بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 171 ـ 180
(171)
فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا ، وصاح بنا أبوبلال : أقاصدون لقتالنا أنتم؟ وكنت أنا و أخي قد دخلنا زربا (1) ، فوقف أخي ببابه وقال : السّلام عليكم ، فقال مرداس : وعليكم السّلام ، فقال لأخي : أجئتم لقتالنا؟ فقال له : لا إنّما نريد خراسان ، قال : فبلغوا من لقيكم انّا لم نخرج لنفسد في الأرض ، ولا لنروّع أحداً ولكن هرباً من الظلم ولسنا نقاتل إلاّ من يقاتلنا ، ولانأخذ من الفيء إلاّ اعطياتنا ، ثمّ قال : أنَدِب إلينا أحد؟ قلنا : نعم ، أسلم بن زرعة الكلابي. قال : فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا : يوم كذا وكذا ، فقال أبوبلال : حسبنا الله ونعم الوكيل.
    فلمّا سار إليهم أسلم ، صاح به أبو بلال : اتّق الله يا أسلم ، فإنا لا نريد قتالا ، ولا نَحْتَجِن فيئاً ، فما الذي تريد؟ قال : اُريد أن أردّكم إلى ابن زياد ، قال مرداس : إذاً يقتلنا ، قال : وإن قتلكم؟ قال : تشركه في دمائنا ، قال : إنّي ادين بأنّه محقّ وأنّكم مبطلون ، فصاح بن حريث بن جحل (من أصحاب أبي بلال) : أهو محق وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم ، ويقتل بالظِنَّة ، ويخص بالفيء ، ويجور في الحكم؟ أما علمت أنّه قتل بابن سُعادَ ، أربعة براء؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد وكان معبد أحد الخوارج قد كاد يأخذه فانهزم هو وأصحابه من غير قتال ، فلمّا ورد أسلم على ابن زياد ، غضب عليه غضباً شديداً ، قال : ويلك أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ .... وكان إذا خرج إلى السوق ، أومرّ بصبيان ، صاحوا به : أبو بلال وراءك ، وربّما صاحوا به : يا مَعْبد خذه ، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد ، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفّوا النّاس عنه ، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم :
    1 ـ الزرب : جمع الزرب و هو مسيل الماء ، حظيرة المواشي وعرين الأسد.

(172)
أألفا مؤمن فيما زعمتم كذبتم ليس ذاك كما زعمتم هم الفئة القليلة غير شك ويهزمهم بآسك أربعونا ولكن الخوارج مؤمنونا على الفئة الكثيرة ينصرونا
    ثم ندب لهم عبدالله بن زياد الناس واختار عباد بن أخضر ، فوجّهه في أربعة آلاف وكان التقاؤهم في يوم الجمعة فناداه أبو بلال : اخرج إليّ يا عباد فإنّي اُريد أن اُحاورك ، فخرج إليه ، فقال : ما الذي تبغي؟ قال : آخذ بأقفائكم فأردَّكم إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، قال : أو غير ذلك؟ قال : وما هو؟ قال : أن ترجع ، فإنّا لانخيف سبيلا ولا نحارب إلاّ من حاربنا ، ولا نجبي إلاّ ما حمينا ، فقال له عباد : الأمر ما قلت لك ، فقال له حريث بن حجل : أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبّار عنيد؟ قال لهم : أنتم أولى بالضلال منه ، وما من ذاك بدّ.
    وقدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان يريد الحجّ فلمّا رأى الجمعين ، قال : ماهذا؟ قالوا : الشراة فحمل عليهم ، فاُخِذَ القعقاع أسيراً ، فَأُتي به أبو بلال ، فقال : ما أنت؟ قال : لست من أعدائك ، وأنّما قدمت للحج فجهلت وغررت ، فأطلقه ....
    فلم يزل القوم يجتلدون ، حتى جاء وقت الصّلاة يوم الجمعة ، فناداهم أبوبلال : يا قوم هذا وقت الصلاة ، فوادعونا حتى نصلّي و تصلّوا ، قالوا : لك ذاك ، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصّلاة ، فأسرع عباد ومن معه ، والحروريّة مبطئون ، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصّلاة وقاعد ، حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعاً ، وأتى برأس أبي بلال (1) .
    هذا أبو بلال وهذه مرونته واعتداله ، فعدّ الاباضية مبدأ الاعتدال ليس بقوي ، بل الحق أنّه مبدأ للطريق الذي سلكه عبدالله بن اباض ، ولأجل ذلك نرى
    1 ـ المبرد : الكامل 2/186. الطبري : التاريخ 4/232. ابن الاثير : الكامل 3/256.

(173)
لمّا خرج قريب وزحاف الطائي فاعترضا الناس فقتلا شيخاً ناسكاً إلى آخر مامرّ في خروجهم ، انّه لمّا بلغ أعمالهم أبا بلال اعترض عليهم ، فقال : قريب لا قرّبه الله ، وزحاف لا عَفا الله عنه ، ركباها عشواء مظلمة (يريد اعتراضهما الناس).

مخطّط زياد لاستئصال الخوارج :
    كان لزياد بن أبيه اُسلوباً في استئصال الخوارج وهو يتلخّص في أمرين :
    1 ـ إذا وقف على خارجي في قبيلة وثب على جميعهم ، وقد خطب يوماً وقال : ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم يا معشر الأزد لولا أنّكم أطفأتم هذه النائرة لقلت إنّكم أرّثتموها (1) . فكانت القبائل إذا أحسّت بخارجيّ فيهم شدّتهم وأتت بهم زياداً.
    2 ـ خرجت طائفة من الخوارج وأخرجوا معهم امرأة ، فظفربها فقتلها ، ثم عرّاها ، فلم تخرج النساء بعد على زياد ، وكنّ إذا دعين إلى الخروج قلن : لولا التعرية لسارعنا.
    كان الحافز لتلك الثورات والانتفاضات ـ التي كانت تتضمّن التضحية بالنفس والنفيس ـ هو الاعتقاد الجدّي ، بأنّ الحكومات القائمة ، حكومات كافرة ، اُسّست باسم الإسلام ولكن انحرفت عن الخط الصحيح له ، فالأمويّون باعتبار اشاعة الظلم و الفساد بينهم ، خرجوا عن ربقة الإسلام ، ودخلوا في الكفر ، وهم كافرون ، كما أنّ المؤيّدين لهم مثلهم أيضاً كفرة ، فالخلافات والحكومات كلّها كافرة ، والدار دار كفر ، ويجب عليهم جهاد الكفّار (2) .
    1 ـ أرّث : أوقد نار الفتنة.
    2 ـ يعلم ذلك من خطب أمرائهم ورؤسائهم.


(174)
    كان هذا هو الحافز لتلك الثورات والانتفاضات الفاشلة ، فلو وجدنا في صحيفة حياة الخوارج نقطة بيضاء فهذه النقطة المشعّة التي اعترف بها الإمام عليّ عند توصيفهم بقوله ، « لا تقتلوا الخوارج من بعدي ، فإنّه ليس من طلب الحق فأخطاه كمن طلب الباطل فأصابه » (1) .
    فإنّهم كانوا يرون باُمّ أعينهم ، كيف شاع الفساد ، ودبّ العيث بين الحكّام ، فركبت اغيلمة بني اُميّة على رقاب الناس ، واستأثروا بالفيء ، فكان ذلك هو السبب لقيام لفيف منهم ضدّ الحكومات ، وأما مسألة التحكيم التي كانت هي المستمسك الأوّل للمخالفة فكأنها صارت منسية أو تناساها القوم ، فكانوا يبّررون قيامهم بأنّهم بصدد بسط العدل والقسط وازالة الظلم والجور عن المجتمع وإعادة الصلاح والفلاح إلى الساحة الاسلامية.
    ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم ، لأنّهم راهنوا في الساحة السياسية على جوادين خاسرين.
    أحدهما : الاعتماد على الأساليب الاجرامية للنيل بالهدف ، وكأنّهم كانوا ينتحلون مبدأ « الغايات تبرّر الوسائل ».
    الثاني : المظاهرة بالعداء لعليّ وأهل بيته.
    أمّا الأوّل : فكانوا يستعرضون الناس ويفّتشون عن عقائدهم ، ثم يقتلون الأبرياء ، بحجّة أنّهم لم يكفّروا عثمان وعليّاً ، أو غيرهما ممّن كانوا يخالفونهم ، وهذا هو الذي صار سبباً لرغبة الناس عنهم ، وعدم ايوائهم بل طردهم والتعاون مع الحكومات ضدّهم في بعض الموارد ، إذ كيف يصحّ لمسلم أن يشهر سيفه ، ويعترض الطريق ، ويفّتش عن العقائد التي لاصلة لها بالإسلام الذي جاء به النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا الإسلام معقود بها ، ولا هي حد الكفر
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 61.

(175)
والإسلام ، فاتّخاذ هذه الأساليب الشريرة ، التي تعرّفت عليها في بعض الانتفاضات ، صار سبباً لخسرانهم وخيبتهم وإن كان بعض الفرق بريئاً منها ، لكن الكلّ أخذ بجرم الجزء ، والجار بذنب الجار.
    وقد خلّفت هذه الأعمال الاجرامية آثار سيّئة فصار لفظ « الحرورية » مساوياً لسفك الدم و قطع الطريق ، وكان الناس يتوسّلون للاخافة بهذا اللفظ ويقولون : حروري!! مكان الحرامي!!
    وأمّا الثاني : فلأنّ المظاهرة ضدّ عليَّ ، ونصب عدائه و أهل بيته ليس بأمرهيّن ، وكيف لا يكون كذلك ، وقد عجنت دماء ونفوس المسلمين بحبّهم فهم كانوا يتلون قول الله سبحانه في الذكر الحكيم : ( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ اَجراً إلاّ المَوَدَةَ في القُرْبى ) (1) . فهل يمكن لجماعة تتظاهر بكفر عليّ وأولاده ، وتنصب عدائهم ، ان يكون لهم رصيد شعبي؟ كلاّ ، ولا ، فلأجل ذلك خسروا في انتفاضاتهم ، حتى بوجه الطغاة.
    تعرب انتفاضاتهم عن أنّ الحكومة الأموية كانت تستخدم شيعة العراق في بعض الأحيان لقتال الخوارج ، فكأنّها كانت تضرب عصفورين بحجر واحد ، فإنّ الطائفتين كانا من أعداء الحكومة الأموية ، فضرب أحدهما بالاُخرى كان متنفّساً لها (2) .
    ومع الاعتراف ببراعتهم في النقد والاعتراض ، وتملّكهم القدرة على التنظيم و التخطيط ، لكن كانت انتفاضاتهم المتفرّقة والمبعثرة في الرقعة الإسلامية ، كانت أشبه بالثورات العشوائية ، إذ لم تكن هناك قيادة موحّدة تنبثق منها الثورات ، وتستثمر هذا الجمهور لتحقيق النصر النهائي ، فالحجر الأساس
    1 ـ الشورى : 23.
    2 ـ لا حظ خروج فروة بن نوفل في تاريخ الطبري 4/126.


(176)
في نجاح الثورة و الانتفاضة وإن طالت مدّتها ، هو وجود قيادة موحّدة سرّية ، ينبعث منها الأمر والنهي ، وقد كان القوم يفقدون ذلك الأمر المهمّ.
    هذه نبذة خاطفة عن انتفاضات هؤلاء في عصر معاوية ، وأمّا ما قاموا به في عصر عبدالله بن الزبير ، وخلافة عبدالملك ، وخلافة هشام بن عبدالملك ، إلى أواخر العهد الأموي ، فحدّث عنه ولاحرج ، فهي مليئة بالانتفاضات والمعارك الدموية المريرة بين فترة واُخرى ، ومن أراد الاحاطة بها فليرجع إلى مظانّها في كتب التاريخ.
    إلاّ أنّا نشير إلى بعض الانتفاضات التي قام بها بعض رؤسائهم بعد عصر معاوية كنافع بن الأزرق ونجدة بن عامر الحنفي ، وغيرهم ممّن صاروا من رؤساء المذهب ، وأصحاب المنهج بين الخوارج ، فإنّ هؤلاء وإن كانوا قادة عسكريين إلاّ أنّهم كانوا أيضاً مرشدين لأتباعهم ، ولهم آراؤهم في المذهب ، وندرس كلّ ذلك ببيان فرقهم الكثيرة في الفصل القادم. وبذلك بيّنا الظروف التي كانت سبباً لنشوء المذاهب في هذه الفرقة.

(177)
الفصل التاسع
ألقاب الخوارج وفرقهم


(178)

(179)
    للخوارج ألقاب عديدة فمن ألقابهم « الخوارج » لخروجهم على عليّ بن أبي طالب ، و « المحكِّمة » ، لكون شعارهم : « لا حكم إلاّ لله » ، و« الحرورية » لنزولهم بحروراء في أوّل أمرهم ، و« الشُراة » لقولهم : شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بِعْناها بالجنّة ، و« المارقة » لأنّهم مرقوا من الدين كما يَمْرق السهم من الرميّة ـ حسب توصيف الرسول لهم ـ وخرجوا منه ، والفرقة الباقية اليوم أعني الاباضية يفسّرون الخروج بالخروج عن الدين ويخصّون اللقب بالطوائف المنحرفة الذين خرجوا في عصر الأمويين ، وكانوا يعترضون الطريق ويقتلون الأبرياء من غير جرم وسيوافيك أنّ التخصيص بلاوجه.
    وأمّا فرقهم ، فقد ذكر البغدادي لهم عشرين فرقة ، بل أزيد ، وهذه أسماؤهم :
    1 ـ المحكّمة 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ الصفرية 5 ـ العجاردة ، المفترقة إلى : 6 ـ الخازنية 7 ـ الشعيبية 8 ـ المعلومية 9 ـ المجهولية 10 ـ أصحاب طاعة لايراد الله تعالى بها 11 ـ والصلتية 12 ـ الاخنبسية 13 ـ الشبيبية 14 ـ الشيبانية 15 ـ المعبدية 16 ـ الرّشيدية


(180)
    17 ـ المكرمية 18 ـ الحمزية 19 ـ الشمراخية 20 ـ الإبراهيمية 21 ـ الواقفية 22 ـ الاباضية (1) .
    ولا يخفى أنّ الفرق حسب ما ذكرها تزيد على عشرين ، ولو لم تعد العجاردة فرقة مستقلّة باعتبار أنّها مقسّمةً لأقسام كثيرة يكون عدد الفرق « 21 » فرقة.
    ثمّ قال البغدادي : « الاباضية » منهم افترقت فرقاً ، معظمها فريقان « حفصية » و« حارثية » ، وقال : فأمّا « اليزيدية » من الاباضية ، و« الميمونية » من العجاردة ، فهما فرقتان من غلاة الكفر الخارجين عن فرق الاُمّة.
    وأمّا الأشعري فقد ذكر لهم خمس عشرة فرقة ثم ذكر الفرق المتشعّبة منها وهي فرق كثيرة (2) .
    وقد ذكر المقريزي في خططه للقوم ستاً وعشرين فرقة (3) .
    وذكر الشهرستاني لهم ثمانية فرق ، وإليك أسماؤها :
    1 ـ المحكّمة الاُولى 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ البيهسية 5 ـ العجاردة 6 ـ الثعالبة 7 ـ الاباضية 8 ـ الصفرّية (4) .
    ولكن الحق ، إنّ اُصول الفرق قليلة جدّاً ، وقد ذكر الأشعري أنّ اُصول أربعة وهي : الأزارقة ، النجدية ، الاباضية ، والصفرية ، والأصناف الاُخرى تفرّعوا من الصفرية (5) .
    ويظهر من المبرّد في كامله ، أنّ اُصول الفرق هي ثلاثة :
    1 ـ البغدادي : الفّرق بين الفرق 72.
    2 ـ الأشعري : المقالات 1/86 ـ 131.
    3 ـ تقي الدين المقريزي : الخطط 2/254 ـ 255.
    4 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/114 ـ 138.
    5 ـ الأشعري : المقالات : 1 / 101.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس