المتعة ::: 16 ـ 30
(16)
    الاستدلال بالسنة
    وأمّا السنّة ، أكتفي من السنّة فعلاً بقراءة رواية فقط ، وهذه الرواية في الصحيحين ، هي :
    عن عبدالله بن مسعود قال : كنّا نغزوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ! فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبدالله [ لاحظوا هذه الاية التي قرأها عبدالله بن مسعود في ذيل هذا الكلام ] : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1) وكان له قصد في قراءة هذه الاية بالخصوص في آخر كلامه.
    هذا الحديث في كتاب النكاح من البخاري ، وفي سورة المائدة أيضاً ، وفي كتاب النكاح من صحيح مسلم ، وفي مسند أحمد (2).

    الاستدلال بالاجماع
    وأمّا الاجماع ، فلا خلاف بين المسلمين في كون المتعة
1 ـ سورة المائدة : 87.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل 1/420.


(17)
نكاحاً ، نصّ على ذلك القرطبي في تفسيره وذكر طائفة من أحكامها حيث قال بنصّ العبارة : لم يختلف العلماء من السلف والخلف أنّ المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه ، والفرقة تقع عند انقضاء الاجل من غير طلاق.
    ثمّ نقل عن ابن عطيّة كيفيّة هذا النكاح وأحكام هذا النكاح (1).
    إذن أجمع السلف والخلف على أنّ هذا نكاح.
    فظهر إلى الان أنّ الكتاب يدل ، والسنّة تدل ، والاجماع قائم وهو قول الجمهور وإلى آخره.
    وكذا تجدون في تفسير الطبري ، ونقل عن السدّي وغيره في ذيل الاية : هذه هي المتعة ، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ، هذا في تفسير الطبري (2).
    وفي التمهيد لابن عبد البر يقول : أجمعوا على أنّ المتعة نكاح لا إشهاد فيه ، وأنّه نكاح إلى أجل ، تقع الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما.
    وهذا في كتاب التمهيد كتاب النكاح منه لابن عبد البر بشرح
1 ـ الجامع لاحكام القرآن 5 / 132.
2 ـ تفسير الطبري 5 / 9.


(18)
الموطأ (1).
    إذن ، ظهر إلى الان أنّ هذا التشريع والعمل به كان موجوداً في الاسلام ، وعليه الكتاب والسنّة والاجماع.
1 ـ التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والمسانيد لابن عبدالبر القرطبي 4 / 317.

(19)
    إذن ، من أين يبدأ النزاع والخلاف ؟ وما السبب في ذلك ؟ وما دليله ؟
    المستفاد من تحقيق المطلب ، والنظر في أدلّة القضيّة ، وحتّى تصريحات بعض الصحابة والعلماء ، أنّ هذا الجواز ، أنّ هذا الحكم الشرعي ، كان موجوداً إلى آخر حياة رسول الله ، وكان موجوداً في جميع عصر أبي بكر وحكومته من أوّلها إلى آخرها ، وأيضاً في زمن عمر بن الخطّاب إلى أواخر حياته ، نظير الشورى كما قرأنا ودرسنا.
    وفي أواخر حياته قال عمر بن الخطّاب في قضيّة ، قال كلمته المشهورة : متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما !! يعني متعة النساء ومتعة الحج ، وبحثنا الان في متعة النساء.


(20)
    تجدون هذه الكلمة في المصادر التالية : المحلى لابن حزم (1) ، أحكام القرآن للجصّاص (2) ، سنن البيهقي (3) ، شرح معاني الاثار للطحاوي (4) ، تفسير الرازي (5) ، بداية المجتهد لابن رشد (6) ، شرح التجريد للقوشچي الاشعري في بحث الامامة ، تفسير القرطبي (7) ، المغني لابن قدامة (8) ، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيّم الجوزيّة (9) ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (10) ، كنز العمّال (11) ، وفيات الاعيان لابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم (12) ، وسنقرأ القضيّة.
    ومن هؤلاء من ينصّ على صحّة هذا الخبر ، كالسرخسي
1 ـ المحلّى 7 / 107.
2 ـ أحكام القرآن 1 / 279.
3 ـ سنن البيهقي 7 / 206.
4 ـ شرح معاني الاثار : 374.
5 ـ تفسير الرازي 2 / 167.
6 ـ بداية المجتهد 1 / 346.
7 ـ تفسير القرطبي 2 / 370.
8 ـ المغني 7 / 527.
9 ـ زاد المعاد 2 / 205.
10 ـ الدر المنثور 2 / 141.
11 ـ كنز العمال 8 / 293.
12 ـ وفيات الاعيان 5 / 197.


(21)
الفقيه الكبير الحنفي في كتابه المبسوط في فقه الحنفيّة في مبحث المتعة (1) ومنهم أيضاً من ينصّ على ثبوت هذا الخبر ، كابن قيّم الجوزيّة في زاد المعاد ، وسنقرأ عبارته.
    صريح الاخبار : أنّ هذا التحريم من عمر ـ كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ـ كان في أواخر أيّام حياته ، ومن الاخبار الدالّة على ذلك : ما عن عطاء عن جابر قال : استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر ، استمتع عمرو بن حريث بامرأة سمّاها جابر فنسيتها ، فحملت المرأة ، فبلغ ذلك عمر ، فذلك حين نهى عنها.
    في أواخر حياته ، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر ، هذا نصّ الحديث.
    وهو في المصنّف لعبد الرزّاق (2) ، وفي صحيح مسلم (3) ، وفي مسند أحمد (4) ، وفي سنن البيهقي (5).
    وأمّا هذا التحريم فلم يكن تحريماً بسيطاً ، لم يكن تحريماً
1 ـ المبسوط في فقه الحنفية 5 / 153.
2 ـ المصنف لعبدالرزاق بن همام 7/469.
3 ـ صحيح مسلم بشرح النووي على هامش القسطلاني 6/127.
4 ـ مسند أحمد بن حنبل 3/304.
5 ـ السنن الكبرى 7/237.


(22)
كسائر التحريمات ، وإنّما تحريم وعقاب ، تحريم مع تهديد بالرجم.
    لاحظوا أنّه قال : لو أنّي بلغني أنّ أحداً فعل كذا ومات لارجمنّ قبره.
    وأيّ المحرّمات يكون هكذا ؟
    وفي بعض الروايات أنّه هدّد برجم من يفعل ، ففي المبسوط للسرخسي : لو أُوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ رجمته ، ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره (1).
    وحينئذ نرى بأنّ هذا التحريم لم يكن من أحد ، ولم يصدر قبل عمر من أحد ، وكان هذا التحريم منه ، وهذا من أوّليّات عمر بن الخطّاب.
    ويقال بأنّه جاء رجل من الشام ، فمكث مع امرأة ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليه فقال : ما حملك على الذي فعلته ؟ قال : فعلته مع رسول الله ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتّى قبضه الله ، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك (2).
1 ـ المبسوط في فقه الحنفية 5/153.
2 ـ كنز العمال 8/298.


(23)
    فإلى هذه اللحظة لم يكن نهي ، من هنا يبدأ النهي والتحريم.
    ولذا نرى أنّ الحديث والتاريخ وكلمات العلماء كلّها تنسب التحريم إلى عمر ، وتضيفه إليه مباشرة.
    فعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي.
    هذا في المصنّف لعبد الرزّاق (1) ، وتفسير الطبري (2) ، والدر المنثور (3) ، وتفسير الرازي (4).
    وعن ابن عبّاس : ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ، ولولا نهي عمر ما زنى إلاّ شقي.
    هذا في تفسير القرطبي (5).
    وفي بعض كتب اللغة يذكرون هذه الكلمة عن ابن عبّاس أو عن أمير المؤمنين ، لكن ليست الكلمة : إلاّ شقي ، بل : إلاّ شفى ، ويفسرون الكلمة بمعنى القليل ، يعني لولا نهي عمر لما زنى إلاّ قليل.
1 ـ المصنف لعبد الرزاق 7/500.
2 ـ تفسير الطبري 5/17.
3 ـ الدر المنثور 2/40.
4 ـ تفسير الرازي 3/200.
5 ـ الجامع لاحكام القرآن 5/130.


(24)
    ولم أحقّق الموضوع أنّ اختلاف النسخة هذا من أين ، ولم أتقصد ذلك ، ولم يهمّني كثيراً.
    المهم أنّ تحريم المتعة من أوّليات عمر بن الخطّاب في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي (1).
    فإلى هنا رأينا الجواز بأصل الشرع ، بالكتاب والسنّة والاجماع ، وإلى آخره ، ورأينا التحريم من عمر بن الخطّاب وفي آخر أيّام خلافته إلى الان ، ولابد أنّ بعض الصحابة اتّبعوه في هذا التحريم ، وفي مقابله كبار الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين سلام الله عليه ، إذ كان موقف هؤلاء موقفاً صارماً واضحاً في هذه المسألة.
    أمّا كلمة أمير المؤمنين فقرأناها : لولا نهي عمر لما زنى إلاّ شقي.
    ويقول ابن حزم : وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من السلف ، منهم ـ من الصحابة ـ :
    1 ـ أسماء بنت أبي بكر.
    2 ـ جابر بن عبدالله.
1 ـ تاريخ الخلفاء : 137.

(25)
    3 ـ وابن مسعود.
    4 ـ وابن عبّاس.
    5 ـ ومعاوية بن أبي سفيان.
    6 ـ وعمرو بن حريث.
    7 ـ وأبو سعيد الخدري.
    8 و 9 ـ وسلمة ومعبد ابنا أُميّة بن خلف.
    ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله [عبارة عامّة مطلقة : ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله ]ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.
    هذه عبارة ابن حزم ويقول : ومن التابعين :
    1 ـ طاووس.
    2 ـ وعطاء.
    3 ـ وسعيد بن جبير.
    4 ـ ... وسائر فقهاء مكّة أعزّها الله (1).
    أمّا القرطبي ، فذكر بعض الصحابة منهم : عمران بن حصين ، وذكر عن ابن عبد البر أنّ أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن
1 ـ المحلّى في الفقه 9/519.

(26)
كلّهم يرون المتعة حلالاً على مذهب ابن عبّاس (1).
    إذن ، ظهر الخلاف ، ومن هنا يبدأ التحقيق في القضيّة ، ولنا الحق في تحقيق هذه القضيّة أو لا ؟ وتحقيقنا ليس إلاّ نقل نصوص وكلمات لا أكثر كما ذكرنا من قبل.
    ولننظر في تلك الاحاديث والكلمات ، لنرى أنّ الحقّ مع من ؟
    كان شيء حلالاً في الشريعة الاسلاميّة ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يحرّمه ، وأبوبكر لم يحرّمه ، والصحابة لم يحرّموه ، وعمر أيضاً لم يحرّمه إلى أواخر أيّام حياته ، وقد عملوا بهذا الحكم الشرعي ، وطبّقوه في جميع هذه الادوار ، فماذا يقول العلماء في هذه القضيّة ؟
    أمّا علماء الاماميّة فيجعلون هذه القضيّة في جملة الموانع من صلاحيّة عمر بن الخطّاب للخلافة بعد رسول الله ، لانّ وظيفة الخليفة أن يكون حافظاً للشريعة لا مبدّلاً ومغيّراً لها.
    وقد قرأنا في كتاب المواقف وشرح المواقف وغير هذين الكتابين : أنّ من أهمّ وظائف الخليفة والامام بعد رسول الله المحافظة على الدين من الزيادة والنقصان ، ودفع الشبه والاشكالات الواردة عن الاخرين في هذا الدين.
1 ـ الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5/133.

(27)
    فيقول الاماميّة بأنّ هذه القضيّة من جملة ما يستدلّ بها على عدم صلاحيّة هذا الصحابي للخلافة بعد رسول الله.
    أمّا علماء أهل السنّة القائلون بخلافته وإمامته بعد أبي بكر ، فلابد وأن يجيبوا عن هذا الاشكال ، فلنحقق في أجوبة القوم عن هذا الاشكال الموجّه إلى خليفتهم.


(28)

(29)
    لقد ذكروا في الدفاع عن عمر بن الخطاب وعن تحريمه للمتعة ثلاثة وجوه ، ولم أجد أكثر من هذه الوجوه.
    الوجه الاوّل :
    إنّ المحرّم لمتعة النساء هو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فالمتعة كانت في حياته الكريمة محرّمة ، إلاّ أنّه لم يقل بهذا الحكم الشرعي للناس ولم يعلنه ، وإنّما أعلم به عمر بن الخطّاب فقط ، فلمّا تولّى عمر الامر ـ أي أمر الخلافة ـ أعلن عن هذا الحكم.
    هذا ما ينتهي إليه الفخر الرازي (1) بعد أنْ يحقّق في المسألة ، ويشرّق ويغرّب ، لاحظوا نصّ عبارته : فلم يبق إلاّ أن يقال : ـ أي الاقوال الاُخرى والوجوه الاُخرى كلّها مردودة في نظره ـ كان
1 ـ تفسير الرازي 2 / 167.

(30)
مراده ـ أي مراد عمر ـ أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهى عنها ، لما ثبت عندي أنّه ـ أي النبي ـ نسخها.
    والاصرح من عبارته عبارة النووي (1) في توجيه هذا التحريم يقول : محمول ـ أي تحريمه للمتعة ـ على أنّ الذي استمتع على عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ ، وإنّما بلغ النسخ عمر بن الخطّاب فقط.
    وكأنّ رسول الله همس في أُذن عمر بن الخطّاب بهذا الحكم الشرعي ، وبقي هذا الحكم عنده وحده إلى أن أعلن عنه في أواخر أيّام حياته.
    مناقشة الوجه الاوّل :
    أوّلاً : إنّه يقول : وأنا أنهى عنهما ، ولا يقول بأنّ رسول الله نسخ هذا الحكم وحرّمه وإنّي أُحرّم المتعة لتحريم رسول الله ، يقول : أنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما.
    وثانياً : هل يرتضي الفخر الرازي ويرتضي النووي ـ لاسيّما الفخر الرازي الذي يقول : لم يبق إلاّ أن يقال ، الفخر الرازي الذي
1 ـ المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، على هامش القسطلاني 6 / 128.
المتعة ::: فهرس