التوحيد ::: 256 ـ 270
(256)
بما كانوا يكسبون ) (1) فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ومرة يخبر أنهم يختصمون ، فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله عزوجل يقول : ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) (2) ويقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (3) ويقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ) (4) ويقول : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) (5) ومن أدركه الأبصار فقد أحاط به العلم ، فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تبارك وتعالى يقول :
    ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) (6) وقال : ( وكلم الله موسى تكليما ) (7) وقال : ( وناداهما ربهما ) (8) وقال :
    ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ) (9) وقال : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) (10) فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل ثناؤه يقول : ( هل تعلم له سميا ) (11) وقد يسمي الإنسان سميعا بصيرا وملكا وربا ، فمرة يخبر بأن له أسامي كثيرة مشتركة ، ومرة يقول : ( هل تعلم له سميا ) فأني ذلك يا أمير المؤمنين
1 ـ يس : 65.
2 ـ القيامة : 23.
3 ـ الأنعام : 103.
4 ـ النجم : 14.
5 ـ طه : 110.
6 ـ الشورى : 51.
7 ـ النساء : 164.
8 ـ الأعراف : 22.
9 ـ الأحزاب : 59.
10 ـ المائدة : 67.
11 ـ مريم : 65.


(257)
وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وجدت الله تبارك وتعالى يقول :
    ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) (1). ويقول : ( ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ) (2). ويقول : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) (3). كيف ينظر إليهم من يحجب عنهم (4) وأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله عزوجل يقول :
    ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ) (5) وقال : ( الرحمن على العرش استوى ) (6) وقال : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) (7) وقال : ( والظاهر والباطن ) (8) وقال : ( وهو معكم أين ما كنتم ) (9) وقال : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (10) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل ثناؤه يقول :
    ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) (11) وقال : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنا كم أول مرة ) (12) وقال : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) (13) وقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك بعض آيات ربك يوم
1 ـ يونس : 61.
2 ـ آل عمران : 77.
3 ـ المطففين : 15.
4 ـ نظره تعالى إليهم يستفاد التزاما من قوله : ( وما يعزب عن ربك ).
5 ـ الملك : 16.
6 ـ طه : 5.
7 ـ الأنعام : 3.
8 ـ الحديد : 3.
9 ـ الحديد : 4.
10 ـ ق : 16.
11 ـ الفجر : 22.
12 ـ الأنعام : 94.
13 ـ البقرة : 210.


(258)
يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) (1) فمرة يقول : يوم ( يأتي ربك ) ومرة يقول ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) فأنى ذلك أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل جلاله يقول : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) (2) وذكر المؤمنين فقال : ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم و أنهم إليه راجعون ) (3) وقال : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) (4) وقال : ( من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ) (5) وقال : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) (6) فمرة يخبر أنهم يلقونه ، ومرة أنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ومرة يقول : ( ولا يحيطون به علما ) فأنى ذلك أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تبارك وتعالى يقول :
    ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) (7). وقال : ( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) (8) وقال : ( وتظنون بالله الظنونا ) (9) فمرة يخبر أنهم يظنون ومرة يخبر أنهم يعلمون ، والظن شك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ما شككت فيه قال : وأجد الله تعالى يقول : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا ) (10) وقال : ( فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا ) (11) وقال :
    ( فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) (12) وقال : ( والوزن يومئذ الحق
1 ـ الأنعام : 158.
2 ـ السجدة : 10.
3 ـ البقرة : 46.
4 ـ الأحزاب : 44.
5 ـ العنكبوت : 5.
6 ـ الكهف : 110.
7 ـ الكهف : 53.
8 ـ النور : 25.
9 ـ الأحزاب : 10.
10 ـ الأنبياء : 47.
11 ـ الكهف : 105.
12 ـ المؤمن : 40.


(259)
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون
) (1) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
    قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تعالى يقول : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ) (2) وقال : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) (3) وقال : ( توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) (4) وقال : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) (5) وقال : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) (6) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع ، وقد هلكت إن لم ترحمني وتشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك ، فإن كان الرب تبارك وتعالى حقا والكتاب حقا والرسل حقا فقد هلكت وخسرت ، وإن تكن الرسل باطلا فما علي بأس وقد نجوت.
    فقال علي عليه السلام : قدوس ربنا قدوس تبارك وتعالى علوا كبيرا ، نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول ، ولا نشك فيه ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأن الكتاب حق والرسل حق ، وأن الثواب والعقاب حق ، فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله ، إن شاء رزقك وإن شاء حرمك ذلك ، ولكن سأعلمك ما شككت فيه ، ولا قوة إلا بالله ، فإن أراد الله بك خيرا أعلمك بعلمه و ثبتك ، وإن يكن شرا ضللت وهلكت.
    أما قوله : ( نسوا الله فنسيهم ) إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا ، لم يعلموا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عزوجل : ( فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين
1 ـ الأعراف : 9.
2 ـ السجدة : 11.
3 ـ الزمر : 42.
4 ـ الأنعام : 61.
5 ـ النحل : 32.
6 ـ النحل : 28.


(260)
آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب ، وأما قوله : ( وما كان ربك نسيا ) فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب في باب النسيان : قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به ، فهل فهمت ما ذكر الله عزوجل ، قال : نعم ، فرجت عني فرج الله عنك وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) وقوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) وقوله : ( يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) وقوله : ( إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) وقوله : ( لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ) وقوله : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، يجمع الله عزوجل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون ، ويكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا للرؤساء والاتباع (1) ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا (2) والكفر في هذه الآية البراءة ، يقول : يبرء بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) (3) وقول إبراهيم خليل الرحمن : ( كفرنا بكم ) (4) يعني تبرأنا منكم ، ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك
1 ـ الرؤساء من أهل الحق. والاتباع مصدر عطف على الطاعة.
2 ـ قوله : ( ويلعن أهل المعاصي ) عطف على يجمع ، وفاعله ضمير راجع إلى الله عزوجل ، وأهل المعاصي مفعوله ، والموصول صفة لأهل المعاصي ، المستكبرين والمستضعفين صفتان بعد صفة ، ويكفر ويلعن حالان للمفعول.
3 ـ إبراهيم عليه السلام : 23.
4 ـ الممتحنة : 4.


(261)
الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم ، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ، فلا يزالون يبكون الدم ، ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم و يستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية كانت منهم ، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم : ( لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) (1) ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيفر بعضهم من بعض ، فذلك قوله عزوجل : ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه ) (2) فيستنطقون فلا يتكلمون إلا ن أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن فذلك قوله ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) (3) ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المقام المحمود ، فيثني على الله تبارك وتعالى بما لم يثن عليه أحد قبله ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد قبله ، ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة يبدء بالصديقين والشهداء ثم بالصالحين ، فيحمده أهل السماوات والأرض ، فذلك قوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) (4) فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ ، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب ، ثم يجتمعون في موطن آخر ويدال بعضهم من بعض (5) وهذا كله قبل الحساب ، فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه ،
1 ـ فصلت : 21.
2 ـ عبس : 36.
3 ـ النساء : 41.
4 ـ الإسراء : 79.
5 ـ من الأدالة بمعنى نزع الدولة من أحد وتحويله إلى آخر ، يقال : أدال الله زيدا من عمرو أي نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد ، أو معنى رد الكره للمغلوب على الغالب ، يقال : أدال الله بني فلان من عدوهم أي رد الكرة لهم على عدوهم ، وفي نسخة ( ط ) ( ويدال بعضهم لبعض ).


(262)
نسأل الله بركة ذلك اليوم ، قال : فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
    فقال عليه السلام : وأما قوله عزوجل : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقوله : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) وقوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) وقوله ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) فأما قوله : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عزوجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا (1) فيذهب عنهم كل قذى ووعث ، ثم يؤمرون بدخول الجنة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنة ، فذلك قوله عزوجل من تسليم الملائكة عليهم : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) (2) فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله : ( إلى ربها ناظرة ) وإنما بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وأما قوله : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) فهو كما قال : ( لا تدركه الأبصار ) يعني لا تحيط به الأوهام ( وهو يدرك الأبصار ) يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير ، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علوا كبيرا ، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من حمد الله عزوجل ( رب أرني أنظر إليك ) (3) فكانت مسألته تلك أمرا عظيما وسأل أمرا جسيما فعوقب ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة (4) ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا
1 ـ في نسخة ( ب ) و ( د ) ( ويشربون من آخر فتبيض وجوههم ـ الخ ).
2 ـ الزمر : 73.
3 ـ الأعراف : 143.
4 ـ برؤية ثوابه أو رؤية عظمته وسلطانه أو رؤية القلب لأن الاجماع والآيات والأخبار وأدله العقل على أنه تعالى لا يرى رؤية العين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا في النوم ولا في اليقظة ولا في غير ذلك.


(263)
فانظر ( إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) فأبدى الله سبحان بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وخر موسى صعقا ، يعني ميتا فكان عقوبته الموت (1) ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه ، فقال : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك ، وأما قوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدره المنتهى ) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله (2) وقوله في آخر الآية : ( ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى (3) وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين (4).
    وأما قوله : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) لا يحيط الخلائق بالله عزوجل علما إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء ، فلا فهم يناله بالكيف ، ولا قلب يثبته بالحدود ، فلا يصفه إلا كما وصف نفسه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، الخالق البارئ المصور ، خلق الأشياء
1 ـ هذا بظاهره يعارض دلائلنا على أن الأنبياء لا يعاقبون لأنهم عليهم السلام معصومون فنرفع اليد عنه ، إلا أن يراد بالعقوبة معناها اللغوي أي ما يقع عقيب شيء ، فقد وقع صعقة موسى بعد تجلي الرب ، كما كان يغشى على نبينا صلى الله عليه وآله حين تجلى الرب تعالى له على ما أشير إليه في الحديث الخامس عشر من الباب الثامن ، وليس في نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) ( يعني ميتا فكان عقوبته الموت ).
2 ـ في نسخة ( ج ) و ( ط ) و ( ن ) ( يعني محمدا صلى الله عليه وآله حيث لا يتجاوزها ـ الخ ) وفي حاشية نسخة ( ب ) و ( د ) ( يعني محمدا صلى الله عليه وآله حين يرى ربه كان عنده سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها ـ الخ ).
3 ـ في نسخة ( ط ) ( رأى حين يرى ربه عند سدرة المنتهى جبرئيل عليه السلام في صورته ـ الخ ).
4 ـ في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وذلك أن خلق جبرئيل عظيم من الروحانيين ـ الخ ).


(264)
فليس من الأشياء شيء مثله تبارك وتعالى ، فقال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وما كان لبشر أن يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) وقوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) و قوله : ( وناداهما ربهما ) وقوله : ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) فأما قوله ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) فإنه ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا وليس بكائن إلا من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، كذلك قال الله تبارك وتعالى علوا كبيرا ، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء فيبلغ رسل السماء رسل الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرئيل هل رأيت ربك (1) فقال جبرئيل : إن ربي لا يرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فمن أين تأخذ الوحي ؟ فقال : آخذه من إسرافيل فقال : ومن أين يأخذه إسرافيل ؟ قال : يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين ، قال : فمن أين يأخذه ذلك الملك ؟ قال : يقذف في قلبه قذفا ، فهذا وحي ، وهو كلام الله عزوجل ، وكلام الله ليس بنحو واحد ، منه ما كلم الله به الرسل ، ومنه ما قذفه في قلوبهم ، ومنه رؤيا يريها الرسل ، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ ، فهو كلام الله ، فاكتف بما وصفت لك من كلام الله ، فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما يبلغ به رسل السماء رسل الأرض ، قال : فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( هل تعلم له سميا ) فإن تأويله هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله تبارك وتعالى ، فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء ، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله ، وتأويله لا يشبه كلام ـ
1 ـ ليس سؤالا عن جهل ، بل هو مقدمة لسؤاله عن كيفية أخذ الوحي نظير قول الحواريين لعيسى : ( هل يستطيع ربك ـ الخ ) بل السؤال الثاني أيضا ليس عن جهل.

(265)
البشر ، كما ليس شيء من خلقه يشبهه ، كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئا من أفعال البشر ، ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر ، فكلام الله تبارك وتعالى صفته (1) وكلام البشر أفعالهم ، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضل ، قال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذره في الأرض ولا في السماء ، كذلك ربنا لا يعزب عنه شيء ، وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلاق العليم. وأما قوله : ( لا ينظر إليهم يوم القيمة ) يخبر أنه لا يصيبهم بخير ، وقد تقول العرب : والله ما ينظر إلينا فلان ، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير ، فذلك النظر ههنا من الله تعالى إلى خلقه ، فنظره إليهم رحمة منه لهم ، وأما قوله : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون قال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ) وقوله : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) وقوله : ( الرحمن على العرش استوى ) وقوله : ( وهو معكم أينما كنتم ) وقوله : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحا قدوسا ، تعالى أن يجري منه ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف الخبير ، وأجل وأكبر أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه وهو على العرش استوى علمه ، شاهد لكل نجوى ، وهو الوكيل على كل شيء ، والميسر لكل شيء ، والمدبر للأشياء كلها ، تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وقوله : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ، قوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم
1 ـ لم يرد به أنه من صفات ذاته لأن أخبارنا تنفي ذلك كالحديث الأول من الباب الحادي عشر ، بل المراد أن كلامه ليس ككلامنا بالحركة والتردد في النفس والتقطيع بالمخارج.

(266)
الله في ظلل من الغمام والملائكة ) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) فإن ذلك حق كما قال الله عزوجل ، و ليس له جيئة كجيئة الخلق ، وقد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله تأويله على غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر ، وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله ، من ذلك قول إبراهيم عليه السلام : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) (1) فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عزوجل ، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله ، وقال ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) (2) يعني السلاح وغير ذلك ، وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) يخبر محمدا (3) صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله وللرسول ، فقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله ( أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى ، فهذا خبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، ثم قال : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) يعني من قبل أن يجيئ هذه الآية ، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها ، وإنما يكتفي أولوا الألباب والحجى وأولوا النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون ، وقال : في آية أخرى : ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) (4) يعني أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم قال الله عزوجل : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) (5) فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب عليهم ، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوا كبيرا أنه يجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة كما يجري أموره في الدنيا لا يغيب (6) ولا يأفل مع الآفلين ، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما جال
1 ـ الصافات : 99.
2 ـ الحديد : 25.
3 ـ أي يخبر الله بقوله هذا محمدا صلى الله عليه وآله عن المشركين ـ الخ.
4 ـ الحشر : 2.
5 ـ النحل : 26.
6 ـ في نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) و ( ب ) ( لا يلعب ).


(267)
في صدرك مما وصف الله عزوجل في كتابه ، ولا تجعل كلامه ككلام البشر ، هو أعظم وأجل وأكرم وأعز تبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عزوجل : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (1) قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) وذكر الله المؤمنين ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) وقوله لغيرهم : ( إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ) (2) وقوله : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) فأما قوله : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) يعني البعث فسماه الله عزوجل لقاءه ، وكذلك ذكر المؤمنين ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب ، فالظن ههنا اليقين خاصة ، و كذلك قوله : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) وقوله : ( من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ) يعني : من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب والعقاب ، فاللقاء ههنا ليس بالرؤية ، واللقاء هو البعث ، فافهم جميع ما في الكتاب من لقائه فإنه يعني بذلك البعث ، وكذلك قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) يعني أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون ، قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك ، فقد حللت عني عقدة.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) يعني أيقنوا أنهم داخلوها ، وكذلك قوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) يقول إني أيقنت أني أبعث فأحاسب ، وكذلك قوله : ( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) وأما قوله للمنافقين : ( وتظنون بالله الظنونا ) فهذا الظن ظن شك وليس ظن يقين ، والظن ظنان : ظن شك وظن يقين ، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك فافهم ما فسرت لك ، قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ التوبة : 77.


(268)
    فقال عليه السلام : وأما قوله تبارك وتعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا ) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك و تعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين.
    وفي غير هذا الحديث الموازين هم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام (1).
    وأما قوله عزوجل : ( فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا ) فإن ذلك خاصه.
    وأما قوله : ( فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله عزوجل : لقد حقت كرامتي ـ أو قال : مودتي ـ لمن يراقبني ويتحاب بجلالي (2) إن وجوههم يوم القيامة من نور على منابر من نور عليهم ثياب خضر ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : قوم ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، ولكنهم تحابوا بجلال الله ويدخلون الجنة بغير حساب ، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم برحمته.
    وأما قوله : فمن ثقلت موازينه وخفت موازينه فإنما يعني الحساب ، توزن الحسنات والسيئات ، والحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان.
    فقال عليه السلام : وأما قوله : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ) وقوله : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) وقوله : ( توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) وقوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) وقوله :
    ( تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ) فإن الله تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء ، ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء. أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصة من يشاء من خلقه ، ويوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه ، والملائكة الذين سماهم الله عز ذكره وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه ، إنه تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء ، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن منهم القوي والضعيف ، ولأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله إلا من يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه ، وإنما يكفيك أن تعلم
1 ـ قوله : ( وفي غير هذا الحديث ) إلى هنا من كلام المصنف.
2 ـ الترديد من الراوي ، أو كلمة أو للتخيير لوقوع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله مرتين : مرة حقت كرامتي ومرة حقت مودتي.


(269)
أن الله هو المحيي المميت وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم ، قال : فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين ونفع الله المسلمين بك (1).
    فقال علي عليه السلام للرجل : إن كنت قد شرح الله صدرك بما قد تبينت لك فأنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة من المؤمنين حقا ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين كيف لي أن أعلم بأني من المؤمنين حقا ؟ قال عليه السلام : لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عزوجل على رسله وأنبيائه ، قال : يا أمير المؤمنين ومن يطيق ذلك ؟ قال : من شرح الله صدره ووفقه له ، فعليك بالعمل لله في سر أمرك وعلانيتك فلا شيء يعدل العمل.
    قال مصنف هذا الكتاب : الدليل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك أنهما لو كانا اثنين لم يخل الأمر فيهما من أن يكون كل واحد منهما قادرا على منع صاحبه مما يريد أو غير قادر ، فإن كان كذلك فقد جاز عليهما المنع ومن جاز عليه ذلك فمحدث كما أن المصنوع محدث ، وإن لم يكونا قادرين لزمهما العجز و النقص وهما من دلالات الحدث ، فصح أن القديم واحد.
    ودليل آخر وهو أن كل واحد منهما لا يخلوا من أن يكون قادرا على أن يكتم الآخر شيئا ، فإن كان كذلك فالذي جاز الكتمان عليه حادث ، وإن لم يكن قادرا فهو عاجز والعاجز حادث لما بيناه ، وهذا الكلام يحتج به في إبطال قديمين صفة كل واحد منهما صفة القديم الذي أثبتناه ، فأما ما ذهب إليه ماني وابن ديصان من خرافاتهما في الامتزاج ودانت به المجوس من حماقاتها في أهرمن ففاسد بما يفسد به قدم الأجسام ، ولدخولهما في تلك الجملة اقتصرت على هذا الكلام فيهما ولم أفرد كلا منهما بما يسأل عنه منه.
    6 ـ حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي الله عنه ،
1 ـ في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وأمتع الله المسلمين بك ).

(270)
بنيسابور سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ، قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : سمعت الفضل بن شاذان يقول : سأل رجل من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، وأنا حاضر فقال له : إني أقول : إن صانع العالم اثنان ، فما الدليل على أنه واحد ؟ فقال : قولك : إنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد ، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه (1).

    1 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار ، عن محمد بن أحمد ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن حماد ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن هشام بن الحكم ، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له : بريهة ، قد مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة (2) وكان يطلب الإسلام و يطلب من يحتج عليه ممن يقرء كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته ، قال :
    وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس حتى افتخرت به النصارى وقالت : لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لأجزأنا ، وكان طالبا
1 ـ مراده عليه السلام أن على مدعي التعدد أن يأتي بالبرهان عليه ولا برهان له ، فالواحد مقطوع ، والزائد لا يصار إليه حتى يبرهن عليه ، قال الله تعالى ، : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح الكافرون ).
2 ـ الجاثليق صاحب مرتبة من المراتب الدينية النصرانية ، وبعدها مراتب أسماؤها :
    مطران : أسقف ، قسيس ، شماس ، وقبل الجاثليق مرتبة اسم صاحبها بطريق ، والكلمات سريانية ، وقوله : جاثليق النصرانية بالنصب حال من فاعل مكث أي مكث بريهة سبعين سنة حال كونه صاحب هذه المرتبة في النصرانية.
التوحيد ::: فهرس