين رفضوا اللحاق بهم ، فمضى الخوارج في طريقهم وعبروا دجلة ونزلوا في ارض بهرسير. وهناك بالقرب من ساباط كان اللقاء الحاسم فاشتدّ القتال بين الفريقين ، وكادت الدائرة تدور على أهل الكوفة لولا ثبات معقل في عدد من فرسانه ، ونجدة أبي الرواغ الذي كان أبعده المستورد عن ساحة المعركة بحيلة حربية ، أمّا المستورد ، فإنّه نادى معقلا ودعاه للمبارزة ، فحاول أصحابه منعه من ذلك ، فأبى وخرج إليه معقل ، فاختلفا ضربتين ، فقتل كل واحد منهما صاحبه. وكان قد أوصى بالامارة من بعده إلى عمرو بن محرز ابن شهاب التميمي ، الذي أخذ الراية بعد مقتله و حمل على الخوارج


(165)
فقتلوهم ولم ينج منهم إلاّ بضعة رجال فرّوا من أرض المعركة (1) .

7 ـ خروج الموالي لصالح الخوارج : إنّ الموالي في العصر الأموي كانوا تحت الضغط يحقّرون بأنّهم غير عرب ، فلأجل ذلك لاعجب إذا رأينا صلة بينهم وبين الخوارج فإنّهم وإن كانوا لايتبنّون مبادىء الخوارج ولكن كانوا يلتقون معهم بعدائهم للحكومة الأموية ، ولأجل ذلك نجد أنّ عصابة من الموالي خرجت من الكوفة فبعث إليهم المغيرة رجلا من بجيلة ، فقاتلهم وقضى عليها ، وهؤلاء أوّل خارجة خرج فيها الموالي (2) .

8 ـ خروج حيان بن ظبيان السلمي : وفي سنة خمسين توفّي المغيرة بن شعبة ، وهو ابن سبعين ، وقد سجن كثيراً من الخوارج وقد أفرج عنهم بعد موته ، ولمّا ولي على الكوفة عبدالرحمن بن عبدالله بن عثمان بن ربيعة الثقفي ، وهو ابن اُمّ الحكم ، اُخت معاوية بن أبي سفيان عادوا للخروج. يقول الطبري : إنّ حيان بن ظبيان السلمي ، جمع إليه أصحابه ، فدعاهم إلى الجهاد ، وأدعم رأيه معاذ بن جوين الطائي ، وبايع القوم حيان بن ظبيان ، ثم اجتمعوا في منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي ، فقال لهم حيان : عباد الله أشيروا برأيكم أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ : إنّي أرى أن تسير بنا إلى « حلوان » فلم يقبله حيان ، فقال له : عدوّك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك ، ورأى الخروج إلى جانب الكوفة ، ولم يرض به أصحابه ، فقال لهم معاذ بن جوين : سيروا بنا فلننزل بـ« انقيا » فخرجوا فبُعِثَ إليهم جيش فقتلوا جميعاً ، وذلك في عام تسعة و خمسين.
    ويقول الطبري : وفي هذه السنة اشتدّ عبيدالله بن زياد على الخوارج
    1 ـ د ـ نايف معروف : الخوارج في العصر الأموي 118 ـ 119.
    2 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/221.


(166)
وقتل منهم صبراً جماعة كثيرة ، وفي الحرب جماعة اُخرى ، وممّن قتل منهم صبراً ، عروة بن ادية أخو أبي بلال مرداس بن ادية (1) .

الخوارج في البصرة :
    لم تكن الكوفة وضواحيها هي المركز الوحيد لحركة الخوارج وثوراتهم في أوائل العصر الأموي ، فقد كانت البصرة مثل الكوفة مركزاً لنشاطهم وخروجهم.
    فقد خرج حمران بن أبان على البصرة في عام 41 فبعث معاوية بسر بن أرطاة فقتله وأخمد الثورة ، ثم عزله معاوية واستعمل مكانه عبدالله بن عامر فخرج في عصره سهم بن غالب الهجيني في سبعين رجلا ، فخرج إليه ابن عامر ففرّق شملهم حتّى اضطرّوا إلى الأمان.
    ولمّا ولّى معاوية زياداً على البصرة في سنة 45 ، فوجدها تعج من الخوارج ، وكانت لهم انتفاضات واحدة بعد اُخرى ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم (2) ونذكر هنا أهمّها على وجه الاجمال :

9 ـ خروج الخطيم الباهلي وسهم بن غالب الهجيني : خرج سهم إلى الأهواز فأحدث وحكم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان ، فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه.
    وأمّا الخطيم فسيّره إلى البحرين ، ثمّ أذن له فقدم ، ولمّا أخلّ بما أمره به زياد أمر بقتله واُلقي في عشيرته (باهلة) (3) .
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/231.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/172.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/172 ـ ابن الاثير : الكامل 3/225.


(167)
10 ـ خروج قريب بن مرة وزحّاف الطائي : خرج هذان الرجلان في أمارة زياد بالبصرة فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية : اُنج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف و من معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه. ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا.
    حتّى مرّا على بني علي بن سود من الأزد وكانوا مائة فرموهم رمياً شديداً فصاحوا : يا بني علي ، البُقْيا ، لارماء بيننا ، قال رجل من بني علي :
    لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذةً في غلس الظلام
    ففرّ عنهم الخوارج ، إلى أن واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقع الحرب ، فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف وقد كان عمل هؤلاء منفِّراً على حدّ ، تبرّأ عنهم بعض الخوارج ، ونقل ابن أبي الحديد عن أبي بلال مرداس بن اُدَيَّة انّه قال : قريب ، لاقرّبه الله ، وزحاف لاعفا الله عنه ، ركباها عشواء مظلمة ـ يريد اعتراضهما الناس ـ. ونسب الطبري هذا القول إلى سعيد بن جبير (1) .
    وقال الجزري : واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم ، وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً ، وخطب زياد على المنبر وقال : والله لتكفّنّني هؤلاء ، أو لأبدأنَّ بكم ، والله لإن اُفِلتَ منهم رجل ، لاتأخذون العام من عطياتكم درهماً ، فثار الناس بهم فقتلوهم (2) .

11 ـ خروج زياد بن خراش العجلي : خرج زياد بن خراش العجلي في
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/176 ـ 177. ابن أبي الحديد : الشرح 4/135. المبرد : الكامل 2/180.
    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/229.



(168)
ثلاثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد فسيَّر إليه زياد خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره فقتلوهم ، وقد صاروا إلى مائة (1) .

12 ـ خروج معاذ الطائي : وخرج على زياد أيضاً رجل من طي يقال له معاذ ، فأتى نهر عبدالرحمن بن اُمّ الحكم في ثلاثين رجلا في سنة 51 ، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه ، وقيل بل حلّ لواءه واستأمن (2) .

13 ـ خروج طواف بن غلاق : توفّي زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان سنة 53 ، ثمّ إنّ معاوية ولّى ابنه عبيدالله بن زياد على البصرة عام 55 فكانت سيرته مع الخوارج نفس سيرة أبيه ، فاشتدّ عليهم وقتل منهم جماعة كثيرة ، فقد بلغه أنّ قوماً من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه « جدار » فيتحدّثون عنده ويعيبون السلطان ، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ، ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلّي سبيل القاتلين ، ففعلوا ، فأطلقهم ، فكان ممّن قتل طواف ، فعذلهم أصحابهم وقالوا : قتلتم اخوانكم؟ قالوا : اُكْرِهْنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالايمان ، وندم طواف وأصحابه ، فقال طواف : أما من توبة؟ فكانوا يبكون وعرضوا على أولياء من قتلوا ، الدية ، فأبوا ، وعرضوا عليهم القود ، فأبوا.
    ثم لقى طواف ، ابن ثور السدوسي ، فقال له : أماترى لنا من توبة؟ فقال : ما أجد لك إلاّ آية في كتاب الله عزّوجلّ : ( ثُمّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِنْ بَعْدِ مافُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا اِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيِمٌ ) (3) .
    فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد ، فبايعوه في سنة
    1 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.
    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.
    3 ـ النحل : 110.


(169)
ثمان و خمسين ، وكانوا سبعين رجلا من بني عبدالقيس بالبصرة ، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد فبلغ ذلك طوافاً ، فعجّلوا الخروج فخرجوا من ليلتهم ، فقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء ، فندب ابن زياد الشرط البخارية ، فقاتلوهم فانهزم الشرط حتّى دخلوا البصرة وذلك يوم عيد الفطر وكثّرهم الناس فقاتلوا فقتلوا ، وبقى طواف في ستة نفر و عطش فرسه فأقحمه الماء فرماه البخارية بالنشاب حتّى قتلوه وصلبوه ثمّ دفنه أهله (1) .

14 ـ خروج عروة بن اديّة : إنّ عبيدالله بن زياد خرج في رهان له ، فلمّا جلس ينتظر الخيل ، اجتمع الناس وفيهم عروة بن اُدية ، فأقبل على ابن زياد فقال : خمس كن في الاُمم قبلنا ، فقد صرن فينا ( اَتَبْنونَ بِكُلِّ رِيع آيَةٌ تَعْبَثُونَ * وتَتَّخِذُونَ مَصانعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَ إذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارين ) (2) .
    وخصلتين اُخريين لم يحفظهما جرير (الراوي) ، فلمّا قال ذلك ظنّ ابن زياد انّه لم يجتر على ذلك إلاّ ومعه جماعة من أصحابه ، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة ما صنعت ، تعلمنّ والله ليقتلنك ، فتوارى فطلبه ابن زياد ، فأتى الكوفة ، فأخذ بها ، فقدم به على ابن زياد ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثم دعا به فقال : كيف ترى؟ قال : اَرى اَنَّك اَفْسدتَ دنياي واَفسدتُ آخرتك ، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها (3) .

15 ـ خروج مرداس به اُديَّة : قال الطبري : حبس ابن زياد فيمن حبس مرداس بن ادية ، فكان السجَّان يرى عبادته و اجتهاده ، وكان يأذن له في الليل فينصرف فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن ، ثمّ إنّه اُفرج عنه بشفاعة
    1 ـ ابن الاثير : الكامل 3/254.
    2 ـ الشعراء : 128 ـ 130.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/231 ـ 232 ـ ابن الاثير : الكامل 3/255.


(170)
السجّان (1) .
    يقول المبرّد : كان مرداس قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم ، وشهد النهر ، ونجا فيمن نجا ، وبعد ما خرج من حبس ابن زياد عزم الخروج ، فقال لأصحابه : إنّه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين ، تجري علينا أحكامهم ، مجانبين للعدل ، مفارقين للفصل ، والله إنّ الصبر على هذا لعظيم ، وإنّ تجريد السيف واخافة السبيل لعظيم ، ولكنّا ننتبذ عنهم ولانجرّد سيفاً ولانقاتل إلاّ من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا ، فلمّا مضى بأصحابه لقى عبدالله بن رباح الأنصاري ، وكان له صديقاً فقال له : أين تريد؟ قال : اُريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة ، فقال له : أعلم بكم أحد؟ قال : لا. قال : فارجع ، قال : أو تخاف عليّ مكروهاً؟ قال : نعم وأن يؤتى بك ، قال : لا تخف فإنّي لا اُجرّد سيفاً ولا اُخيف أحداً ولا اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ثم مضى حتى نزل « آسك » وهي ما بين رامهرمز وارجان ، فمرّ به مال يحمل لابن زياد ، وقد قارب أصحابه الأربعين ، فحطّ ذلك المال ، وأخذ منه عطاءه واعطيات أصحابه ، وردّ الباقي على الرسل وقال : قولوا لصاحبكم : إنّما قبضنا اعطياتنا ، فقال بعض أصحابه فعلام ندع الباقي؟ فقال : إنّهم يقسمون هذا الفيء ، كما يقيمون الصلاة فلانقاتلهم.
    كل ذلك دليل على عدم تطرّفه واعتداله وانّه أحسّ بعقله أو بدينه أن مآل التطرّف هو الموت والزوال.
    وممّا يدل على اعتداله ـ خلافاً لمن سبق عليه ـ أنَّ رجلا من أصحاب ابن زياد ، قال : خرجنا في جيش نريد خراسان ، فمررنا بـ « آسك »
    1 ـ الطبري : التاريخ 4/232.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس