بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 371 ـ 380
(371)
والقضاء على الخلافة الشرعية.
    إنّ النصوص التاريخية تضافرت على أنّ عليّاً أتمّ عليهم الحجّة قبل نشوب نار الحرب ، وقد كان رؤساء المحكّمة أعني عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي ومن في رتبتهما من المحكّمة ، يسمعون كلام عليّ وهو يخاطبهم بأنّهم هم الذين فرضوا على عليّ التحكيم ، فلمّا ندموا طلبوا منه نقض العهد والميثاق المحرّم بنص الذكر الحكيم ، وقد ذكرنا نص علي عند عرض التاريخ.
    يقول صالح بن أحمد الصوافي : إنّ علي بن أبي طالب قد مضى بنفسه إلى اُولئك الخارجين عنه وقال لهم : من زعيمكم؟! قالوا : ابن الكواء. قال علي : فما أخرجكم عنّا؟ قال : حكومتكم يوم صفّين. قال : أنشدكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إنّي صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال. اُمْضُوا على حقّكم وصدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدة ، فرددّتم عَلَيّ ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ، فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن ، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم به بما في القرآن. وإن أبيا فنحن من حكمهما براء ، قالوا له : فخبرنا ، أتراه عدلا تحكيم الرجل في الدماء؟ .... فقال : إنّا لم نُحكِّم الرجال ، إنّما حكَّمنا القرآن ، وهذا القرآن هو خط مسطور بين دفّتين لاينطق ، إنّما يتكلّم به الرجل ... قالوا : فخبرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال : ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعلّ الله ـ عزّوجلّ ـ يصلح في هذه الهدنة هذه الاُمّة ... ادخلوا مصركم ، رحمكم الله ...


(372)
    قالوا : صدقت ، قد كنّا كما ذكرت ... وفعلنا ما وصفت ، ولكن ذلك كان منّا خلاف القرآن ، فقد تبنا إلى الله عزّوجلّ منه ، فتب كما تبنا ، نبايعك ، وإلاّ فنحن مخالفين. فقال علي : ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى يجيء المال ، ويسمن الكراع ، ثمّ نخرج إلى عدوّنا ولسنا نأخذ بقولهم وقد كذبوا ... (1) .
    فهذا الكلام سواء اُلقي في الحروراء أو في ضفة النهر يعرب عن أنّ الأكثرية السّاحقة من الخارجين عن طاعة علي ـ لولا كلّهم ـ كانوا هم الذين فرضوا التحكيم على عليّ ( عليه السَّلام ) وألجأوه إلى الرضوخ لمكيدتهم ، فماذا يطلبون من عليّ بعد ذلك؟
    3 ـ إنّ ابن أبي سفيان قام لأجل أخذ الثأر من قتلة عثمان ولم يبايع عليّاً بحجّة أنّه كان يحمي الخارجين على عثمان ، والثائرين عليه ، وكان الإمام يصّر عليه أن يدخل أوّلا فيما دخل فيه المسلمون ، ثم يعرض المسألة عليه (2) وبما أنّ معاوية اتّخذ جانباً سلبيّاً في هذا الموضع ، قام الإمام بتأديب الباغي ، وارجاعه إلى صفوف المسلمين وانتهى الأمر إلى نشوب الحرب بين الطرفين ، ولجوء معاوية إلى الخدعة والمكر ، وتحكيم الرجلين في الموضوع الذي اختلف فيه الفريقان ، فلم تكن الغاية من اتفاقية الصلح إلاّ تحكيم الكتاب في الموضوع الذي تنازع فيه الطرفان ، وأمّا عزل الإمام عن الخلافة ونصب معاوية مكانه فلم يكن في صلاحية الحكمين وإنّما دخلا في موضوع لم يُفَوَّض إليهما أمره. فرأيهما فيها بالعزل والنصب رأي ساقط.
    4 ـ إنّ الإمام لمّا رأى لجاج العدو وعناده في صياغة اتفاقية الصلح حيث لم يرض به إلاّ بمحو لقب إمرة المؤمنين عن جنب اسمه ، رضى بذلك اقتداءً
    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 110 ـ 111.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم 64.


(373)
بالنبيّ الأكرم في صلح الحديبية حيث رضى أن يكتب اسمه ويمحى لفظ رسول الله ، ولم يسمع لقول الأحنف حيث قال : « لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لاتمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها » (1) ولكنّه ( عليه السَّلام ) لم يَرَ بدّاً من القبول ورضى بالمحو تحت ضعظ الأشعث والمنخدعين من جيشه ، والمقنّعين في الحديد.
    وبذلك تقف على قيمة قوله : « وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة في جيشه ، والماكرين من عدوّه أن يشكّ في نفسه ، والحق الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ليساوى بينه وبين أحد عمّاله في قضيّة أخذ فيها عهداً من الاُمّة ، وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله ».
    إن فرض التحكيم على علي وقبوله ومحو لقبه ، تحت ضغط قسم كبير من جيشه ، لايعني شكّه في نفسه والحق الذي بيده ، والتنازل الاختياري عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، بل يعني فسح المجال للتفكّر والتدبر فيما كان يدّعيه معاوية على الإمام من تقدّم أخذ الثأر على البيعة ، حتى يقضيا الحكمان فيه برأي بات ، ولو دلّ محو اللقب على الشك في الإمرة ، فهل يظنّ الكاتب أنّ رسول الله شكّ في رسالته عندما رضى بمحو لقبه عن جنب اسمه؟ نعم توّهم ذلك بعض أصحابه وتصوّر أنّ ذلك يساوي اعطاء الدنية في أمر الدين (2) ولكن رسول الله استقبل الحادث بصدر رحب ، وقبل الصلح على النحو الذي كان المشركون يطلوبونه ، وقد أثبت مرور الزمان صواب رأيه في الصلح ، وأنّه كان
    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين : 582.
    2 ـ لاحظ السيرة النبوية لابن هشام 3/331.


(374)
لصالح المسلمين كما هو المحقّق في السيرة النبوية.
    والحاصل : لم يكن قبول التحكيم والموافقة على الهدنة لغاية عزل الإمام نفسه عن الخلافة وإدلاء الأمر إلى الحكمين حتى يُخْتار للاُمّة الإسلامية خليفة بل كانت الغاية من قبوله هو فسح المجال للحكمين حتّى يقضوا في ضوء الكتاب والسنّة في حقّ الباغي الوارد في الكتاب العزير (1) وفيما يدّعيه ابن أبي سفيان في حقّ علي ، حيث كان يقول لايبايع الاّ بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان كما صرّح به في بعض رسائله إلى الإمام ، يقول الإمام :
    « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريد فإنّها خدعة الصبي عن اللبن في أوّل الفصال ».
    وقد جاء في رسالة معاوية إلى الإمام قوله : « وادفع إليّ قتلة عثمان ، فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك والمحدقون بك » (2) .
    فإنّ ابن أبي سفيان كان يطلب في الظاهر قتلة عثمان ، ولكنّه في الباطن كان يمهدّ الطريق إلى الخلافة ، وربّما كان قانعاً لأن يقرّه الإمام على الشام (3) .
    وبذلك ظهر بطلان قوله : « إنّ بيعة الإمام قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم يبق لأحد في عنقه بيعته » فإنّه تفسير لموقف الإمام بما يتجاوب هوى الكاتب ، فإنّ الإمام لم يخلع نفسه عن الخلافة أبداً ولا تردّد في كونه الخليفة الشرعي والقانوني للاُمّة ، ولو صحّ ما ذكره الكاتب وأنّ الإمام خلع نفسه عن الخلافة بمرأى ومسمع من جيشه وجيش عدوّه ، لما
    1 ـ الحجرات : 9.
    2 ـ ابن أبي الحديد ، شرح النهج 17 / 253.
    3 ـ المصدر نفسه ، ومرّ تفصيله.


(375)
قام أبو موسى بخلعه عن الخلافة ، إذ لامعنى لخلع المخلوع لاسيمّا من خلع نفسه واعترف به.
    ولو كان قبول التحكيم ملازماً للخلع عن الإمامة فلماذا كتب الإمام ـ عندما وصل إليه نبأ الحكمين وخيانتهما في مورد الوكالة ـ إلى زعماء الخوارج : زيد بن حصين وعبد الله بن وهب الراسبي ومن معهما من الناس وقال : أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما ، قد خالفا كتاب الله واتّبعا هواهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنّة ولم يُنفَّذا للقرآن حكماً ، فبرأ الله ورسوله منهما والمؤمنون ، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا فإنّا صائرون إلى عدوّنا و عدوّكم ، ونحن على الأمر الّذي كنّا عليه (1) .
    الحقّ إنّ من قرأ تاريخ مأساة التحكيم يقف على مدى الضغط الوارد عليه من جانب أصدقائه الحمقاء ، ثم يرجع ويترحّم على الإمام ويبكي عليه ببكاء عال ويقول : « رحم الله الإمام عاش بين عدوّ غادر ، وصديق انوك ».
    5 ـ والعجب العجاب أن يصبح عبدالله بن وهب الراسبي الخليفة الشرعي والقانوني للمسلمين فيجب على الاُمّة في جميع الأقطار و الأصقاع ، إطاعة أمره ، بحجة أن نفراً من الخوارج اجتمعوا في منزله فبايعوه ، ولعلّ عدد المبايعين لا يتجاوز عن عدد الأصابع أو يزيد بقليل (2) .
    إنّ البيعة الشرعيّة وانعقاد الإمامة لواحد من المسلمين رهن شروط وصلاحيات ، ذكرها المعنّيون من علماء علم الكلام في كتبهم ، ولم يذكر أحد أنّه إذا بايع عدّة من المسلمين شخصاً في صقع من الأصقاع يجب على عامّتهم الاعتراف بإمامته وخلافته.
    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 57.
    2 ـ نفس المصدر.


(376)
    إنّ معنى ذلك انّه يجوز لاّحاد من المسلمين في البدو والقرى ، أن يختاروا رجلاً فيبايعوه على الخلافة وإن كان المبايعون بُعَداء عن العاصمة الإسلامية الّتي فيها أهل الحل و العقد.
    لو صحّ أنّ الإمام خلع نفسه ـ ولن يصحّ حتى ولو صحّت الأحلام ـ فالواجب على المسلمين طرح الخلافة في شورى إسلامية عالميّة تضمّ إليها أكابر العلماء والفقهاء ، وأهل الحل و العقد من المهاجرين والأنصار ، و من اتّبعهما بإحسان ، حتى يختاروا لأنفسهم إماماً ، لاطرحها في بيت مسدود ليس فيه إلاّ اُناس خرجوا على إمامهم الّذي تمّت البيعة له في مثل تلك الشورى ، لأنّ تصحيح ذلك بمعنى تصحيح الفوضى في صفوف المسلمين ، وشقّ عصاهم ، وفصم عراهم ، وغير ذلك ممّا لايخفى على القارئ الكريم بطلانه.
    6 ـ والعجب انّ الكاتب نقض ما كتبه هنا بما ذكره في الحلقة الثالثة من ذلك الكتاب ، فإذا وصف الإمام في المقام ، بأنّه استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ، فقد صرّح في المقام الآخر بأنّ الإمام « عرف أنّها احدى المكائد الّتي تفطّن إليها ذهن عمرو بن العاص ، وأصرَّ هو و أصحابه على الجهاد ، وكان الإمام والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية » وإن كنت في شكٍّ ممّا نقلناه عنه فاقرأ نصّه :
    خالف معاوية بن أبي سفيان اجماع الاُمّة و أشعل نار الفتنة وجهّز جيشاً لمحاربة الخليفة الشرعي الّذي اختاره المسلمون ، و قابله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بما يقابل به خليفة شرعي فئة باغية ، فجهّز جيشاً من أبطال الإسلام وقاده بنفسه ، و التقى الجيشان في صفّين ، وابتدأ القتال وعرف معاوية أنّه إذا لم يكن يلجأ إلى الحيلة فإنّه سوف يخسر القضية في


(377)
أقرب ممّا يتوقّع ، ومهّد لذلك بتكوين طابور خامس في جيش علي ثم دعا إلى التحكيم.
    وعرف علي وعرف أصحابه مقصد معاوية من التحكيم ، وأنّها احدى المكائد الّتي تفتق عنها ذهن عمرو بن العاص ، ولذلك قال علي : إنّما قاتلناهم بكتاب الله ، وأصرّ هو و أصحابه على الجهاد ، ولكن الطابور الخامس الّذي كان يقوده أكبر صنايع معاوية : الأشعث بن قيس ، كان قد عمل في الجيش ، ومالت الأغلبية إلى قبول التحكيم ، وحينما كان علي والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية الّتي لجأ إليها الفريق الباغي ، لخّص أحد أصحابه موقفهم هذا في هذه الكلمة المشهورة « لاحكم إلاّ لله » وكانوا يصيحون بها في جوانب الجيش و يرددها أنصار علي في كل موقف وكان علي يستمع إليها راضياً بها وهو يناقش الناس ويدعوهم إلى التمسّك بمضمون هذه الكلمة وعدم الانخداع بحيل معاوية لأنّ قضيتهم واضحة وقد حكم فيها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات ...
    وشاءت إرادة المولى سبحانه وتعالى ـ لحكمة يعلمها ـ أن لاتستجيب الإغلبية لعلي وأن تميل أكثريّة الجيش إلى دعاة الهزيمة ، وأن يتغلّب الأشعث ابن قيس صنيعة معاوية على المناضلين من أجل الحق ، فيجد الإمام نفسه مضطرّاً إلى التخلّي ، وترك الصفوة من أصحابه ليحافظ على الأغلبية ويسير معها ، فرضى بالتحكيم مرغماً ، وإذا هذه اللحظة الّتي رضى علي فيها بالتحكيم ، وموافقة الأغلبية ، كانت كلمة « لاحكم إلاّلله » تعبيراً عن موقفه و شعاراً لمبدئه بل انها تعبير وشعار لكّل مؤمن يحكّم كتاب الله فيما شجر بينه خلاف وبين


(378)
الناس (1) .
    7 ـ إنّ التعبير عن الخروج على الإمام المفترض طاعته بـ « الخلافة » ، كما أنّ التعبير عن التمرّد والشغب بـ« تشكيل الدولة » مصادرة على المطلوب والمشي على الدعوى المسبقة بلا برهان ، فيطيب لي أن أذكر نصّ الكاتب الّذي يصوَّر أنَّه كان للخوارج دولة بعد رفض التحكيم. قال :
    « أصبحت الاُمّة الإسلامية منقسمة إلى ثلاث دول : دولة أسّسها معاوية وإن لم يبايعه عليها أحد إلى ذلك الحين ، ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين ، عاد فاستمسك بالبيعة الاُولى (2) دون أن يعترف بعزل أبي موسى الأشعري له مندوبه في قضيّة التحكيم ، و دولة يرأسها عبد الله بن وهب الراسبي بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي ، عند قبول التحكيم ، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة ، ومع كلّ فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة وفيهم بعض المشهود لهم بالجنّة.
    على أنّ هناك فريقاً رابعاً اعتزلوا هذا النقاش الّذي وقع بين المسلمين وبعدوا عن قضية الخلافة فلم يطلبوها لأنفسهم ، ولم يؤيّدوا واحداً من طالبيها ، و من هذا الفريق السادة سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر ، و محمّد بن مسلمة الأنصاري واُسامة بن زيد » (3) .
    إنّ الكاتب ادّعى لابن وهب مقاماً ليس له أثر في التاريخ ولا في كلمات الخوارج حتى في نفس المجلس الّذي بايعوه ، فإنّ البيعة لم تكن إلاّ لأن يكون
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثالثة : 283 ـ 283.
    2 ـ فأي معنى للاستمساك بالبيعة الاُولى إذا خلع نفسه بمرأى ومنظر من الناس ياترى ، أو ليس هذا دليلاً على أنّ الإمام لم يخلع نفسه في وجدان الكاتب؟
    3 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الأولى : 24.


(379)
الرجل أميراً للجهاد وقائداً عسكرياً في القتال لاخليفة شرعية يملأ الفراغ الحاصل من العزل المزعوم ، والشاهد على ذلك انّ حمزة بن سنان الأسدي أوّل من اقترح هذه الفكرة وقال : « فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها ... ».
    ولمّا قبلها عبد الله بن وهب ، قال : أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت (1) .
    8 ـ لم يكن محاربة الإمام للخوارج وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي إلاّ لأجل أعمالهم إلارهابيّة الّتي بلغت الإمام ، فقال بعض المخلصين له : على ما ندع هؤلاء يخلّفوننا في أموالنا و عيالنا؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام ، فقبل علي ، فنادى بالرحيل.
    كان من المظنون جداً أن يقوم عبد الله بن وهب الراسبي بسبي النساء وقتل الذراري ، إذا رأوا أنّ العاصمة الإسلامية (الكوفة) خالية من زعيمها وجيشها خصوصاً انّ علياً و مواليه كانوا عندهم مشركين كافرين تحلّ أموالهم وتجوز إراقة دمائهم وسبي نسائهم ، فلأجل ذلك قلع الإمام عين الفتنة قبل أن يبادر بمحاربة عدوّ الله في الشام.
    كلّ ذلك يدلّ على بطلان قول الكاتب « بعد أن جمع الإمام علي جيشه ومن بقي تحت طاعته من الجند ، فكّر في اعادة الكّرة على معاوية واخماد ثورته ومحاولة اخضاعه من جديد ، ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبدالله ابن وهب الراسبي هذا الخليفة الجديد الّذي وصل إلى منصب الخلافة عن طريق البيعة ، وهو الطريق الشرعي للخلافة. واقتنع علي بصواب هذا الرأي و عدل عن محاربة معاوية إلى محاربة عبد الله بن وهب ، وكان أتباع عبدالله
    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 55.

(380)
يعتقدون أنّ إمامهم هو الإمام الحق وانّ كّلاً من علي ـ بعد التحكيم والعزل ـ ومعاوية ، ثائران يجب عليهما الرجوع إلى حظيرة الإمامة » (1) .

9 ـ روايات شاذة في أمر التحكيم :
    الف ـ اعتمد الدكتور صالح الصوافي في تحليله مسألة التحكيم على رواية شاذّة ذكرها ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء وقال : « لمّا لم يبق إلاّ الكتاب ، قال الأحنف بن قيس لعلي : يا أمير المؤمنين انّ أبا موسى رجل يماني وقومه مع معاوية فابعثني معه فو الله لا يُحِلّ لك عقدة إلاّعقدت لك أشدّ منها ، فإن قلت انّي لست من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فابعث ابن عباس وابعثني معه ، فقال علي : إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا : ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه والله بالغ أمره » (2) .
    إنّ هذه الرواية شاذّة غير معروفة وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ عليّاً كان يصرّ على بعث ابن عباس أو الاشتر و لم يكن له أيّ هوى مع أبي موسى الأشعري ، لما كان يستشف منه أنّ هواه مع غيره وكيف لا وهو الّذي خذل الناس عن مساعدة الإمام القائم يوم كان واليا على الكوفة ، وتقاعد عن نصرته ، ولم ينفّر الناس إلى ساحة قتال الناكثين بل دعاهم إلى البقاء في منازلهم بحجّة أنّها فتنة ، القاعد فيها خير من القائم (3) .
    كيف يعتمد على تلك الرواية الشاذّة مع أنّ ابن قتيبة ، نقل خلافها في موضع آخر عند البحث عن ظهور المحكّمة ، ونقلها الدكتور أيضاً في كتابه ،
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى : 24 ـ 25.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 99 نقلاً عن الإمامة والسياسة : 114.
    3 ـ الطبري : التاريخ 3 / 497.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس