بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 351 ـ 360
(351)
    فإن كان الدين إذا ظهر الناس بعضهم على بعض فقد سمعت الذي أصاب المشركون من يوم اُحُد ، وقد ظهر الذين قتلوا ابن عفان عليه وعلى شيعته يوم الدار (1) وظهر أيضاً عليّ ، على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (2) ، وظهر المختار على ابن زياد (3) ، وأصحابه وهم شيعتهم ، وظهر معصب الخبيث على المختار (4) وظهر ابن السجف على أخنس بن دلجة وأصحابه ، وظهر أهل الشام على أهل المدينة (5) ، وظهر ابن الزبير على أهل الشام بمكة يوم استفتحوا منها ما حرّم الله عليكم وهم شيعتكم.
    فإن كان هؤلاء على الدين فلايعتبر الدين من قبل الدولة ، فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ويعطي الله رجالا ملكاً في الدنيا ، فقد أعطى فرعون ملكاً وظهر في الأرض ، وقد أعطى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، وقد أعطى فرعون ما سمعت.
    ثمّ إنّما اشترى معاوية (6) الإمارة من الحسن بن علي ، ثمّ لم يف له بالذي
    1 ـ اقتحم الثوار على عثمان بن عفان داره ، بعد أن نشب القتال بينهم وبين من تصّدى للدفاع عنه وذلك في الثامن عشر من ذي الحجّة سنة 35 هـ وقتلوه وعرف ذلك اليوم بـ « يوم الدار ».
    2 ـ يشير إلى انتصار الإمام علي بن أبي طالب في وقعة الجمل ، التي دارت بينه و بين عائشة وطلحة والزبير وذلك في جمادى الآخرة سنة 36 هـ.
    3 ـ أرسل المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيدالله بن زياد عامل الأمويين. وسار إبراهيم بن الأشتر حين لقى ابن زياد ومن معه من أهل الشام على نهر الخازر(نهر بين اربيل و الموصل ويصب في دجلة) فدارت الدائرة على ابن زياد وقتل هووكثير من أهل الشام وحمل رأسه إلى المختار.
    4 ـ هزم المختار وقتل في الكوفة سنة 67 هـ في الحرب التي دارت بينه و بين مصعب بن الزبير.
    5 ـ حاضر مسلم بن عقبة المري ، المدينة المنورة ، من ناحية الحرة وفتحها وأباحها ، وذلك في أثناء حكم يزيد بن معاوية.
    6 ـ تعبير خاطئ والصحيح : تصالح الإمام مع معاوية بعد ما أتمّ الحجّة على الاُمّة.


(352)
عاهده عليه ، وقال : ( وُ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا اِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُم فِيهَ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .
    فلا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه ، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً (2) أترك للقسمة التي قسمها اللّه ، ولا لحكم حكمه الله ، ولاأسفك لدم حرام منه ، فلو لم يصب من الدماء إلاّ دم ابن سمية (3) لكان في ذلك ما يكفّره.
    ثمّ استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء ، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله وقال الله : ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ الله لا يَهدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (4) . فلم يخف عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس ، فاتّق الله يا عبدالملك ولاتخادع من نفسك في معاوية!! فقد بلغنا أنّ أهل البيت يطعنون على معاوية ويزيد وعملهما وما رأى من خبر معاوية من بعدهما ، فالذي طعنّا عليهما وعليه وفارقناه عليه ، فإنّ منهم فتنة كمن يكون يتولّى عثمان ومن بعده. فإنّا نشهد الله والملائكة أنّا منهم
    1 ـ النحل : 91 ـ 92.
    2 ـ كتب في المخطوطة : « شيئاً لأحد ».
    3 ـ يشير إلى ما عمله معاوية بن أبي سفيان في سنة 45 هـ حين ردّ اعتبار زياد بن سمية في نسبه فأحبّ أن يجعله أخاه وأتى بشهود شهدوا بأنّه ابن أبي سفيان ، وهذا ما يعبّر عنه بالاستلحاق. وأصبح زياد يعرف باسم زياد بن أبي سفيان بعد أن كان يعرف باسم زياد بن سمية أو زياد بن أبيه. وقد دفع معاوية إلى ذلك الاعتبارات السياسية ، ومنذ أن اعترف معاوية بن أبي سفيان بزياد أخاً له وابناً غير شرعي لأبيه ، تفانى زياد في خدمة البيت الأموي.
    4 ـ القصص : 50.


(353)
براء ولهم أعداء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه إذا متنا ، ونبعث عليه إذا بعثنا ، نحاسب بذلك عندالله.
    وكتبت إليّ تحذّرني الغلو في الدين ، وإنّي أعوذ بالله من الغلو في الدين ، وساُبيّن لك ماالغلو في الدين إذا جهلته ، فإنّه ما كان يقال على الله غير الحق ويعمل بغير كتابه الذي بيّن لنا وسنّة نبيه الذي بيّن لنا ، اتباعك قوماً قد ضلّوا وأضلّوا عن سواء السبيل. فذلك عثمان والأئمّة من بعدهم وأنت على طاعتهم وتجامعهم على معصية الله ، والله يقول : ( يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ ) (1) . فهذا سبيل أهل الغلو في الدين فليس من دعا إلى الله وإلى كتابه ورضى بحكمه ، وغضب لله حين عصي أمره ، وأخذ بحكمه حين ضيع وتركت سنّة نبيّه.
    وكتبت إليّ تعرض على الخوارج ، تزعم أنّهم يغلون في دينهم ويفارقون أهل الإسلام ، وتزعم أنّهم يتّبعون غير سبيل المؤمنين ، وإنّني اُبيّن لك سبليهم ، إنّهم أصحاب عثمان ، والذي أنكروا عليه ما أحدث من تغيير السنّة ، فارقوه حين أحدث وترك حكم الله ، وفارقوه حين عصى ربّه ، وهم أصحاب عليّ بن أبي طالب حين حكّم عمرو بن العاص (2) وترك حكم الله ، فأنكروه عليه وفارقوه فيه وأبوا أن يقرّوا لحكم البشر دون حكم كتاب الله ، فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة وأشدّ مفارقة. كانوا يتولّون في دينهم وسنّتهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وأبا بكر وعمر بن الخطاب ، ويدعون إلى سبيلهم ويرضون بسنّتهم على ذلك ، كانوا يخرجون وإليه يدعون وعليه يفارقون. وقد علم من عرفهم من الناس ورأى عملهم أنّهم كانوا أحسن الناس
    1 ـ النساء : 171.
    2 ـ لم يحكّم عمروبن العاص ، وإنّما حكّم القرآن كما تشهد على ذلك وثيقة التحيكم.فلاحظ.


(354)
عملا وأشدّ قتالا في سبيل الله. وقال الله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) (1) .
    فهذا خبر الخوارج ، نشهد الله والملائكة انّا لمن عاداهم أعداء وانّا لمن والاهم أولياء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، على ذلك نعيش ماعشنا ، ونموت على ذلك إذا متنا ، غير أنّا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس ، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا على الإسلام فيما ظهر لنا ، ولكنّهم ارتدّوا عنه وكفروا بعد إيمانهم (2) فنبرأ إلى الله منهم.
    أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك ، وأجتهد في النصيحة ، وإنّي اُبيّن لك إن كنت تعلم و أفضل ما كتبت إليك به ، وذكّرتني بالله أن اُبيّن لك فإنّي قد بيّنت لك بجهد نفسي ، وأخبرتك خبر الاُمّة ، وكان حقَّاً عليّ أن أنصح لك واُبيّن لك ما قد علمت. إنّ الله يقول : ( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ اُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَ أصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أنا التَّوَّابُ الرَّحيمُ ) (3) . فإنَّ الله لم يتَّخذني عبداً وأن أكفر بربّي ، ولااُخادع الناس بشيء ليس في نفسي ، واُخالف إلى ما أنهى عنه ، فأمري علانية غير سرّ ، أدعو إلى كتاب الله وليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ويرضوا بحكمه ويتوبوا إلى ربّهم ويراجعوا كتاب الله ، ولئن أدعوكم إلى كتاب الله ليحكم بيني وبينكم في الذي اختلفوا فيه ، ونحرّم ما حرّم الله ، ونحكم بما حكم الله ، ونبرأ ممّن برىء اللهُ منه ورسوله ، ونتولّى من يتولّاه الله ، ونطيع من أحلّ لنا طاعة في كتابه ، ونعصي
    1 ـ التوبة : 123.
    2 ـ يشيرهنا إلى تبرّئ الاباضية من نافع بن الأزرق والأزارقة وذلك لغلوّهم وتطرّفهم في الدين.
    3 ـ البقرة : 159 ـ 160.


(355)
من أمر الله بمعصيته. أن نطيعه فهذا الذي أدركنا عليه نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله وسلم ). وإنّ هذه الاُمّة لم تحرّم حراماً ولم تسفك دماءً إلاّ حين تركوا كتاب ربّهم الذي أمرهم أن يعتصموا به ، ويأمنوا عليه ، وانّهم لايزالون مفترقين مختلفين حتى يراجعوا كتاب الله وسنّة نبيّه ، وينتصحوا كتاب الله على أنفسهم ، ويحكّموه إلى ما اختلفوا فيه. فإنّ الله يقول : ( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيِه مِنْ شَيء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ أُنيبُ ) (1) . وإنّ هذا هو السبيل الواضح لايشبّه به شيء من السبل ، وهو الذي هدى الله به من كان قبلنا ، محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) والخليفتين الصالحين من بعده ، فلايضلّ من اتّبعه ولايهتدي من تركه ، وقال : ( وَ أَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوهُ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (2) . فاحذر أن تفرّق بك السبل عن سبيله ، ويزّين لك الضلالة باتّباعك هواك فيما جمعت إليه الرجال ، فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، إنّما هي الأهواء والدين. إنّما يتبع الناس في الدنيا والآخرة إمامين ، إمام هدى ، وإمام ضلالة. أمّا إمام الهدى فهو يحكم بما أنزل الله ويقسم بقسمه ويتبع كتاب الله ، وهم الذين قال الله : ( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (3) وهؤلاء أولياء المؤمنين الذين أمرالله بطاعتهم ، ونهى عن معصيتهم. وأمّا إمام الضلالة فهو الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقسم بغير ما قسم الله ، ويتبع هواه بغير سنّة من الله فذلك كفر كما سمّى الله ، ونهى عن طاعتهم وأمر بجهادهم ، وقال : ( فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَ جاهِدَهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيرا ) (4) .
    1 ـ الشورى : 10.
    2 ـ الأنعام : 153.
    3 ـ السجدة : 24.
    4 ـ الفرقان : 52.


(356)
فإنّه حقّ أنزله بالحق وينطق به ، وليس بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون. ولا يضربن الذكر عنك صفحاً ، ولاتشكّنّ في كتاب الله ، ولا حول ولاقوّة إلاّ بالله ، فإنّه من لم ينفعه كتاب الله ، لم ينفعه غيره.
    كتبت إليّ أن أكتب إليك بمرجوع كتابك ، فإنّي قد كتبت إليك ، وأنا اُذكّرك بالله العظيم إنّ استطعت بالله لمّا قرأت كتابي ثمّ تدبّر فيه وأنت فارغ ثم تدبّره ، فقد كتبت إليك بجواب كتابك وبيّنت لك ما علمت ونصحت لك. فإنّي اُذكّرك بالله العظيم لمّا قرأت كتابي وتدبّرته ، واكتب إليّ إن استطعت بجواب كتابي إذا كتبت إليك ، إنّما أتنازع فيه أنا وأنت ، انزع عليه بيّنة من كتاب الله اُصدّق فيه قولك ، فلاتعرض لي بالدنيا فإنّه لارغبة لي في الدنيا ، وليست من حاجتي ، ولكن لتكن نصحتك لي في الدين ، ولما بعد الموت ، فإنّ ذلك أفضل النصيحة ، فإنّ الله قادر أن يجمع بيننا وبينك على الطاعة ، فإنّه لاخير لمن لم يكن على طاعة الله. وبالله التوفيق وفيه الرضى ، والسلام عليه ، والحمد لله ، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله وسلّم تسليماً (1) .
    1 ـ السير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان 2/325 ـ 345 تحقيق الاُستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ، ط وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان ، والجواهر المنتقاة 156 ـ 162 ، وازالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء 86 ـ 101.

(357)
الفصل الثاني عشر
في عقائد فرق الخوارج ومخطّطاتهم في الحياة


(358)

(359)
    ظهرت الخوارج في الساحة الإسلامية بصورة تيار سياسي لايتبنّون إلاّ تطبيق الحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة في أمر البغاة(الشاميين) وكان الجميع يحملون شعار« لاحكم إلاّ لله » يريدون بذلك انّ حكم الله في حق البغاة هو القتال ، لاتحكيم الرجال ، ولم يكن لهم يومذاك منهج كلامي ، ولمّا قضى عليّ ( عليه السَّلام ) نحبه ، ركّز الخوارج جهدهم على مكافحة الحكّام الظالمين كمعاوية وآله ، ومروان بن الحكم وأولاده ، وقد حفظ التاريخ انتفاضاتهم في وجه خلفاء بني اُميّة وعمّالهم كما تعرّفت على لفيف منها.
    فلا عجب عندئذ إذا رأينا أنّ خارجياً يقتفي أصحاب الحديث في العقائد ، أو يتبنّى عقيدة المعتزلة في غير مورد من الاُصول وما هذا إلاّ لأنّ القوم في القرنين الأوّلين كانوا مقاتلين ، قبل أن يكونوا أصحاب فكر ، وكانوا ثوّاراً في وجه الحكومات ، قبل أن يكونوا فرقة دينية تتبنّى اُصولا عقائدية ، والامعان في المبدأ الذي اتّخذوه كحجر زاوية (تخطئة التحكيم) أو الاُسس التي تبنّوها في العهد الاموي ، أي بعد استيلاء معاوية على الحكم ، إلى عهد عبدالملك بن مروان (ت 75) إلى آخر الدولة المروانية (132 هـ) يعرب عن أنّ


(360)
القوم لم يكن لهم يوم ذاك فكر كلامي ولا فقهي ، وأنّ الغاية من تبنّي الاُسس المذكورة في هذا الفصل (تكفير مرتكبي الكبيرة وحرمة مناكحتهم ولزوم الخروج على الطغاة و ... ) إنّما هو تمهيد لأساليب توصلهم إلى القضاء على الخلفاء وحكّام الجور ، والاستيلاء على منصَّة الحكم. ولذلك لم يورثوا سوى الشغب والثورة والأخذ بزمام الحكم.
    نعم الفرقة الباقية منهم ـ كالاباضية ـ لمّا استشعروا أنّه لايصحّ بفريق سياسي أن يعيش بلا مبدأ كلامي أو فقهي ، تداولوا بعض الموضوعات الكلامية والفقهية بالبحث والتمحيص. ويبدو من خلال الرجوع إلى آثار تلك الفرقة أنّ أكثر ما يتبنّونه في مجال العقائد إنّما هو نتاج متأخّر لم يفكّر به مؤسّس الفرقة كعبدالله بن اباض ولاالتابعي الآخر كجابر بن زيد ، وأكثر ماورثوا من الأوّل شجاعته الروحية ، وصراحته في بيان الحقائق ، ومن الثاني أحاديث موقوفة ، نقلها جابر عن عدّة من الصحابة ، وأين هذا من منهج كلامي منسجم ، وفقه واسع يتكفّل بيان تكاليف العباد في الحياة في عامّة المجالات. وهذا يؤيّد أنّ الخوارج ـ ظهرت يوم ظهرت ـ كفرقة سياسية ثم آلت إلى فرقة دينية.
    ونحن نمّر في هذا الفصل على عقائدهم واُسسهم التي تعرّفت على سماتها والغايات المتوخّاة منها.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس