بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 361 ـ 370
(361)
1 ـ حكم التحكيم في حرب صفّين
    إنّ تخطئة التحكيم هو الحجر الأساس لقاطبة الخوارج ، وقد اتّخذوه شعاراً أيّام حياة الامام علي ( عليه السَّلام ) وبعده ، والخوارج كلّهم ، المتطرّف منهم و غيره ، أصفقوا على أنّ قبول التحكيم في حرب صفّين كان أمراً مخالفاً للكتاب ، وما كان لعلي ( عليه السَّلام ) أن يُحكِّم الرجال في موضوع ورد فيه حكم إلهي في مصدرين رئيسيين ـ أعني الكتاب والسنّة ـ ، وبما أنّا ألمحنا إلى الموضوع وأوضحنا حاله في الفصل الثالث تحت عنوان « تحليل لكارثة التحكيم » فنحيل القارئ الكريم إلى ذاك الفصل وقد ذكرنا هناك وجوهاً مختلفة يحتملها ذلك الشعار ، إلاّ أنّ الإمعان في كتب القوم يعرب عن أنّهم لايهدفون منه إلاّ احد الوجهين :


(362)
الف ـ تحكيم الرجال فيما نزل فيه حكم الله ، كفر (1) .
ب ـ لا إمرة إلاّ لله تبارك وتعالى.
    أمّا الأوّل فيشترك فيه جميع فرقهم ، وأمّا الثاني فإنّما يعود إلى بعض فرقهم كما سنذكر ، وبما أنّه اعتمد على الوجه الأوّل جميع مفكّريهم ومشايخهم ، وبالغ القوم في توضيحه وتنقيحه وتثبيته ، فنأتي في المقام ببعض نصوصهم ثمّ نقوم بتحليله حتى يتبيّن الحق بأجلى مظاهره.

التحكيم والتدخّل في موضوع له حكم سماوي :
    إنّ للكاتب المعاصر : علي يحيى معمّر ، مؤلف كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » بياناً مفصّلا حول الموضوع وقد بذل جهده في اثبات أنّ التحكيم كان تدخّلا في موضوع فيه حكم الله ، وهو مواصلة الحرب والقتال ومكافحة أهل البغي ، وأنّ ايقاف القتال وإدلاء الأمر إلى الحكمين كان مخالفاً للتشريع السماوي ، يقول :
    « بايع المسلمون علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين ، وكان أوّل من بايع طلحة بن عبيدالله ، والزبير بن العوام ، ولكن ماكادت تتّم البيعة ، حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة ، وقد استظهروا باُمّ المؤمنين عائشة ، ووقف الخليفة في وجه الثائرين موقفاً حازماً صلباً ، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين ذهب فيمن ذهب فيها
    1 ـ هذا هو الوجه الأوّل من بين الوجوه المذكورة في الفصل الثالث وَوَعدنا هناك القارىء أن نرجع إلى تفصيله وتحليله وما نذكره هنا إنجاز له.

(363)
طلحة والزبير ، ورجع بقيّة الثائرين إلى حظيرة الإمامة والاُمّة.
    لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة ، ويعود إلى البلاد الهدوء والاستقرار ، ويَعْرفَ معاوية أنّ الثورة فشلت ، وأنّه معزول عن ولاية الشام لامحالة ، حتّى أعلن الثورة في الشام و هو حينئذ عامل من عمّال الخليفة ، وأظهر أنّه يطالب بدم عثمان وقد استعدّ أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة كما أطفأ الثورة التي سبقتها و جهّز جيشه القوي وسار به نحو الشام حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف بـ « صفّين » ، وبدأت المعركة ثم استمرّ القتال حتى ظهرت طلائع النصر وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة ، ولم يبق للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلاّ لحظات عبّر عنها الأشتر « بفواق الناقة » ، إلتجأ الثائرون إلى الحيلة والخدعة ، ولجأوا إلى المكر والمكيدة ورفعوا المصاحف وهم يصيحون يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.
    طلب الثائرون هدنة ، ودعوا الخليفة الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين ، وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة ، وعرفوا القصد من هذه الهدنة ، ولكّنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم ، ويوالي حربه ضد الثائرين ، حتّى يتحققّ النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلقي البغاةُ أسلحتَهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ـ بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ـ استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة وأكثرهم موعود من معاوية أو من عمروبن العاص ، ورضى بالتحكيم وَ قَبِلَ الهدنة وأمر بايِقاف القتال في الحال.
    وهكذا انتهت هذه الثورة إلى هذا الموقف المائع الذي جعل حقّ عليّ في الخلافة ، يتساوى مع حقّ معاوية ، وجعل نصيب البغاة الثائرين من الثواب ، يساوي نصيب جيش الاُمّة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمّت بالشورى


(364)
وانعقدت بالبيعة.
    وتداعى الذين فطنوا إلى خدعة الهدنة من أصحاب عليّ وحذَّروه من قبولها ، وأخبروه أنّ قبولها يعني الشكّ في خلافته ، والتنازل عنها ، وكانوا مصرّين انّ الخلافة الشرعية حقّ لايتطرّق إليه الشكّ ، ولايجوز فيها الرجوع ولا تقبل فيها المساومة.
    وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه ، والماكرين من عدوّه ، وأن يشكّ في نفسه والحقّ الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ويساوي بينه و بين أحد عمّاله ، في قضية أخذ فيها عهداً من الاُمّة وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ، ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.
    حين فعل عليّ ذلك ، تداعى اُولئك الذين لم يرتضوا التحكيم وحذّروا عليّاً من قبوله ، وهم يرون أنّ معاوية باغ لاحقّ له ، وأنّ بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة ، وليس لأحد عليهم ميثاق ، تداعوا إلى أن يعتزلوا جيش عليّ ، وركنوا إلى موقع يسمّى حروراء ، فانعزلوا فيه ينتظرون تجدّد الحوادث ، واتّجاه الاُمّة في قضية الخلافة ، وقد جرت الاُمور بأسرع ممّا يتوقّع لها ، فما بلغ الموعد الذي حدّده الطرفان لانتهاء الهدنة ، حتى اجتمع الناس وأعلن أبو موسى الأشعري مندوب علي ، عزلَ عليّ عن الخلافة وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.
    كان هؤلاء المحايدون ينظرون إلى معاوية نظرتهم إلى باغ ، يحاول أن يفرض نفسه بالمكر والحيلة ، ولذلك فهم لايقيمون أيّ وزن لدعوى عزله ، فهو لم يتولّ أمر الخلافة إلى ذلك الحين ، لابالإكراه ، ولابالشورى ، فلامعنى لعزله من منصب ليس هو فيه ، كما لايقيمون أيّ وزن لتولية عمروبن العاص له ، لأنّ


(365)
عمراً لم يفوّضه المسلمون في تولية أميرالمؤمنين ، أمّا نظرتهم إلى علي فقد كانوا يتوقّعون أن يتّفق الحكمان على إقراره في الحكم ، وحينئذ ترجع إلى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها ، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحّدوا صفوفهم ، تحت طاعته ، ما قام فيهم بكتاب الله ، ولكنّ المندوب الذي اختاره علي ليمثّله في هذه القضية الظالمة ، أعلن أنّه عزل عليّاً عن أمر المسلمين ، وأنّ الأمر أصبح للشورى والاختيار ، وتأيّد موقف هؤلاء المحايدين وانضمّ إليهم عدد آخر ممّن كانوا يقفون إلى جانب عليّ حتى ذلك الحين ، وبحثوا الأمر فيما بينهم على أساس أنّ المسلمين أصبحوا دون خليفة.
    فهذا معاوية باغ ظالم لايمكن أن يتولّى أمر المسلمين ، وهذا عليّ عزله المندوب الذي اختاره للتحكيم ، واذن فليختاروا ، واختاروا عبدالله بن وهب الراسبي ، فبايعوه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب ، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم » (1) .

غيري جنى وأنا المعاقبُ فيكم! :
    لم أجد عنواناً يعرب عن مظلوميّة الإمام أمير المؤمنين في مسألة التحكيم الذي فرضه عليه الخوارج ، ثم جاءوا يطالبونه بالجريمة ، أحسن من هذا المصراع ، وبما أنّا فرضنا على أنفسنا في بدء الكتاب ألاّ نقضي على قوم بماكتبه غيرهم في حقّهم ، فقد نقلنا هذا الكلام بتفصيله والإمعان في أوّله وثناياه وآخره يدل على أنّ الكاتب أخذ موقفاً مسبقاً في مسألة التحكيم ، فأخذ من التاريخ فقرات متناثرة تلائم موقفه ، وترك كل ما يخالفه.وإليك تحليل ماذكره.
    1 ـ كان من واجبه ـ قبل كلّ شيء ـ التعريف بالذين فرضوا التحكيم على
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 21 ـ 34.

(366)
عليّ ( عليه السَّلام ) وأجبروه على قبوله ، فمن هم الذين أجبروه على التحكيم وعلى التنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، وبالتالي ساووا بينه وبين أحد عمّاله؟ فإنّ التعرّف عليهم أساس القضاء الحق فيما رسمه الكاتب وحررّه. الذين فرضوا التحكيم على علي ( عليه السَّلام ) لم يكونوا إلاّ رؤوس المحكّمة الاُولى الذين اتّخذهم الكاتب أئمّة وأولياء ، فإنّ الإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فوجىء بمجئ زهاء عشرين ألفاً ، مقنّعين في الحديد ، شاكين سيوفَهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ ، فنادون باسمه ، لابإمرة المؤمنين ، وقالوا : يا عليّ أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيِتَ ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم ، فقال الإمام لهم : ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولايَسَعُني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا إليه فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكّني قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون (1) .
    إنّ حرقوص بن زهير السعدي الذي يُعدّ من الطبقة العليا للمحكّمة الاُولى وكان مرشَّحاً للبيعة في بيت عبدالله بن وهب الراسبي قبله ، كان من المصرّين على قبول التحكيم ، لكنّه رجع عن رأيه وتاب عن كفره بزعمه ، ولمّا دخل على عليّ ( عليه السَّلام ) ومعه زرعة بن برج الطائي ، فقال له : اُخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم ، فعاتبه الإمام وقال : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كُتِبَ بيننا وبينهم كتاب ... (2) .
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 560 ـ 564 وغيرها.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/53.


(367)
    وقد وصل اصرار القوم إلى حدّ هدّدوا حياة الإمام بأنّهم يقضون عليها كما قضوا على حياة عثمان ، فلم يجد الإمام بُدّاً من قبول التحكيم ، وقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ فرضوا التحكيم على الإمام أوّلا ، ثمّ فرضوا عليه صيغة الحكم ، ولم يرضوا بمن كان هوى علي ( عليه السَّلام ) معه ، وقد كان الإمام يصرّ على بعث عبدالله بن عباس أو الأشتر ، ولكنّهم ما رضوا إلاّ بأبي موسى الأشعري الذي كان يَكنّ عداء عليّ في خُلْده لمّا عزله من ولايته.
    أبعد هذا يصحّ للكاتب أن يقول« ولكنّه ـ الإمام ـ بدلَ أن يقف موقفه الحازم ويوالي حربه ضد الثائرين حتى يتحقّق النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلْقي البغاةُ أسلحتهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة ... بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ، استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصحية طلاّب الخدعة ... ».
    إنّ رؤوس الخوارج هم الذين كانوا يشكِّلون دعاة الهزيمة ، وطلاّب الخدعة ، فلوكان التحكيم جناية فهم أولى بأن يجتنوا ثماره ، ويحملوا أوزاره ، لا الإمام الذي أعطى لهم نصحة الخالص ، ونبّههم على أنّها خديعة ، ظاهره الصلاح وباطنه الفساد و ... أو ليس عاراً على جماعة ، فرضوا على إمامهم التحكيم ، وإدلاءالأمر إلى الحكمين وكتابة ميثاق بين الطرفين ، أن يجيئوا شاهرين سيوفهم ، يطلبون منه نقض الميثاق ورفض العهد الذي كان عنه مسؤولا ، وكأنَّ الخلافة آلة طّيعة بأيديهم يلعبون بها كيف شاءوا.
    هؤلاء لم يقدّروا عليّاً ، ولاعرفوا مكانته وصموده في طريق العهد والميثاق ، فما دام الحكمان لم يخرجا عن الطريق المستقيم ، لاينقضُ قوله وعهده ، وإن بلغ ما بلغ ، وإن شهرت الخوارج سيوفهم عليه وعلى الخُلَّص من جيشه.
    2 ـ إنّ عليّاً لم يستجب لدعاة الهزيمة ولم يأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ،


(368)
إلا بعد ما تحقّق عجزه عن القيام بمواصلة الحرب ، وتطبيق حكم الله على البغاة ـ أعني معاوية وأتباعه ـ ... لاشكّ انّ حكم الله في حق البغاة هو قتالهم إلى أن يرجعوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ، إلاّ أنّ التكليف فرع القدرة وهي فرع طاعة الجيش لرأي قائده الحازم الباسل ، الذي عرفه التاريخ بالبطولة والبسالة والصمود والوقوف في وجه الظالمين ، ولكن يا للأسف انّ أغلبية الجيش انخَدَعُوا بخدعة معاوية ، وأخذوا بمخالفته على حسب ما عرفت ، وعندئذ لاتثريب على الإمام أن يُسلِّم الأمر إلى الحكمين ويقف عن القتال قائلا : ( لاَيُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وسْعَهَا ) ، ( ولايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ ما آتاها ) ويقول : « لقد كنت أمس أميراً ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت أمس ناهياً ، فأصبحت اليوم منهيّاً » (1) .
    إنّ بعض الكُتّاب الجدد من الاباضية يصرّح بأنّ عليّاً قَبِلَ التحكيم مضطرّاً ويقول : « إنّ هذه الخدعة لم تكن لتجوز على علي بن أبي طالب ، وقد أدركها وأدرك حقيقة ماوراءها من الوهلة الاُولى ، وأعلن على الفور رفضه لها وعدم قبوله للتحكيم. إنّ علي بن أبي طالب إنّما قبل التحكيم مضطرّاً ورضي به مكرهاً ازاء ضغط من ضعف أفراد جماعته ، ومن نهضوا بينهم يدعون إلى قبول التحكيم ، وانّ الدعوة التي دعا بها معاوية أحدثت أثرها في خداع الجند ، كما أنّها كانت نكأة لبعض من ضعفت أنفسهم للجهر بها والدعوة إلى الكفّ عن القتال ، وازاء ذلك كلّه لم يكن في وسع عليّ إلاّ أن يرضى بالتحكيم وإن لم يقتنع به ولم تخف نتائجه » (2) .
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الخطب ، الخطبة 208.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 100.


(369)
    وقال علي يحيى معمّر :
    « كان التحكيم خدعة سياسية يراد بها تفريغ جيش أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) وانّه أولّ من أوائل من تفطّنوا للمكيدة ، ولم يقبل التحكيم إلاّ مكرهاً ، وأنّه أنكره بشدّة وأبان لجيشه ـ الذي عمل فيه الطابور الخامس عمله ـ عواقب تلك المكيدة وأنّه لم يقبل التحكيم إلاّ مضطرّاً عندما وجد جيشه معرّضاً للتفرّق والتمزّق وربّما للتناحر ، وكان على رأي الامام علي ( عليه السَّلام ) وعلى رأي أصحابه في اعتبار التحكيم مكيدة لاينبغي قبولها ، أكثر أئمة المسلمين منهم الإمامان العظيمان الحسن البصري ومالك بن أنس حسب ما أورده المبّرد في كامله وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بل أستطيع أن أزعم أنّنا اليوم وفي هذا العصرـ وقد مضى على تلك الأحداث ثلاثة عشر قرناً ونصف ـ عندما نقرأ أخبارها نشعر بالأسف والحسرة ، لأنّ تلك الخدعة الجريئة قد انطلت على أكثرّية جيش عليّ حتى اضطرّ للاستجابة لها ، رغم معرفته القصد منها وتقديره لنتائجها وعلمه علم اليقين أنّ القصد من تلك العملية لم يكن مراعاة للمصلحة العامّة ولانظراً لخير الاُمّة ، ولاتحكّماً للكتاب في شيء جهل فيه حكم الكتاب » (1) .
    وقال أيضاً : « واختلف أصحاب علي اختلافاً شديداً بين موافق على الطلب ، ومعارض له ، واضطرّ الإمام إلى الموافقة نزولا عند رأي الأغلبية وإن كان رأيه هو خلاف ذلك » (2) .
    نحن نسأل الكاتبين عن مسألة التحكيم المفروض على عليّ من جانب جيشه ، فقد اعترفا بأنّ الإمام قبله بعدما عرفه ، دفعاً للتفرقة والتخرّق ، بل
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/190 ـ 191.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/166.


(370)
للتناحر وانّه لولا قبوله لثاروا على الإمام وقضوا على حياته ، وعندئذ يصبح ابن أبي سفيان مالكاً لأزمّة الاُمور ومتسنّماً على عرش الخلافة من دون منازع ، ويصير الطريق لبسط سلطته وسيطرته مُعَبَّداً ومذلّلا بأيدي خصمائه وأعدائه ـ أعني الّذين قبلوا التحكيم وفرضوه على إمامه ـ.
    وأين ذلك الفرض من فرض قبول التحكيم حتى يرجع الطرفان إلى كتاب الله فيما اختلفا فيه .... وإن كان حكم الكتاب في ذلك واضحاً ـ والخصم وأنصاره الأغبياء كانوا يتخيّلون أنّهم جاهلون بحكمه فيجب أن يرجع إليه بحكمين من الطرفين.
    فإذا كان هذا موقف عليّ والمسلمين فلم يكن بُدّ من قبول التحكيم دفعاً للأفسد بالفاسد وهو ليس شيئاً خفيّاً على الكاتبين ، وعند ذلك فلماذا يؤاخذان عليّاً بقبول التحكيم وعدّه ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار.
    إذا كان قبول التحكيم عن اكراه واضطرار ، وقد قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيِمٌ ) (1) أفيصحّ للمغفّلين الّذين انتبهوا عن غفلتهم ، وضيّعوا الفرص الذهبيّة للقضاء على الطغمة الأموية ، أن يصرّوا على عليّ بالتوبة والاستغفار وإلاّ فبالانعزال والخروج عن تحت رايته بعد ما أخبر سبحانه أنّه غفور رحيم لكلّ مضطّر ارتكب عملا لاعادياً ولاباغياً؟
    أفيصحّ لهؤلاء وفي رأسهم المحكِّمة الاُولى الذين كانوا أداة طيّعة ـ بلاوعي ـ بيد رأس الطابور الخامس الأشعث بن قيس ، أن يحتفلوا في الكوفة ويختاروا لأنفسهم أميراً وخليفة ، ويتّهموا عليّاً بأنّه عزل نفسه عن الخلافة ، ثمّ يخرجوا عن الكوفة وينزلوا ضفة النهر مُرْهبين ومرعبين ونار الفتنة بعد لم تطفأ والعدّو الغاشم ـ معاوية بن أبي سفيان ـ على اُهْبَة الهجوم وبسط السيطرة
    1 ـ الأنعام : 145.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس